يقال في روسيا: تولستوي لاينتقل للقاء القيصر, بل القيصر هو الذي ينتقل للقاء تولستوي بهذا القدر كان حجم الأديب والمفكر الروسي الكبير ليو تولستوي. الذي احتفل العالم في شهر نوفمبر بمرور مائة عام علي وفاته,والذي وصفته زوجته صوفي تولستوي بأنه الروح الكبري لروسيا, ووصف نفسه بأنه الرجل العبقري الذي أراد أن يخاطب الرجل العادي وكأنه أخوه. وبهذه المناسبة صدر في باريس العديد من السير الذاتية للأديب الروسي الكبير, تتحدث عن الرجل وعن العبقرية, عن الانسان وعن الزوج, وتكشف خبايا العبقرية ليظهر الرجل العادي الذي يكمن في الداخل, ولايراه القيصر أو القارئ, ولكن تراه الزوجة وحدها. واحدة من السير التي صدرت هذا الشهر في باريس للكاتبة كريستيان رانسيه بعنوان تولستوي, خطوة العملاق, عن دار نشر سويي الفرنسية, وفيها رفعت رانسيه تولستوي من مستوي الانسان ليصبح في نظرها أكبر من الحياة نفسها, جسديا وروحيا وفكريا, فقد حباه الله بجسد يتناسب مع حجم عبقريته, فهو ضخم البنيان والأطراف والسمات, ولكن كما رأت فيه رانسيه العبقرية, رأت أيضا الانسان الضعيف الذي فقد أمه وهو في عامه الأول, وعاني كثيرا لهذا السبب, فكتب يقول: لا أتذكر أمي علي الاطلاق, فقد كنت أبلغ عاما ونصفا من عمري عندما توفيت وبالمصادفة الغريبة, لم يكن هناك أي صورة لها, بحيث إنني لم أستطع أن أقوم بتكوين شكل جسدي لها في ذهني, فهل هناك شخصان في قلب تولستوي الرجل؟ تقول رانسيه إنها أرادت في كتابها أن توضح انه ليس هناك انفصام بين رجلين, ولكنه شخص واحد مر بتجارب عديدة في حياته, وانتقل من مرحلة إلي أخري بكل ما فيها من تغييرات جذرية ونفسية عميقة, فقررت رانسيه أن تذهب في رحلة بحثية داخل الانسان, في محاولة لأن تقيم التصالح بين الرجلين, اللذين اعتبرا دوما, غير متوافقين. فهو الرجل الذي ولد في عائلة ارستقراطية, ولكنه كان يكتب عن الرجل العادي ويخاطبه كأنه أخوه, وهو الجندي الذي شارك في حرب القرم, ولكنه دعا إلي عدم مواجهة العنف بالعنف, سافر كثيرا وكتب كثيرا ولم يعد هناك مكان في روسيا لايعرفه, وفي ملحمته الحرب والسلام عبر تولستوي عن رفضه للهزيمة, واختياره للحياة, ورفضه للعدم واختياره للنور في هذا العمل الضخم, تري رانسيه ان تولستوي جعل الانسان ينتصر علي التاريخ, فأكد بذلك حبه للحياة. ولكن هذا الحب للحياة ظل يتأرجح مابين الحزن والقلق والرعب والوحدة القاسية هل كان لزوجته دور في هذه النهاية الحزينة؟ الكونتيسه صوفيا تولستوي كانت زوجة متفانية, فقد كانت دائما أول قارئة له, تنظم أوراقه وتصحح النصوص وتعيد كتاباتها بالرغم من مشغولياتها في العناية بالضيعة وبأطفالهما الثلاثة عشر, ولكنها عندما قرأت كتابه سوناتا إلي كروتزير شعرت بأنها هي المعنية بالرواية. كانت الرواية أقوي من مجرد سوناتا, فقد وصفها البعض بأنها عمل متوحش موجه ضد المجتمع ومؤسسة الزواج ككل, إلي حد أنه جعل تولستوي نفسه يعترف بأنه شعر بالرعب الحقيقي بعدما انتهي منه. ولكن صوفيا تولستوي لم تستطع أن تصمت إزاء الهجوم الشرس والذي شعرت أنها هي المستهدفة منه, فكتبت ردا في كتاب بعنوان من المذنب؟ قصة إمرأة ولكنها لم تنشره, وظل الكتاب خافيا لأكثر من مائة عام, وعندما نشر وترجم إلي الفرنسية أخيرا عن دار آلبان ميشال, قام النقاد والقراء بعملية مقارنة مابين الكتابين, ليجدا أن كل من ليو تولستوي وصوفيا اتفقا علي شئ أساسي, وهو رفض مؤسسة الزواج بكل ما فيها من نفاق, لذلك جاء قرار تولستوي بالخروج من بيت الزوجية, وإطلاق روحه حرة من كل قيود, وبعد شهرين مات العملاق وحيدا في محطة قطارات.