" الزيجات السعيدة تتشابه كلها، أما التعيسة فلكل منها طريقتها". هذه هي بداية آنا كارنينا، التعيسة، لكن الأتعس منها اكتشاف أن مؤلفها وزوجته التي بيضتها له كانا يقضيان حياة شقية أثناء ذلك. ليف تولستوي( 1828- 1910) وزوجته صوفيا أندريفنا، المشهورة أيضاً باسم سونيا تولستوي، كانا من الممكن أن يكونا سعيدين وربما كانا كذلك في بعض السنوات، لكنهما نهيا حياتهما في قمة التعاسة الزوجية. هذا هو مضمون مذكرات سونيا تولستوي، والتي صدرت ترجمتها حديثاً في اللغة الإسبانية، وأثارت الكثير من الجدل حول الوجه الآخر للكاتب الروسي الشهير. تحكي سونيا أنهما تزوجا في عام 1862، عندما كانت كل الطرق تبدو مفتوحة. كانت هي صبية في الثامنة عشرة، من بيت ثري مليء بالأخوات والبهجة، وتعلمت بما يليق بروسيا وبأسرة جيدة في القرن التاسع عشر، تعلمت الفرنسية والبيانو والقواعد اللغوية والهندسة والخياطة والإتيكيت. أما ليف تولستوي فكان في الرابعة والثلاثين، رجلاً وسيماً (لكنه غير مستقيم) كان يريد أن يترك خلف ظهره فشل بدايات الشباب( فشل في الجامعة، خسارات في القمار، قصص عشق في بيوت دعارة، 0كتابة متفردة لكنها لم تبرق بعد) وأن يريح رأسه في أكثر الطرق تقليدية: الحياة الزوجية، أو بمعني أدق، زوجة ترعي له بيته وتمسك بزمام تهوره وطيشه. كانت ساذجة وعذراء، لم تكن تعرف الرجال ولا العالم، لكن قبل الزفاف أراد ليف أن يخضعها لأول معاملة تصدم براءتها. كان شرطاً: سيتزوجان فقط بعد أن تقرأ مذكرات شبابه، التي حكي فيها بالتفصيل كل حماقاته، كل أحلامه الغريبة، كل مشاريعه الأدبية وكل ما شاهده كشاب نبيل وجذاب يوقع بالصبايا البرجوازيات وتحمل منه الصبايا الفلاحات. قرأت مذكراته بقرف وخوف، ورغم صدمتها وافقت. تركت موسكو ورحلت لتعيش معه في وسط أراضي الكونت تولستوي، علي بعد 200 كيلومتر من العاصمة. أنجبا 13 ابناً، وأرضعتهم جميعاً وربتهم وعلمتهم الدروس الأولي. كانت هي راعية الأطفال ومديرة البيت والمكلفة بالمطبخ الواقع". حتي الوقت القليل الذي يتبقي لها من يومها الطويل كانت تكرسه لتبييض كتاباته اليومية. كان الكونت يترك مخطوطه علي مكتبه عند الظهيرة، بكتابات علي هامشه وخطوط رأسية وأفقية وشطب ومسح. وفي الصباح التالي، فوق نفس المكتب، كما لو كان بفن السحر، كان يجده مكتوباً من جديد، منظماً وبخط حسن. ليكتب نصاً جديداً ولتعاود هي مهمتها. بعد زواجها، كما حدث بعد ذلك في كل عائلة تولستوي، جلست صوفيا لتكتب يومياتها. فكتبت حينئذ:"لماذا لا توجد نساء عبقريات؟ لا كاتبات ولا رسامات ولا ملحنات، كل عاطفة المرأة، وكل طاقتها، تهدر في الأسرة، في الحب، في الزوج، وفوق كل شيء في الأولاد. أما القدرات الأخري فتتوقف، لا تتطور، تبقي خامدة. تقول صوفيا في مذكراتها عن "الحرب والسلام" :" أتذكر كيف كنت أنتظر، بعد عمل ليف اليومي، وبكل شوق لأسرع لنسخ ما كتبه، لأجد عنده دوماً جمالاً جديداً. لكن عند النسخ العاشر لنفس المخطوط لم أجد شيئاً جديداً. هذا يقتلني الآن. يجب أن أبدأ من جديد لنفسي، إن أردتُ ألا تذبل روحي". وبينما كان تولستوي مشغولاً بكتابته العظيمة، كانت هي، بالإضافة للنسخ، تلد ثلاثة أطفال وترعاهم. والخدمة. كانت بالنسبة لزوجها" سفيرة كان لتولستوي آراؤه الخاصة في مهمة المرأة في الحياة :" الأمومة هي حياتهن الحقيقية، مهمتهن العظيمة، رغم أنهن يتخيلن أنها تمنعهن عن العيش". رغم أن الرجل صاحب التأملات الأخلاقية لا يذكر في رواياته هذه النظرة الذكورية. علي العكس، شخصياته النسائية كاملة، متمردة، مليئة بالحياة والتناقضات. المرأة التي عاشت لأجله كانت مهمشة في حياته، فمشاريعه لم تكن فقط كتابية، بل أيضاً سياسية ودينية واجتماعية. في تلك الفترة ظهرت " الأسطورة السوداء" لصوفيا تولستوي. ووصفها الكثيرون بأنها امرأة برجوازية ذات نظرة ضيقة، أنانية، متسلطة، تريد أن تقص له جناحيه وتحول العبقري إلي رجل عادي . هنا تحولت حياتهما إلي جحيم، سجلته الرسائل واليوميات والشهادات. وفي مذكراتها، تبدو صوفيا امرأة كريمة، عشقت زوجها بجنون، لكنها فقدت عقلها عندما وجدته يهرب منها، فصارت غيورة حتي من بناتها. كتبت في مذكراتها:" كنت قبل ذلك أنسخ ما يكتبه وكان هذا يسعدني. الآن يعطي كتابته لبناته ويدارينها عني بحرص. هذا يقتلني بالبطيء، لأنه يسحبني من حياته الشخصية، وهذا يؤلمني بشكل لا يطاق. في هذه الحياة، تمكن مني اليأس العنيف". كل عائلة تولستوي كانت تكتب يومياتها، هنا قرأ صاحب "الحرب والسلام" يوميات زوجته التي حكت فيها عن حبها الأفلاطوني لموسيقار. بينما أعلنت هي أن قرب تولستوي من سكرتيره الخاصة لا يعني سوي علاقة مثلية. كان تولستوي يكتب ثلاث يوميات، الأولي للجمهور، وليشبع فضول زوجته، والثانية لنفسه، وهو ما كان يخبئه ويحمله في حذائه، والثالثة"السرية" كان يخيطها في معطفه. وذات يوم اكتشفت السرية، فظلت تفك الخياطة وتقرأها وتعيد الخياطة من جديد، ويصيبها حالة هيستيريا وتهديد بالانتحار. كتبت صوفيا :" أنا لست غاضبة لأنه يداري عني ما يكتبه، لكن المفترض أن يداريه عن الجميع. يستفزني أن يسمح لسكرتيره ولصاصا وغيرهما بقراءته، وأنا لا، أنا زوجته. إنه يكيلني السباب ويهجرني أمام الجميع. وهذا وحشي وفظيع". علق تولستوي علي هذا الجزء بقوله:" لقد دمرت مذكراتي، أنا أكتب وأنا أفكر أنها من الممكن أن تقرأني. ولو عادت لتقرأ يومياتي، فلتعتقد بما تريد. أنا لا يمكن أن أكتب وأنا أفكر فيها أو في قراء مستقبليين، كما لو كنت أعد نوعاً من شهادات حسن السير والسلوك". نهاية الحكاية كانت محزنة ومعروفة. بعد 48 عاماً من الحياة المشتركة، وعندما بلغ تولستوي الثانية والثمانين ، وفي ليلة السابع والعشرين من أكتوبر عام 1910، استيقظ مفزوعاً. فزوجته، التي أحبته وكرهته ( بعاطفة متأججة في الحالتين) كانت تقلب من جديد في أوراقه. حينها قال إنه لم يعد يحتمل، وفي نفس هذه الساعة، الرابعة فجراً، رحل في هروبه الأخير. وعندما استيقظت صوفيا في الصباح وجدت خطاب الوداع، فحاولت الانتحار وأنقذوها. حاول تولستوي الاختباء في مكان مجهول، في رحلة مأساوية، متعبة، بين قطارات وعربات. أثناء غيابه وقع مريضاً وساءت حالته في الأيام التالية ومات في محطة أستابوفو، صباح العشرين من نوفمبر. بعدها، لم تعان صوفيا من الهيستيريا، استعادت شجاعتها وهجرت محاولات الانتحار، وبعد تسع سنوات كتبت سيرتها الذاتية.