هذه حكاية امرأة أحبها وعشقها ووقع في غرامها ثلاثة رجال.. كل منهم لديه حكاية خاصة معها.. والحكايات الثلاث تروي معها جوانب مختلفة من شخصيتها الجذابة والمحيرة معا..فمن تكون هذه المرأة؟!ما أعذب أن تقرأ سطور التاريخ عبر عمل أدبي راق.. وما أجمل أن تقبض بيديك علي تفاصيل صغيرة عديدة وملاحظات حياتية خاصة مختلفة تعرض لحقبة ما في حياة الوطن. هذه الرواية( ثلاثة رجال) لكاتبها النمساوي فالتر جروند تحكي عبر سطورها حكاية امرأة نمساوية وقع في هواها الخديو عباس حلمي الثاني ما إن رآها وهو يدرس في النمسا وهو بعد لايزال أميرا.. دق قلبه.. وعشقها.. ودعاها إلي زيارة مصر.. فلبت دعوته علي الفور, تاركة حياتها خلف ظهرها. وعاشت جاويدان هانم كما لقبها الخديو عباس في رحاب الحرملك.. وتعرفت عن قرب علي حياة القصور الداخلية. هناك.. في أرجاء هذه الغرف والصالونات الفارهة الأنيقة, شاهدت( جمال الحياة) و(طغيان البشر).. تعرفت علي أغا إسماعيل( ظل الخديو) الذي يعيش مع الحريم في قلب الحرملك. هذا الرجل الذي( فقد رجولته), والذي يخالط نساء القصر ويتبع خطواتهن أينما سرن, نراه هنا في الرواية عبر فصلها الأول الذي يحمل عنوان( إسماعيل) يروي حكاية( جاويدان هانم) مع الخديو.. لقد شاهد هذا الرجل ما لم يشاهده بشر.. عاش تفاصيل علاقتهما معا.. تعرف علي جنون هذه المرأة.. ولعها.. شبقها.. جموحها.. إيمانها الشديد بالحرية.. تناقضاتها.. ذكائها المتقد.. ثقافتها.. طارحا عبر رؤاه وملاحظاته هذه صورة من صور الحياة الخاصة في فترة زمنية من حياة مصر( بدايات القرن العشرين) ليس عبر الأحداث التاريخية الكبيرة, ولكن عبر الأحداث الخاصة الصغيرة.. عبر حياة الملوك والأمراء خلف الأسوار. في الفصل الثاني من الرواية وعنوانه( الروائي) نعيش مع هذه المرأة في فترة مختلفة من حياتها. نحن الآن في فيينا, حيث المقاهي الثقافية.. الحفلات الموسيقية.. والأمسيات الشعرية.. واللقاءات الأدبية. المرأة النمساوية لها حضور طاغ هنا.. جاويدان هانم تحضر هذه اللقاءات الثقافية المميزة, وتترك دوما خلفها بصمة في رحابها. يراها الروائي يوما برفقة الخديو عباس, فيقع هو الآخر في غرامها.. ويعرض هنا في فصول الرواية بقلمه لشخصيتها الماجنة.. المؤثرة.. شديدة الجاذبية.. صاحبة الحضور الخاص.. المؤمنة بمبدأ الحرية.. المتناقضة. هذه المرأة التي أدارت الرءوس والظهور, وذهبت بالعقول.. وفي الفصل الثالث والأخير, نعيش مع( فيليب ج), ونعيش في الوقت نفسه مع فصل آخر من حياة هذه المرأة الساحرة.. أحبها الرجل بجنون, رغم أنه يصغرها بنحو أربعين عاما. من يصدق هذا؟ عشقها وهي في التسعين من العمر.. ها هو يصف لحظات الحب والوله معها تماما, كما لو كانت امرأة في العشرين. وحينما فارقت الحياة, كتب فوق سطح قبرها اسمها واسمه معا, وكأنه فارق هو الآخر الحياة. قصة حب فريدة.. أليس كذلك؟! وبعد.. هذه حكاية ثلاثة رجال أحبوا امرأة واحدة حتي الجنون.. كل بطريقته الخاصة.. وتظل دوما هذه المرأة الجذابة المحيرة فضاء خصبا للتأمل والتفكير.. يقول الدكتور طارق عبدالباري, أستاذ الترجمة وتاريخ الأدب الألماني والحضارة بكلية الألسن جامعة عين شمس, والذي قام بترجمة الرواية من الألمانية إلي العربية: لم أتردد لحظة واحدة في ترجمة هذه الرواية البديعة.. فأنا مولع في الحقيقة بالروايات التاريخية التي تحمل في سطورها أساسا من الواقع, ومهتم في الوقت نفسه بالإجابة عن هذا السؤال الذي طالما شغلني: كيف يرانا الآخر؟ الكاتب النمساوي فالتر جروند قام ببحث تاريخي وعلمي علي أعلي مستوي, كي ينقل للقارئ هذه الأجواء الخاصة, والمناخ العام الذي عايشته مصر في تلك الحقبة. نحن هنا نتعرف علي التاريخ من خلال الأدب.. ليس فقط التاريخ الكبير( الأحداث الجسام) ولكن أيضا التاريخ الصغير( تاريخ البشر.. رؤاهم.. مآسيهم.. أفراحهم.. طقوسهم.. إلخ), خلال فترة زمنية محددة.. ومن هنا تنبع أهمية هذا النوع من الأعمال الأدبية. والطرح الرئيسي الذي تقدمه هذه الرواية ربما يتجسد في معني واحد قوي: إن المرء لا يستطيع أن يجزم بأن هذه الحقيقة التي يعرض لها هي الحقيقة المطلقة. الكاتب يقدم هنا لحظة إنسانية مكثفة لامرأة عاشت حياة حافلة ومتناقضة معا علي أعلي درجة من الدرجات, لكنها أيضا حياة حرة بكامل ما تحمل هذه الكلمة من مدلول.. وفجأة تلاشت هذه اللحظة المكثفة بعد موتها.. فلم يكن هناك أي شيء واضح وثابت في حياتها.. من هي؟.. من أبوها؟.. هل تزوجت حقا الخديو عباس أم كانت مجرد عشيقة من عشيقاته؟.. هل هي امرأة عربيدة ومستهترة أم امرأة حرة لديها نظرة واثقة في الحياة؟ فمن تكون هذه المرأة؟ لقد محت أسرتها النمساوية تاريخها وأثرها مع سبق الإصرار, وظل دوما وجودها غامضا.. كما تنكرت لها الأسرة الملكية المصرية, ولم تعترف بها يوما.. وتبقي جاويدان هانم لغزا غامضا يبعث خلفه التساؤلات الحائرة التي تبحث بلا طائل عن إجابات.. الرواية صادرة عن المكتبة الأكاديمية.