محافظ الدقهلية يقدم التهنئة للأنبا أكسيوس لتولية أسقفا لإيبارشية المنصورة وتوابعها    صور.. جداول امتحانات الفصل الدراسى الثاني بمحافظة الجيزة    وزير التعليم: مد سن الخدمة للمُعلمين| خاص    «مدبولي»: تكليفات رئاسية بسرعة حل مشكلات المشروعات المتعثرة ودخولها الخدمة    مسؤول أمريكي بارز: هكذا سيكون الرد الإسرائيلي المتوقع على إيران    وزير الخارجية ونظيره الصيني يبحثان تطورات الأوضاع في قطاع غزة ومحيطها    الحرية المصري يشيد بدور التحالف الوطني للعمل الأهلي في دعم المواطنين بغزة    توخيل: نوير وساني قد يشاركان ضد أرسنال.. ونأمل استغلال خبراتنا في دوري أبطال أوروبا    7 آلاف جنيه لكل شحنة.. المتهم الرابع برشوة مصلحة الجمارك يدلي باعترافاته أمام المحكمة    الأرصاد تكشف موعد انخفاض درجات الحرارة    خطوة بخطوة.. طريقة الاستعلام عن المخالفات المرورية    قرعة علنية لعروض مهرجان بؤرة بجامعة دمنهور (صور)    الخشت: تعيين 19 رئيسا لمجالس الأقسام العلمية في عدد من كليات جامعة القاهرة    سلوفاكيا تعارض انضمام أوكرانيا لحلف الناتو    هل يجوز العلاج في درجة تأمينية أعلى؟.. ضوابط علاج المؤمن عليه في التأمينات الاجتماعية    رئيس ريال مدريد يرد على ماكرون بشأن مبابي    «الأهلي مش بتاعك».. مدحت شلبي يوجه رسالة نارية ل كولر    غدا.. انطلاق بطولة الجمهورية للاسكواش في نادي مدينتي    فصل التيار الكهربائي "الأسبوع المقبل" عن بعض المناطق بمدينة بني سويف 4 أيام للصيانة    بعد ال 700 جنيه زيادة.. كم تكلفة تجديد رخصة السيارة الملاكي 3 سنوات؟    وزير الأوقاف: إن كانت الناس لا تراك فيكفيك أن الله يراك    الملابس الداخلية ممنوعة.. شواطئ الغردقة تقر غرامة فورية 100 جنيه للمخالفين    القاصد يشهد اللقاء التعريفي لبرامج هيئة فولبرايت مصر للباحثين بجامعة المنوفية    على مدار 4 أيام.. فصل التيار الكهربائي عن 34 منطقة ببني سويف الأسبوع المقبل    مصطفى كامل يوضح أسباب إقرار الرسوم النسبية الجديدة على الفرق والمطربين    الأوبرا تحيي ذكرى الأبنودي وصلاح جاهين بالإسكندرية    توقعات برج الدلو في النصف الثاني من أبريل 2024: فرص غير متوقعة للحب    فى ذكرى ميلاده.. تعرف على 6 أعمال غنى فيها عمار الشريعي بصوته    بعد انتهاء رمضان بأسبوع.. مفاجأة في قائمة المسلسلات الأكثر مشاهدة    وزارة الصحة تطلق البرنامج الإلكتروني المُحدث لترصد العدوى في المنشآت الصحية    "بعد السوبر هاتريك".. بالمر: أشكر تشيلسي على منحي فرصة التألق    هل يحصل على البراءة؟.. فيديو يفجر مفاجأة عن مصير قات ل حبيبة الشماع    جامعة الإسكندرية الأفضل عالميًا في 18 تخصصًا بتصنيف QS لعام 2024    توفير 319.1 ألف فرصة عمل.. مدبولي يتابع المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر    مؤتمر كين: ندرك مدى خطورة أرسنال.. وتعلمنا دروس لقاء الذهاب    رئيس وزراء الهند: الممر الاقتصادى مع الشرق الأوسط وأوروبا سيماثل طريق الحرير    ضبط خاطف الهواتف المحمولة من المواطنين بعابدين    مستشار المفتي من سنغافورة: القيادة السياسية واجهت التحديات بحكمة وعقلانية.. ونصدر 1.5 مليون فتوى سنويا ب 12 لغة    وزارة الأوقاف تنشر بيانا بتحسين أحوال الأئمة المعينين منذ عام 2014    طلبها «سائق أوبر» المتهم في قضية حبيبة الشماع.. ما هي البشعة وما حكمها الشرعي؟    الطب البيطرى بالجيزة يشن حملات تفتيشية على أسواق الأسماك    المؤبد لمتهم و10 سنوات لآخر بتهمة الإتجار بالمخدرات ومقاومة السلطات بسوهاج    رئيس جهاز العبور يتفقد مشروع التغذية الكهربائية لعددٍ من الموزعات بالشيخ زايد    "التعليم" تخاطب المديريات بشأن المراجعات المجانية للطلاب.. و4 إجراءات للتنظيم (تفاصيل)    موعد مباراة سيدات يد الأهلى أمام بطل الكونغو لحسم برونزية السوبر الأفريقى    اقتراح برغبة حول تصدير العقارات المصرية لجذب الاستثمارات وتوفير النقد الأجنبي    ارتفاع حصيلة ضحايا الأمطار والعواصف وصواعق البرق فى باكستان ل 41 قتيلا    برلماني يطالب بمراجعة اشتراطات مشاركة القطاع الخاص في منظومة التأمين الصحي    ميكنة الصيدليات.. "الرعاية الصحية" تعلن خارطة طريق عملها لعام 2024    بالتزامن مع تغيير الفصول.. طرق الحفاظ على صحة العيون    بعد تصديق الرئيس، 5 حقوق وإعفاءات للمسنين فى القانون الجديد    الرئيس الصيني يدعو إلى تعزيز التعاون مع ألمانيا    جوتيريش: بعد عام من الحرب يجب ألا ينسى العالم شعب السودان    «الصحة» تطلق البرنامج الإلكتروني المُحدث لترصد العدوى في المنشآت الصحية    دعاء ليلة الزواج لمنع السحر والحسد.. «حصنوا أنفسكم»    أحمد كريمة: تعاطي المسكرات بكافة أنواعها حرام شرعاً    أيمن دجيش: كريم نيدفيد كان يستحق الطرد بالحصول على إنذار ثانٍ    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مترجمو ألف ليلة وليلة


1-القبطان برتن
في تريسته، سنة 1872، وفي قصرٍ يخيّمُ عليه وجومُ التماثيل وتنقصهُ وسائلُ الصرف الصحي، شرَعَ جنتلمان يحملُ وجهه ندبةً إفريقية لها حكايتها -هو القبطان ريتشارد فرانسيس برتن، القنصل الإنكليزي- بترجمةٍ شهيرة ل كتاب ألف ليلة وليلة، الذي يعرفه الروم بعنوان The Thousand and One Nights. كان واحداً من أهداف عمله السرية هو القضاء علي جنتلمان آخر (سفعتهُ الشمس أيضاً، وله لحيةٌ داكنة وتشبه لحي المسلمين) كان يقومُ بتأليف قاموس ضخم في إنكلترة، وتوفي قبل أن يقضي عليه برتن بوقت طويل. كان ذاك الجنتلمان هو إدوارد لين، المستشرق ومؤلف نسخةٍ مسرفةِ الدقة من ألف ليلة وليلة نابت عن ترجمةٍ أخري أنجزها غالان. ترجم لين ضد غالان، وترجم برتن ضد لين، وكي نفهم برتن ينبغي أن نفهم سلالة العداوات هذه.
سأبدأ بالمؤسِّس. كان جان أنطوان غالان، كما هو معروف، مستعرباً فرنسياً رجع من اسطنبول وقد أحضر معه نقوداً جمعها بكدِّه، ودراسةً عن رواج القهوة، ونسخةً من الليالي باللغة العربية، ومعاوناً مارونياً لم تقلّ ذاكرته إلهاماً عن ذاكرة شهرزاد. ونحن مدينون لهذا المستشار الغامض -لا أريد أن أنسي اسمه: قيلَ إنه حنا- ببعض الحكايات الأساسية المجهولة في الأصل: قصص علاء الدين والأربعين حرامي؛ الأمير أحمد والجنية بريبانو؛ أبو الحسن، النائم والمستيقظ؛ مغامرة الخليفة هارون الرشيد الليلية؛ الشقيقتان اللتان حسدتا شقيقتهما الصغري. ويكفي ذِكْرُ هذه الأسماء لإيضاح أن غالان قد أسهم في تأسيس المنهج الأدبي، ألا وهو إضافة قصص سوف يثبت الزمن أن لا غني عنها، ولن يجرؤ مترجمو المستقبل - أعداؤه- علي إغفالها.
ثمة حقيقة أخري، وهي أيضاً لا يمكن إنكارها. فأشهرُ الإطراءات التي أُسبغت علي ألف ليلة وليلة وأجملُها -إطراءات كولريدج، توماس دي كوينسي، ستاندال، تينيسون، إدغار ألن بو، نيومان- هي تلك التي صدرت عن قرّاء اطّلعوا علي ترجمة غالان. وانقضت مئتا سنة، وظهرت عشر ترجمات أفضل من الأولي، لكنّ ما تعنيه ألف ليلة وليلة، للقرّاء في أوروبا أو الأمريكيتين، هو هذه الترجمة الأولي. فالنعت الإسباني milyunanochesco (ألف ليلة وليليّ) -وكذلك النعت الأرجنتيني جداً milyunanochero، والتنويع الواضح عليه milyunanocturno- لا يمتّ بصلة إلي الفواحش المتبحّرة لدي برتن وماردروس، وإنما يعود برمته إلي منمنمات أنطوان غالان وشعوذاته.
ترجمة غالان، كلمة مقابل كلمة، هي، بين الترجمات كلّها، أبأسها من ناحية الكتابة، وأضعفها، وأقلّها أمانة، غير أنها هي المقروءة علي نطاق واسع. وأولئك الذين تآلفوا معها اختبروا السعادة والدهشة. والاستشراق الذي انطوت عليه، ويبدو لنا الآن مبتذلاً، كان مذهلاً بالنسبة لأولئك الذين كانوا يتنشقون السعوط ويكتبون المآسي ذات الفصول الخمسة. وبين عامي 1707 و1717 ظهر اثنا عشر مجلداً أنيقاً تمت قراءتها ما لا يُحصي من المرات، وانتقلت إلي لغات عديدة من بينها الهندية والعربية. أما نحن، قرّاءَها المتأخرين في القرن العشرين، فلا ندرك فيها إلا المذاق الفاتر للقرن الثامن عشر، ولا نجد ضوعَ الشرق الذي تبدّد، وقد كان منذ مئتي سنة سرَّ جدتها ومجدها. لا نلومُ أحداً بسبب هذا الانقطاع، وعلي الأخص غالان. فتحولاتُ اللغة تعمل ضده في بعض الأحيان. وفي مقدمة الترجمة الألمانية ل ألف ليلة وليلة، يسجّل الدكتور فيل إن التجار، في ترجمة غالان الذي لا عذر له، كانوا يتزودون ب "حقيبة ملأي بالتمر" كلما اضطرتهم الحكاية إلي عبور الصحراء. بوسعنا مناقشة هذه الملاحظة، ويمكننا القول إنَّ مجرد ذِكْر التمر في العام 1710 كان كافياً كي يمحو صورة الحقيبة، غير أنَّ ذلك ليس ضرورياً: كانت الحقيبة، إذن، ضرباً من الخُرج.
ثمّة اعتراضات أخري. ففي مديحٍ محيِّر باقٍ في كتابه مقاطع مختارة (1921)، يهجو أندريه جيد ضروبَ حرية التصرّف التي أباحها أنطوان غالان لنفسه، وكان خيراً له لو حذف تنويهه (بصراحةٍ تتخطي سمعته تماماً) بالترجمة الحرفية التي أنجزها ماردروس، فهذا الأخير يمثّل نهاية قرن، مثلما يمثّل غالان نهاية القرن الثامن عشر، ويفوقه في عدم الأمانة.
إن تحفظات غالان هي تحفظات مدينية، أوحتها اللباقة، لا الأخلاق. وسأوردُ بضعة أسطر من الصفحة الثالثة في لياليه:
مضي رأساً إلي حجرة تلك الأميرة التي لم تكن تتوقع عودته ، فاستقبلت في سريرها واحداً من أدني الخدم في منزله.
أمّا برتن فيجسّد هذا الموظّف الغامض:
طباخٌ أسود تعاف منظره النفس نتنٌ يفوحُ بدهون المطبخ وسُخامه.
كلُّ مترجمٍ ينحرفُ بطريقته الخاصة: فالأصل أقلُّ تهذيباً من غالان وأقلُّ وسخاً من برتن.(إنها آثار اللباقة: فثمّة رنينٌ وحشي في نثر غالان الموزون، "recevoir dans son lit "، "استقبلت في سريرها").
بعد تسعين عاماً من وفاة أنطوان غالان، ولد مترجم بديل ل الليالي: إدوارد لين، الذي لا يني كتّاب سيرته يرددون إنه ابنُ الدكتور تيوفيلوس لين، أحد كهنة الإكليروس في كاتدرائية هيرفورد. ولعلَّ خصوبةَ المعطيات المتعلقة بنسبه (وشكل البقرة المقدسة المرعب الذي تثيره) هي كلُّ ما نحتاج إليه. بيدَ أنّ لين المستعرب عاش خمس سنوات دراسية في القاهرة، "بين المسلمين، علي وجه الحصر تقريباً، متكلماً ومنصتاً إلي لغتهم، متطبعاً بعاداتهم بأشدِّ ما يكون الحرص، حيث اعتبروه جميعهم واحداً من أقرانهم". غير أنّه لا الليالي المصرية المرحة ولا القهوة السوداء الكثيفة الممزوجة بحبّ الهال ولا النقاشات الأدبية المتواترة مع دكاترة القانون ولا عمامة الموسلين الموقرة ولا الوجبات التي تناولها بالأصابع، لا شيء من ذلك كله أنساهُ تكتّمه البريطاني، تلك العزلة الجوهرية الدقيقة التي يحياها أسيادُ الأرض. وهذا ما جعل من ترجمته لليالي تلك الترجمةَ المتبحّرة محضَ موسوعةٍ من المراوغات (أو تبدو كذلك). فليس الأصل فاحشاً ذلك الفحش المقصود؛ وتصويب غالان تلك البذاءات العرضية إنما يصدر عن اقتناعه بأنها رديئة الذوق. أما لين فينقّب عنها ويطاردها مثل محاكم التفتيش. استقامته لا تهادن الصمت: فيُؤثِرُ أن يضع كوكبةً رهيبة من الحواشي في مجلدٍ ملحقٍ مزدحمٍ بما يعسر قراءته، متمتماً بأشياء من قبيل:
سأغفل حدثاً من أشدّ الأحداث إثارةً للاستهجان- أُخفي هنا أحد الإفصاحات المشينة- ثمة سطر هنا أشدّ فظاظة من أن يُتَرْجَم- تفرض الضرورة عليّ أن أحذف الحكاية الأخري- من هنا فصاعداً، ثمّة سلسلة من الحذوفات- هنا، قصة العبد بخيت، وهي لا تلائم الترجمة البتّة.
والبتر لا يعني التخلي عن الإقصاء التام: فبعض الحكايات نُبِذَت بأكملها "نظراً لاستحالة تنقيتها دون تخريبها". وما يصدمني في هذا الرفض المسؤول والتام ليس افتقاره إلي أي منطق: ما أشجبه هو المداهنة الطهرانية. ولين هو فقيه المداهنة، وسلفٌ لا ريب فيه لتحفظات هوليوود الأشد غرابة من تحفظاته. وفي ملاحظاتي ثمّة مثالان اثنان. ففي الليلة 391، يقدم صيادٌ سمكةً إلي ملك الملوك، فيرغب الأخير في معرفة جنسها أذكرٌ هي أم أنثي، فيقولون له إنها خنثي. يُفلح لين في ترويض هذا الحديث الشائن، بترجمته إن الملك يسأل ما نوع السمكة، فيجيبه الصياد الماكر إنها من نوعٍ مختلط. أمّا حكاية الليلة 217 فتتحدث عن ملك له زوجتان، ينام مع إحداهما في ليلة وينام مع الأخري في الليلة التالية، وهكذا كانوا جميعاً مسرورين. يعلّل لين المصير السعيد لهذا الملك بالقول إنه كان يعامل زوجتيه "بإنصاف"... وأحد أسباب هذه الصياغة هو إن لين توجّه بعمله إلي "مائدة الضيوف"، وهي مركز لصفاء القراءة والأحاديث المحتشمة.
وتكفي أيّة إشارةٍ غامضة وعابرة إلي الأمور الجسدية كي ينسي لين نزاهته في دوامةٍ من الإخفاءات والمناورات. ولا عيب فيه سوي ذلك. فحين يتحرّرُ من التَّماس الخاص الذي تفرضه غوايةُ الجسد نجد أنَّ نزاهته تستحقّ الإعجاب. إذ ليس لديه أي غرض، وهذه مزية إيجابية. فهو لا يسعي كي يُظهر الطابع البربري ل الليالي علي غرار القبطان برتن، أو يتناساه ويقلل من شأنه مثل غالان الذي قام بتمدين عربه لئلا يشعروا في باريس بأنهم خارج بلادهم. ولقد بذل لين أقصي ما بوسعه كي يغدو سليلَ هاجر الأصيل. وإذا ما كان غالان قد تجاهل تماماً كلَّ دقة حرفية؛ فإنَّ لين يبرّر تأويله كلَّ كلمة إشكالية. وإذا ما كان غالان قد اختلق قصةَ مخطوطٍ خفيّ وماروني ميت؛ فإنَّ لين يشير إلي الطبعات وأرقام الصفحات. وغالان لا يُتعب نفسه بخصوص الهوامش؛ أما لين فيراكمُ فوضيً من الإيضاحات التي تشكل، في صورتها المنظَّمة، مجلداً مستقلاً. كُنْ مختلفاً: هذه هي القاعدة التي يفرضها السلف. وسوف يتّبعُ لين هذه القاعدة: وما يحتاجه ليس إلا الامتناع عن اختزال الأصل.
يسهبُ الحوار الجميل بين أرنولد ونيومان (1861-1862) -ذلك الحوار الذي نتذكره أكثر مما نتذكرُ طرفيه- في مناقشة الطريقتين العامتين في الترجمة. يدافع نيومان عن النموذج الحرفي، وكذلك الاحتفاظ بكلِّ الفرادات اللفظية: أما أرنولد فيؤيّد الحذف الصارم لكل التفاصيل التي تشتت الانتباه أو تعيقه. ولعلّ النهج الأخير يضعنا إزاء مفاتن الجدية والتناسق؛ أما الأول فيقدم لنا مفاجآت صغيرة مستديمة. وكلاهما أقل أهمية من المترجم وعاداته الأدبية. فترجمة روح النص غايةٌ في منتهي الجسامة وضربٌ من الخيال حتي لتبدو خاليةً من الأذي؛ أما الترجمة الحرفية، فهي مطلبٌ مسرف ولا ضير من تجريبه أبداً. ما هو أكثر خطورةً من هذه الطموحات اللانهائية هو الاحتفاظ بخصوصيات معينة أو شطبها؛ والأخطر من هذه الإيثارات والإغفالات هو الصياغة وحركتها. صياغة لين بهيجة، وتليقُ بمائدة المهذّبين. وغالباً ما تزدانُ مفرداته بكلمات لاتينية، ولا تساندها في الإيجاز أيةُ صنعة. وهو مستهتر؛ ففي الصفحة الافتتاحية من ترجمته يضع صفة رومانتيكي في فم مسلم ملتحٍ من القرن الثاني عشر، وهذا ضربٌ من المستقبلية. إن هذا الافتقار إلي الحساسية يخدمه جيداً في بعض الأحيان، لأنه يتيح له إدراجَ كلماتٍ مبتذلة في مقطع نبيل، مما يسفر عن نتائج طيبة لم يقصدها. لا بد أن المثال الأبلغ علي مثل هذا الدمج بين كلمات متغايرة هو التالي: "و في هذا القصر يُفصح الغبارُ عن آخر أنباء السادة". وقد يكون التضرعُ التالي مثالاً آخر: "أقسمُ بالحي الذي لا يموت ولن يموت، باسم الذي له المجد والدوام". وإنني لأشكّ في إمكانية العثور علي مثل هذه الصيغة الشرقية المقنِعة لدي برتن -وهوالسلف الطارئ لماردروس الفانتازي علي الدوام؛ أما لدي لين فمثل هذه المقاطع نادر للغاية بحيث يتعين عليّ افتراضُ أنها ليست مقصودة، أو، بعبارة أخري، أنها أصيلة.
أسفرت اللباقة الفاضحة في ترجمتي غالان ولين عن صنفٍ كامل من النوادر والمُلَح التي جري تكرارها علي نحو تقليدي. وأنا نفسي لم أتوانَ عن احترام هذا التقليد. ومن المعروف جيداً أن المترجمَين كليهما لم ينفّذا التزامهما إزاء الرجل التعيس الذي شهد ليلة القدر، وإزاء لعنات زبالٍ من القرن الثالث عشر يخدعه أحد الدراويش، وإزاء عادات سدوم. ولا يخفي أنهما قد عملا علي تطهير الليالي.
ويري نقادهما أن هذه العملية تدمر أو تجرح السذاجة السمحاء الموجودة في الأصل. لكنهم مخطئون؛ إذ ليس كتاب ألف ليلة وليلة كتاباً سليم الطويّة (من الناحية الأخلاقية)؛ فهو تعديل لقصصٍ قديمة كي تلائم الذائقة المتواضعة أو السفيهة للطبقات الوسطي في القاهرة. وباستثناء حكايات العبرة في أسفار سندباد، ما من شيء يجمع بين بذاءات ألف ليلة وليلة وبين حرية جنان الفردوس. إنها تأملات من جانب المحرر ترمي إلي جولةٍ من الفكاهات، وما أبطالها إلا عتالون أو شحاذون أو مخصيّون. أمّا حكايات الحب القديمة التي تتضمنها ألف ليلة وليلة، وتجري أحداثها في الصحراء أو مدن العرب، فليست حكاياتٍ فاحشة، وكذلك أيُّ عمل أدبي قبل الإسلام. إنها حزينة ومشبوبة العاطفة، وواحد من مواضيعها الأثيرة هو الموت من أجل الحب، وهو موتٌ أفتي علماء الدين المبجَّلون بأنه لا يقلّ قداسةً عن الاستشهاد في سبيل الإيمان... وإذا ما استحسنا هذا الرأي، فقد نعتبر صنوفَ التهيّب والخجل لدي غالان ولين نوعاً من استعادة نصٍّ أولي.
أعرف دفاعاً آخر، وهو خيرٌ مما ذكرت. ليس تحاشي المناسبات الإيروتيكية الموجودة في الأصل خطيئةً لا تُغتفر في نظر الرب إذا ما كانت الغاية الأساسية هي التوكيد علي المناخ السحري. أن تقدّم للعالم نسخة ديكاميرون جديدة هو مشروعٌ تجاري شأنه شأن مشاريع أخري كثيرة؛ أما أن تقدم الآن نسخةً من "البحّار القديم" (كولريدج)، أو"المركب السكران" (رامبو)، فشيٌء يكفل الولوجَ إلي عالم روحي أسمي. ويلاحظ ليتمان إن كتاب ألف ليلة وليلة هو، قبل أي شيء آخر، مستودعُ أعاجيب. وما رسّخ هذا الفَرَض عالمياً في ذهنِ كلِّ غربي هو عمل غالان؛ ولا يساورنّكم الشكّ حيال هذه الحقيقة القاسية. فالعرب أقلُّ حظاً منا، وقلما يفكرون بالأصل كما يزعمون؛ فهم علي درايةٍ مسبقة بالرجال والعادات والطلاسم والصحاري والعفاريت التي تكشفها لنا الحكايات.
في مقطعٍ في مكانٍ ما من أعماله، يقسم رافاييل كانسينوس أسّينس إنَّ بوسعه أن يحيّي النجوم بأربع عشرة لغة، كلاسيكية وعصرية. أمّا برتن فكان يحلم بسبع عشرة لغة، ويزعم إنه يتقن خمساً وثلاثين: السامية، السيريلانكية، الهندو-أوروبية، الإثيوبية... وهذه الثروة الضخمة لا تكفي لتعريفه: إنها مجرد خصلة تتضافر مع بقية الخصال، وجميعها خصالٌ تفوق الحدّ. ما من أحد يجاريه في قلة التأثر بالسخريات المتواترة في هيوديبراس* ضد المثقفين الذين لا يقولون شيئاً علي الإطلاق في لغات عديدة. كان برتن رجلاً لديه مما يقول قدرٌ لا يُستهان به، ولا تزال أعماله الكاملة الواقعة في اثنين وسبعين مجلداً شاهدة علي ذلك. سأستعرض بضعة عناوين عشوائياً: غوا والجبال الزُّرق (1851)؛ منظومة كاملة في استخدام السلاح الأبيض (1853)؛ رواية شخصية عن الحج إلي المدينة المنورة ومكة (1855)؛ مناطق البحيرات في أفريقيا الإستوائية الوسطي (1860)؛ مدينة القديسين (1861)؛ مرتفعات البرازيل (1869)؛ عن خنثي من جزر كيب دي فيرد (1866)؛ رسائل من ساحات الوغي في الباراغوي (1870)؛ أقاصي الأرض (1875)؛ باتجاه الساحل الذهبي بحثاً عن الذهب (1883)؛ كتاب السيف ( المجلد الأول، 1884)؛ الروض العاطر للشيخ النفزاوي- وهو عمل نُشر بعد وفاته وألقت به الليدي برتن إلي ألسنة اللهب، مع كتاب النعوظ الدائم، أو قصائد قصيرة ماجنة لشعراء متنوعين حول بريابوس. من خلال هذه القائمة بوسعنا استنتاجُ أيّ كاتب هو برتن: القبطان الإنكليزي الشغوف بالجغرافيا وبشتي الطرق التي عرفتها البشرية في ممارسة الرجولة. ولست أقلل من شأن ذكراه إذا ما قارنتهُ بموران، الجنتلمان الدائم الجلوس، المتقن للسانين، ولا يني يصعد ويهبط في مصاعد الفنادق العالمية المتماثلة، ويغتبط كلما رأي حقيبة سفره... حجَّ برتن إلي المدن المقدسة في بلاد العرب متنكراً كأفغاني؛ تضرّع صوته إلي الرب كي لا يلقي بجلده وعظامه، لحمه ودمه المؤسيين، إلي سعير النقمة والعدل؛ طبع فمه، الناشف إثرَ الصوم، قبلة علي الحجر الأسود المعبود في الكعبة. المغامرة شهيرة: فأضأل إشاعةٍ عن نصرانيٍّ لم يُختنْ يدنّسُ الحرم، كانت ستعني الموت الأكيد. وقبل ذلك، كان قد مارس الطب في القاهرة متنكراً في هيئة الدروايش، مستعيناً بإيماءات السحر والشعوذة كي يحظي بثقة المرضي. وفي العام 1858 أمر بحملة استكشافية إلي منابع نهر النيل السرية، وهي مهمة أفضت به إلي اكتشاف بحيرة تانغانيكا. وخلال تلك الرحلة داهمته حمي شديدة؛ ففي العام 1855، طعن الصوماليون فكيه بحربة (كان برتن قادماً من هرار، وهي مدينة في أعماق بلاد الحبشة كانت محظورة علي الأوروبيين). وبعد تسع سنوات، كتب مقالة عن الضيافة الفظيعة لأكلة لحوم البشر المحتفلين بشعائرهم في داهومي؛ ولدي عودته ما عاد يخشي ندرة الإشاعات (فقد ذاعت علي الأرجح وروّجها برتن نفسه بالتأكيد) لأنه، مثل الحاكم الروماني النهم لدي شكسبير ، قد "أكل لحماً غريباً". كانت موضوعات اشمئزازه الأثيرة هي اليهود والديمقراطية ومكتب الخارجية البريطانية والمسيحية؛ أما الإسلام واللورد بايرون فكانا محطَّ تبجيله. وقد ارتقي بمهنة الكاتب المعزولة إلي مصافّ الجسارة والتعدد: كان ينكبُّ علي عمله فجراً، في حجرة واسعة فيها إحدي عشرة منضدة، وعلي كل منضدة مواد كتابٍ ما، وعلي بعض هذه المناضد تتناثر أغصان ياسمين تلمع في مزهريات ماء. كما عقدَ غراميات وصداقات ذائعة الصيت: سأسمي من بين أصدقائه سوينبورن فحسب، سوينبورن الذي أهداه السلسلة الثانية من قصائد وأغنيات: "تقديراً لصداقة سأعدها دائماً بين أسمي مراتب الشرف في حياتي"، ورثي موته في مقاطع كثيرة. وبوسع برتن، وهو رجل أقوال وأفعال، أن يتمثل فخرَ المتنبي في ديوانه:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
سوف تأخذون عليّ أنني لا أنبذ خصال ريتشارد برتن المتعددة، بدءاً بأكله الهاوي للحوم البشر وصولاً إلي إتقانه للغات عديدة حدّ الحلم بها، تلك الخصال التي يمكننا تسميتها بالأسطورية دون أن تفتر حماستنا. ذريعتي
واضحة: برتن في أسطورة برتن هو مترجم الليالي. ولقد راودني الشك أحياناً في أن الفرق الأساسي بين الشعر والنثر يكمن في توقعات القراء الشديدة الاختلاف: يفترض الشعر مسبقاً كثافةً لا يحتملها النثر. يحدث شيء مماثل في عمل برتن: ثمة هيبةٌ قدريّةُ السمات لم يستطع أيُّ مستعرب مجاراتها قط. غواياتُ المحظور هي غواياتهُ بحقّ. وقد كانت هناك طبعة وحيدة، اقتصرت علي ألف نسخة للمشتركين الألف في "نادي برتن"، مع تعهُّدٍ ملزِمٍ قانونياً يمنع إعادة الطبع. (الطبعة المنقحة لليونارد سي. سميذرز "تحذف مقاطع معينة تخدش الحياء، ولن يأسفَ أحدٌ علي إزالتها"؛ ومختارات بينيت سيرف الوافية- التي تدعي تجنّبَ الاختزال- مأخوذةٌ عن هذا النص "المنقَّي"). وها أنا أجازفُ باقتراف مبالغةٍ: قراءة الليالي بترجمة السير ريتشارد لا تقلُّ عجائبية عن قراءتها في "ترجمة سلسة وحرفية مع هوامش توضيحية" للسندباد البحري.
لا تحصي المشكلات التي حلَّها برتن، إلا أن سرداً يغضُّ الطرف عن المشقات يمكن أن يختصرها في ثلاث: تبرير سمعته وتعزيزها بصفته مستعرباً؛ الاختلاف الظاهري عن لين قدر المستطاع؛ إمتاع بريطانيي القرن التاسع عشر بالترجمة المكتوبة لحكايات المسلمين الشفوية في القرن الثالث عشر. وربما لم تتماشَ أولي هذه الغايات مع ثالثتها؛ أما الثانية فقد ساقته إلي هفوات خطيرة، عليَّ الآن بالكشف عنها. ثمة مئات الأبيات والأغاني في الليالي؛ وقد ترجمها لين (العاجز عن التلفيق باستثناء ما يتعلق بالجسد) ترجمة دقيقةً إلي نثرٍ سلس. وبرتن كان شاعراً: نشر في طبعة خاصة عام 1880 قصيدة الحاج عبدو، وهي قصيدة ملحمية لمؤمنٍ بمذهب النشوء، اعتبرتها الليدي برتن أرقي بكثير من رباعيات فتزجيرالد. لقد أثار الحل "النثري" الذي سار عليه غريمُ برتن سخطَ هذا الأخير، فاختار أن يترجم الشعر العربي إلي شعر إنكليزي؛ وهي خطوة لم يحالفها الحظ منذ البداية، لأنها تعارضت مع قاعدته الخاصة بالتزام الحرفية التامة. لقد جرحت هذه الرباعية أذنه وحسه المنطقي جرحاً بليغاً، ولهذا السبب لا نستبعد أن تكون من بين صفوة ما أنجزه:
ليلةٌ أبَتْ نجومُها الدوران في أفلاكها،
ليلةٌ من تلك الليالي التي لن تبلي أبداً:
إنها مثل يوم القيامة، بمثل طوله،
أمام من يرقبُ وينتظرُ الصبح .
ولعلَّ هذه الرباعية ليست الأسوأ:
بانت شمساً تغربُ علي كثبان الرمل
متزينةً في خمارها ذي اللون القرمزي:
سقتني من شفتيها الندي والعسل
وبخديها المتوردين أضرمت ناراً خامدة.
لقد ألمعتُ إلي الفارق الجوهري بين جمهور الحكايات الأصلي ومشتركي نادي برتن. فالجمهور الأول أفّاق، ميّال إلي المبالغة، أمّي، ريبته بالحاضر لانهائية، وساذج سرعان ما يصدّق الأعاجيب القصية؛ أما المشتركون فكانوا رجالاً محترمين من الويست إند، مؤهّلين جيداً للازدراء ومتبحّرين في الثقافة ولكنهم لا يفقهون القهقهات أو الرعب. كان الجمهور الأول يقدّر حقيقة أن الحوت قضي عندما سمع صيحة الإنسان؛ أما الجمهور الثاني فلم يصدق قط أن ثمة بشراً يعتقدون بأية مقدرة مميتة تتميز بها مثل هذه الصيحة. لقد كانت أعاجيب النص -التي لا شكّ في أنها كانت تُروي في بولاق أو كردفان كحكايات حقيقية- عرضةً لخطر الظهور ممجوجةً في إنكلترا. (ما من أحد يطالب بأن تكون الحقيقة خارقةً أو قابلة للتصديق علي الفور: قرّاء قلائل ممن اطّلعوا علي حياة كارل ماركس ومراسلاته سيطالبون ناقمين بالانتظام الموجود في كتاب توليهContrerimes أو بالدقة الصارمة لقصيدة أكروستيكية). ولكي يحافظ برتن علي مشتركيه، استفاض في هوامش توضيحية عن "عادات المسلمين وطبائعهم"، وهو مجالٌ سبقه لين إلي احتلاله. الملابس، العادات اليومية، الممارسات الدينية، العمارة، الإشارات إلي التاريخ أو القرآن، الألعاب، الفنون، الأساطير: كل هذه الأمور سبق إيضاحها في المجلدات الثلاثة للسلف الذي يضايقه. أمّا الجانب المفتقَد فكان الجانب الإيروتيكي بالطبع. وكان برتن ضارياً في مقدرته علي ملأ هذه الثغرة (وقد تمثّلت محاولته الأسلوبية الأولي في وصف شخصي لمواخير البنغال). وبين المسرّات الجانحة التي تريّث في خضمها، ثمة مثال جيد هو هامش اعتباطي من المجلد السابع يعنونه الفهرس بذكاء " capotes mélancoliques ". وقد اتهمته إدنبرة ريفيو بالكتابة لأجل الخدم؛ أمّا الموسوعة البريطانية فأعلنت أنَّ ترجمةً غير مهذبة ليست بالترجمة المقبولة، وأنَّ ترجمة لين "ستظل تلك الترجمة التي لا تضاهي من أجل أي استخدام جادّ وحقيقي". لا تدعوا السخط يستبد بنا إزاء هذه النظرية الغامضة عن التفوق العلمي والتوثيقي للترجمة المهذبة: كان برتن متنبّهاً إلي مثل هذه العداوات. وعلاوةً علي ذلك، فإنَّ تنويعاتِ الحب الجسدي الطفيفة لم تسترعِ تماماً انتباهَ تعليقاته المستفزة والموسوعية، التي تزداد ازدياداً لافتاً في تناسبٍ عكسي مع ضرورتها. فالمجلد السادس (وهو أمامي) يتضمن قرابة ثلاثمائة هامشاً، سأذكر من بينها ما يلي: إدانة للسجون ودفاع عن العقوبات الجسدية والغرامات المالية؛ بضعة أمثلة عن احترام المسلمين للخبز؛ أسطورة ساقي الملكة بلقيس المشعرتين؛ تعداد الألوان الأربعة التي ترمز إلي الموت؛ نظرية في الجحود الشرقي وممارسته؛ معلومة تفيد بأن الملائكة تُؤْثِر المطايا الرقطاء، بينما يفضّلُ الجنّ الأحصنةَ الصهباء اللامعة؛ نبذة عن الأساطير المتعلقة بليلة القدر؛ اتهامُ أندرو لانغ بالسطحية؛ نقد لاذع ضد حكم الديمقراطية؛ إحصاء أسماء النبي محمد علي الأرض، وفي النار، وفي الجنة؛ تنويه بشعب العماليق، وهم ذوو أعمار مديدة وقامات سامقة؛ هامشٌ عن عورة المسلم، وهي -بالنسبة للرجل- تمتد من سرته إلي ركبتيه، وبالنسبة للمرأة تمتدُّ من قمة رأسها إلي أصابع قدميها؛ تأملٌ في لحم العجل المشوي لدي الغاوتشو الأرجنتينيين؛ تحذيرٌ من مشقات "الفروسية" عندما تكون المطية إنساناً؛ إشارة إلي مخططٍ بالغِ التعقيد للمصالبة بين القرود الضخمة والنساء بحيث يولد عرقٌ ثانوي من البروليتاريين الطيبين. تتراكم لدي الرجل، عند بلوغه الخمسين، مشاعر وسخريات وفواحش وفيضٌ من الحكايات، وقد تخفف برتن من هذه الأعباء في هوامشه.
وتبقي المشكلة الأساسية: كيف تسلّي رجال القرن التاسع عشر بالقصص الماجنة من القرن الثالث عشر؟ فقر الليالي الأسلوبي معروفٌ جيداً. ويتحدث برتن في مكان ما "عن النبرة الجافة والشبيهة بنبرة التجار" لدي الناثرين العرب، خلافَ البذخ البلاغي لدي الفرس. وليتمان، المترجم التاسع، يتهم نفسه بإقحام كلمات من قبيل سأل، توسل، أجاب، في خمس آلاف صفحة لا تعرف صيغة أخري غير صيغة قال التي لا تتبدل. ويسهب برتن الشغوف في هذا النمط من الاستبدال، ومفرداته، مثل هوامشه، لا نظير لها. إذ تتواجد كلمات قديمة إلي جوار العامية، وتتجاور لهجات السجناء أو البحارة مع عباراتٍ عاليةِ التقنية. إنه لا يتورع عن هذا التهجين البهيّ للغة الإنكليزية: لا تتمتع بهذه النعمة ذخيرةُ موريس الإسكندنافية أو اللاتينية لدي جونسون، فهو بالأحري يجمع بين كليهما ويتصادي معهما. إنه يزودنا بالوفير من المفردات المستحدثة والأجنبية: يخصي، عدم التساوق، صَلَف، طوبي، حشو لغوي، انتقام، وزير. كل كلمة من هذه الكلمات هي كلمة صحيحة بلا ريب، لكن هذا الترصيع يرتقي إلي نوع من تحريف الأصل. وهو تحريف مستحسن، لأن هذه الألاعيب اللفظية -والتركيبية- تضفي سحراً علي سياق الليالي المرهِق أحياناً. ويدير برتن هذه الألاعيب بأشدّ العناية: في البداية يترجم برزانة "سليمان، ابن داوود (عليهما السلام)"، ثم - حالما نألف هذا التفخيم- يختزل الاسم إلي "Solomon Davidson". أمّا ملكٌ لقبه، بالنسبة للمترجمين الآخرين، "ملك سمرقند في بلاد فارس"، فيصبح لدي برتن "ملك سمرقند في أرض البرابرة"؛ ويتحول التاجر "الشرير" لدي باقي المترجمين إلي "رجل منتقم" عند برتن. وليس هذا كلّ شيء: إذ يعيد برتن كتابة قصتي الاستهلال والختام بأكملهما، مع إضافة التفاصيل الثانوية والصفات الجسمانية. وهكذا، فإنه، عام 1885، يشق نهجاً سنتملي اكتماله (أو منافاته للمنطق) لدي ماردروس. الإنكليزي أبقي من الفرنسي علي الدوام: أسلوب برتن غير المتجانس أقلُّ قِدماً من أسلوب ماردروس الذي عفا عليه الزمن بكلّ وضوح.
2- دكتور ماردروس
قَدَرُ ماردروس قدرٌ ينطوي علي مفارقة. فقد نُسبت إليه الفضيلة الأخلاقية بصفته مترجم ألف ليلة وليلة الأكثر أمانة، ذلك الكتاب بإباحيته التي تثير الإعجاب، والذي سبق لمن اقتنوه أن خُدِعوا بسلوك غالان المهذّب ونزعات لين الطهرانية. فترجمة ماردروس الحرفية المذهلة، وقد تمّ إيضاحها بشكلٍ وافٍ من خلال عنوان فرعي لا يقبل الجدل "ترجمة حرفية وكاملة للنص العربي"، هي ترجمةٌ يحترمها الجميع، إلي جانب الفكرة الملهمة المتمثّلة بكتابة كتاب ألف ليلة وليلة. وتاريخ هذا العنوان ذو دلالة؛ وعلينا أن ننظر فيه قبل استكمال استقصائنا لماردروس.
يصف المسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر أنطولوجيا عنوانها هازار أفسانا، وهما كلمتان فارسيتان معناهما الحقيقي هو "ألف مغامرة"، لكن الناس أعادوا تسميتها "ألف ليلة". وثمة مصدر آخر من القرن العاشر، وهو الفهرست لابن النديم، يروي الحكاية التي تستهلُّ السلسلة؛ قسَمُ الملكُ المخذول إنه سيتزوج كل ليلة من عذراء ليقطع رأسها عند الفجر، وحلُّ شهرزاد التي تلهيه بأقاصيص ساحرة ريثما تنقضي علي كليهما ألف ليلة فتُريه ابنه. ويُقال إن هذا الابتكار- الذي يتفوق كثيراً علي التدابير المستقبلية المشابهة لدي خيّالة تشوسر الأتقياء أو وافدي جيوفاني بوكاشيو- قد جاء لاحقاً علي العنوان، وأنه قد ابْتُدِعَ لتبرير العنوان... وأياً يكن الأمر، فقد زيد رقم 1000 الذي كان في البداية إلي 1001. فمن أين انبثقت هذه الليلة الإضافية، التي لم يعد ثمة
غني عنها، هذا النموذج الأولي لكتاب بيكو ديلا ميراندولا كتاب كلّ الأشياء وأشياء أخري كثيرة أيضاً، الذي سخر منه كيبيدو ثم فولتير؟ يقترح ليتمان أنَّ مصدر تلك الليلة هو شائبة من العبارة التركية بِن بير، وتعني حرفياً "ألف وواحد"، لكنها كثيراً ما تستخدم للدلالة علي الكثرة. وفي مطلع العام 1840، تقدّم لين بسبب أجمل: التطيّر السحري من الأرقام الزوجية. غير أنَّ مغامرات العنوان لم تتوقف عند هذا الحد بالتأكيد. ففي العام 1704، حذف أنطوان غالان التكرار الموجود في الأصل وترجمه إلي الليالي الألف وليلة واحدة، وهو الآن اسمٌ مألوف بين سائر أمم أوروبا، إلا إنكلترا التي آثرت الليالي العربية. وفي العام 1839، كان لدي محرر طبعة كالكوتا، و. ه. ماكناتن، المسودة الوحيدة لترجمة كتاب ألف ليلة وليلة بعنوان كتاب ألف ليلة وليلة واحدة. ولم يمرّ هذا التجديد عبر التهجئة مرورَ الكرام. ففي العام 1882، بدأ جون باين بطباعة ترجمته كتاب ألف ليلة وليلة واحدة؛ وعام 1885، طبع القبطان برتن كتاب ألف ليلة وليلة؛ وفي العام 1899، طبع ج. س. ماردروس كتاب ألف ليلة وليلة واحدة.
أعود إلي المقطع الذي جعلني أرتابُ في مصداقية هذا المترجم الأخير، وهو مقطع من قصة مدينة النحاس المتعلّقة بالعقيدة، وهي تمتد، في كلّ الترجمات الأخري، من نهاية الليلة 566 لتشمل جزءاً من الليلة 578، لكن الدكتور ماردروس نقلها (لسببٍ لا يعلمه إلا ملاكه الحارس) إلي الليالي 338-346. لن ألح علي هذه النقطة؛ فلا ينبغي أن نهدر قلقنا علي هذا التعديل غير المفهوم للتسلسل الأمثل. تقول شهرزاد ماردروس:
جري الماء عبر أقنية أربع منحوتة في أرضية الحجرة بانثناءاتٍ ساحرة، وكان لكلِّ قناة سرير ذو لون خاص؛ فكان سرير القناة الأولي من المرمر الورديّ الضارب إلي الحمرة؛ والثانية من الياقوت الأصفر، والثالثة من الزمرد، والرابعة من الفيروز؛ وهكذا يشوبُ الماءَ لونُ السرير، ويتخلله النور الواني متسرباً عبر ستائر الحرير فوقه، فيسبغ علي الأشياء المحيطة وجدران المرمر عذوبةَ مشهد بحري.
أَقْبَلُ (بل أُحيّي) هذا الوصف إذا اعتبرناه محاولة في النثر البصري علي غرار صورة دوريان غراي (لأوسكار وايلد)؛ أما إذا حسبناه "ترجمة حرفية وكاملة" لمقطع تم تأليفه في القرن الثالث عشر، فأكرّرُ إنه يزعجني إزعاجاً لا حدود له. والأسباب عديدة. إن شهرزاد، من دون ماردروس، تصف من خلال تعداد الأجزاء، وليس من خلال التفاعل المتبادل؛ ولا تكترث بتفاصيل عرضية من قبيل الماء الذي يتخذ لون سرير القناة؛ ولا تحدد سمة النور الذي يتخلل الحرير؛ ولا تشير إلي صالون الرسوم المائية في الصورة الأخيرة. ثمة خلل صغير آخر: تعبير "انثناءات ساحرة" ليس عربياً، بل فرنسي علي نحوٍ مميّز. لا أدري إذا ما كانت الأسباب الآنفة الذكر كافية؛ غير أنها لا تكفيني، ولقد استمددتُ لذّة كسولة من مقارنة الترجمات الألمانية الثلاث لكلٍّ من فيل وهينينغ وليتمان، بالترجمتين الإنكليزيتين لكلٍّ من لين والسير ريتشارد برتن؛ فتأكدتُ من خلالها إنَّ أصل الأسطر العشرة لدي ماردروس هو هذه العبارة: "جرت الأقنية الأربع إلي فسقية من مرمر ذي ألوانٍ متعددة".
تفتقر تدخلات ماردروس إلي الانسجام. وهي تنطوي في بعض الأحيان علي مفارقات تاريخية صفيقة؛ كما لو أن انسحاب مارشان قد وُضِعَ قيد المناقشة بغتة. وعلي سبيل المثال:
كانوا يشرفون علي مدينة من مدن الأحلام... حيثما ترامتِ التحديقة المثبتة علي آفاقٍ أغرقها الليل، كان وادي النحاس مسوَّراً بقباب قصور، وشرفات منازل، وحدائق هادئة؛ كانت الأقنية المستنيرة بالقمر تجري في ألف دورة صافية تحت ظلال القمم، بينما بعيداً في الأقاصي، كان بحرٌ من المعدن يضمُّ في حضنه البارد نيرانَ السماء المنعكسة.
أو هذا المقطع، الذي لا تقل غاليّته (أو فرنسيته) وضوحاً عمّا سبقه:
سجادة بديعة ذات ألوانٍ بهية وصوفٍ متقن الصنع فتحت أزهارها عديمة الرائحة في مرجٍ دونما نسغ، وعاشت كل الحياة الاصطناعية لبساتينها الخضر ذوات الطيور والحيوانات، ذاهلة في جمالها الطبيعي الكامل وخطوطها الدقيقة.
(هنا ما تقوله الطبعات العربية: "علي الجانبين، كانت سجاجيد طُرِّزَت فيها طيور ووحوش كثيرة بذهبٍ أحمر وفضة بيضاء، أما عيونها فمن اللآلئ واليواقيت. كلُّ من رآها لم يستطع أن يتمالك دهشته".)
لم يتمالك ماردروس دهشته إزاء فقر "اللون الشرقي" في ألف ليلة وليلة. وهو يكوّم الوزراء والقبلات وأشجار النخيل والأقمار بِجَلَدٍ منقطع النظير يليق بسيسيل ب. دو ميل. ففي الليلة 570، نقرأ ما يلي:
بلغوا عموداً من حجر أسود، دُفِنَ فيه رجلٌ حتي إبطيه. كان له جناحان ضخمان وأربعة أذرع؛ ذراعان منهما كأذرعِ بني آدم، والآخران كالطرفين الأماميين لأسد مع براثن حديد. كان شعر رأسه كذيل حصان، وعيناه كالجمر، وفي جبينه عينٌ ثالثة شبيهة بعين الوشق.
فيسترسل في ترجمته:
ذات مساء، حط رحال القافلة عند عمود من حجر أسود، أُوثِقَ إليه مخلوقٌ غريب لا يُري من جسده إلا نصفه، لأن النصف الآخر كان مدفوناً في الأرض. بدا التمثال النصفي المنبثق من التراب مثل وحش ممسوخ ثبّتته هناك قوي من العالم السفلي. كان أسود اللون، وبحجم جذع نخلة، معمرة ومتعفنة، جُرِّدت من سعفها. كان له جناحان أسودان ضخمان وأربع أيدٍ، اثنتان منهما كبراثن أسد. كتلةٌ من الشعر الخشن القاسي كذيل حمار وحشي تنتصب متشابكةً فوق جمجمته المذعورة. كانت حدقتان حمراوان تتوهجان تحت قوسي محجريه، أما جبهته ذات القرنين فتخترقها عينٌ وحيدة تنفتح، ساكنة لا تريم، مطلقةً شراراتٍ خضراً كتحديقة فهدٍ أو نمر.
ثم يكتب لاحقاً:
برونز الجدران، جواهر القباب النارية، مصاطب العاج، القنوات والبحر بأسره، وكذلك الظلال المسلطة صوب الغرب، تمازجت في انسجام تحت النسيم الليلي والقمر السحري.
لا بد أن كلمة" سحري" بالنسبة لرجل عاش في القرن الثالث عشر، كانت تعني تصنيفاً في غاية الدقة، وليست النعت المدني المحض للدكتور المتأنق... وإنني لأشك في أنَّ اللغة العربية عاجزة عن ترجمة هذا المقطع لدي ماردروس ترجمةً "حرفية وكاملة"، وكذلك اللاتينية أو الإسبانية التي كتب بها ميغيل دي ثربانتس.
يغزر في كتاب ألف ليلة وليلة أسلوبان اثنان: الأول (شكلي محض) هو النثر المقفَّي؛ والثاني هو الأحكام الأخلاقية. يتزامن الأسلوب الأول، وقد استبقاهُ كلٌّ من برتن وليتمان، مع لحظات اشتداد حماس الراوي: نساء بهيات الطلعة، قصور، حدائق، عمليات سحرية، ذكر الله، ساعات الغروب، المعارك، ساعات الفجر، بدايات الحكايات ونهاياتها. أمّا ماردروس فيحذفها، ربما رحمةً بنا. ويستلزم الأسلوب الثاني مَلَكتين اثنتين: الأولي هي فخامة الجمع بين كلمات مجردة، والثانية هي الإدلاء بتعليقات مألوفة لا تربك المتلقّي. وماردروس مفتقر إلي كلتيهما. فمن سطرٍ لا ينسي ترجمه لين علي هذا النحو "وفي هذا القصر يُفصح الغبارُ عن آخر أنباء السادة"، لا يستخلص الدكتور الطيب سوي "مضوا، جميعهم! لم يستريحوا إلا هنيهةً في ظلال أبراجي". أمّا اعتراف الملاك- "أنا سجينُ القدير، أسيرُ البهيّ، وستمتد عقوبتي إلي ما شاء الخالد، صاحب المجد والجبروت"- فيصبح أمام قارئ ماردروس، "أنا مغلولٌ هنا بالقوة اللامرئية حتي انطفاء القرون".
ولا تحسن مشيئة ماردروس الطيبة التواطؤَ مع السحر. فهو عاجزٌ عن التطرق إلي الأشياء فوق الطبيعية دونما استخفاف. وهو يلفّق إذ يترجم هذا المقطع، علي سبيل المثال:
ذات يوم، تعجّب الخليفة عبد الملك بسماعه حكايةً عن فوانيس من نحاس عتيق تحوي غيمة شيطانية الشكل من دخانٍ أسود غريب، وبدا أن الشك قد خامره بخصوص واقعية الحقائق الشائعة المعروفة، فأمر الرحالة طالب بن سهل بالتدخل.
في هذا المقطع (الذي ينتمي، مثل المقاطع الأخري التي سبق أن أوردتها، إلي قصة مدينة النحاس التي تصبح، في ترجمة ماردروس، مصنوعة من البرونز المهيب) ليست العبارة المتأنية عن "الحقائق الشائعة المعروفة"، والشكوك غير المعقولة للخليفة عبد الملك، سوي إسهامين شخصيين من طرف المترجم.
لا يألو ماردروس جهداً كي يكمل العمل الذي أهمله أولئك العرب الكسالي المجهولون. فهو يضيف مقاطع من الفن الحديث، وفواحش رقيقة، وفواصل كوميدية قصيرة، وتفاصيل لا لزوم لها، وتقابلات، وكميات هائلة من فنون الاستشراق البصرية. وسوف أشير إلي مثال واحد من بين أمثلة كثيرة: في الليلة 573 يأمر الأمير موسي بن نصير حداديه ونجاريه بتشييد سلم قوي من الخشب والحديد. يعدّل ماردروس (في ليلته ال 344) هذا الحدث الباهت، فيضيف إن رجال المعسكر مضوا بحثاً عن الأغصان اليابسة، وقشّروها بالسكاكين والسيوف المعقوفة، ثم ربطوها معاً بالعمائم والأحزمة وحبال الجمال وسيور الجلد، وثبتوها بالمسامير، إلي أن أتموا بناء سلم طويل أسندوه إلي السور، ودعموه بالحجارة من جهتيه... عموماً، بوسعنا القول إن ماردروس لا يترجم كلمات الكتاب وإنما مشاهده: وهذه حرية حُرِّمت علي المترجمين، وأُبيحت للمفسرين الذين يُسمح لهم بإضافة مثل هذه التفاصيل... لا أدري إذا ما كانت هذه التحريفات اللاهية هي ما يمدُّ العمل بهذا الجو البهيج، وهو جوُّ حكاية شخصية يوغل فيها المترجم مبتعداً عن التنقيب المضني في المعاجم. ولكنني أحسب "ترجمة" ماردروس الترجمة الأكثر قابلية للقراءة بين سائر الترجمات، بعد ترجمة برتن التي لا تضاهي، وغير الأمينة بدورها.(للتحريف، لدي برتن، نظامٌ آخر يكمن في توظيفه الهائل للغة إنكليزية مبهرجة تزخرُ بكلمات قديمة وبربرية).
لن أقبل قطعاً أن تُقرَأ أية نوايا بوليسية في التمحيص السابق (وذلك ليس من أجل ماردروس، وإنما من أجل نفسي). ماردروس هو المستعرب الوحيد
الذي يُجمعُ الأدباء علي علوِّ مكانته، وبلغ نجاحه المنقطع النظير حدَّ أنَّ المستعربين لا يزالون يعرفون من هو. وكان أندريه جيد بين أوائل الذين امتدحوه في آب 1889؛ ولا أحسب أنَّ كانسيلا وكابديفيلا سيكونان الأخيرين. ولست أرمي إلي النيل من هذا الإعجاب، وإنما إلي البرهنة عليه. فالاحتفاء بأمانة ماردروس تخلٍّ عن روح ماردروس، وتجاهل تامٌّ له. ما ينبغي أن ننتبه إليه هو عدم أمانته تحديداً، عدم أمانته البهيجة والخلاقة.
3- إينو ليتمان
يمكن لألمانيا، التي هي موطن طبعة عربية شهيرة من ألف ليلة وليلة، أن تزهو بمجد ترجماتٍ أربع (وإن يكن مجداً باطلاً): ترجمة غوستاف فيل "المكتبيّ علي الرغم من كونه يهودياً" -وهذا الاستدراك مأخوذ من الصفحات الكاتلانية لإحدي الموسوعات-؛ وترجمة ماكس هينينغ، مترجم القرآن؛ وترجمة الأديب فيليكس بول غريف؛ وترجمة إينو ليتمان، الذي فكّ شيفرة النقوش الإثيوبية في حصن أكسوم. تقع أولي هذه الترجمات في أربعة مجلدات (1839-1842)، وهي الأكثر إمتاعاً، حيث يجهد مؤلفها -الذي نفاه الزحارُ من أفريقيا وآسيا- كي يحافظ علي الأسلوب الشرقي أو يجد بديلاً له. أمّا تدخلاته فتستحقُّ عميقَ احترامي. فلديه بعضُ الدُّخلاء ممن يقولون في لقائهم: "لا نريد أن نكون مثلما كنا في الصباح الذي يبعثر أحلام اليقظة كلها". وهو يؤكد لنا، عن ملك كريم، إن "النار التي تُوقد لضيوفه تذكّر بجهنم وندي يديه السخيتين مثل الطوفان"؛ و يقول عن ملك آخر إن يديه "طليقتان كالبحر". مثل هذه الانتحالات البديعة جديرة ببرتن أو ماردروس، وقد خصّ بها المترجم المقاطع الشعرية، حيث يمكن لهذا التجديد السخي أن يحلَّ بديلاً عن الإيقاع الموجود في الأصل. أمّا حين يتعلق الأمر بالنثر فإني أري ترجمته حرفية، مع بضعة حذوفات مبررة، بعيدة بالمقدار ذاته عن الادعاء والرياء. ولقد امتدح برتن عمله "الأمين كما يُفترض بترجمة شعبية أن تكون". ولم يكن عبثاً أن الدكتور فيل يهودي "علي الرغم من كونه مكتبيّاً"؛ إذ أُحسّ في لغته شيئاً من نكهةِ الكتاب المقدّس.
تتوزّعُ الترجمةَ الثانية (1895-1897) مفاتنُ الدقة، وكذلك مفاتن الأسلوب. أتكلم هنا عن الترجمة التي أنجزها هينينغ، وهو مستعرب من لايبزيغ، ضمن سلسلة المكتبة العالمية التي يصدرها فيليب ريكلام. وهي ترجمة مهذَّبة، خلافاً لمزاعم الناشر. الأسلوب متكلّفٌ ومسطَّح. والميزة الأكيدة في هذه الترجمة هي طولها. فهي تتمثل طبعتي بولاق وبريسلاو إلي جانب مخطوطتي زوتنبرغ والليالي الإضافية لبرتن. وهينينغ، المترجم عن السير ريتشارد، يتفوق، في الترجمة كلمةً بكلمة، علي هينينغ المترجم عن العربية، الأمر الذي يؤكّد علي الأولوية التي يحوزها السير ريتشارد علي العرب. وتكثر في مقدمة الكتاب وخاتمته المدائحُ المُنهالة علي برتن، لكنها تكاد تفتقرُ إلي الموثوقية بإشارتها إلي أنَّ برتن قد استخدم "لغة تشوسر كمعادل للغة العربية القروسطية"، ولو جري التنويه بتشوسر بصفته واحداً من مصادر مفردات برتن لبدا الأمر معقولاً أكثر. (ثمّة مصدر آخر هو كتاب السير توماس أوركوهارت عن رابليه).
الترجمة الثالثة، ترجمة غريف، تستمد من ترجمة برتن وتكررها، مستبعدة الحواشي الموسوعية فحسب. وقد طبعتها إنسل-فيرلاغ قبل الحرب.
تأتي الترجمة الرابعة (1923-1928) لتنوبَ عن سابقتها، وتشتمل، مثلها، علي ستة مجلدات. وهي تحمل توقيع إينو ليتمان، الذي فكّ مغاليق النقوش علي نُصُب أكسوم، ومصنِّف المخطوطات الإثيوبية ال 283 التي عُثر عليها في القدس، والمساهم في جريدة الآشوريات. وعلي الرغم من تفادي ترجمة ليتمان تواني برتن المتساهل، فإنها صريحة تماماً. فلم تثنِ عزمه أكثرُ الفواحش استعصاء علي الوصف؛ بل إنه ينقلها إلي لغته الألمانية الصافية، ونادراً إلي اللاتينية. وهو لا يحذف كلمة واحدة، ولا حتي تلك الكلمات التي تستهلُّ المقاطع الأولي -ألف مرة- عند الانتقال من ليلةٍ إلي أخري. وهو يهمل أو يرفض كلَّ طابع محلي: كانت التعليمات ضرورية للناشر كي يحتفظ باسم الله "allah" ولا يستبدله ب "God". وعلي منوال برتن وجون باين، فإنه يترجم الشعر العربي إلي شعر غربي. ويعلّق ببساطة علي هذه النقطة، أنّه لو تلا تصريح الراوي المكرور إنَّ "فلاناً هو الذي تفوّه بهذه الأشعار" مقطعٌ من النثر الألماني، لارتبك القرّاء وفقدوا اهتمامهم. وهو يقدّمُ كلَّ الهوامش الضرورية لأجل فهم النص الأساسي: ثمة حوالي عشرين هامشاً في كل مجلد، وجميعها مقتضب. وهو متواضع دائماً، صافٍ ومقروء. إنه يقتفي (كما يخبرنا) النصَّ العربي بحذافيره. وما لم تكن الموسوعة البريطانية مخطئة فإن ترجمته هي أحسن الترجمات المتداولة قاطبة. وقد سمعتُ أن المستعربين يوافقون علي هذا الرأي أيضاً؛ ولن يغيّر في الأمر شيئاً إذا آثرَ محضُ أديبٍ -ومن جمهورية الأرجنتين ليس غير- الاعتراضَ علي هذا الرأي.
إليكم تفسيري: لا يمكن تصور ترجمات برتن وماردروس، وحتي غالان، إلا في سياق أدبٍ ما. وأياً كانت محاسنها وعيوبها، فإن هذه الأعمال المميزة تفترض سيرورةً (سابقة) في غاية الثراء. بطريقة ما، السيرورة التي لا تُستنفد تقريباً للغة الإنكليزية تشير إلي برتن- الغموض الصعب لجون دون، المفردات الهائلة لشكسبير وسيريل تورنر، ولع سوينبورن بالقدماء، سعة الثقافة الشعبية لدي مؤلفي الكتب الرخيصة في القرن السابع عشر، الحيوية وعدم الدقة، عشق السحر والعواصف. وفي مقاطع ماردروس الضاحكة، ثمة سالامبو ولافونتين، مانوكان الصفصاف Mannequin dosier، رقصات الباليه الروسية ballets russes، وكلها تتواجد معاً. ولدي ليتمان، العاجز مثل واشنطن عن تلفيق أية أكذوبة، ما من شيء إلا الاستقامة الألمانية. وهذا شيء ضئيل، بل في غاية الضآلة. كان ينبغي للتبادل الفكري بين ألمانيا والليالي أن يثمر عن المزيد.
بحوزة ألمانيا أدب الفاتنازيا، سيان في الفلسفة أو الرواية، أو بالأحري، ليس بحوزتها إلا أدب فانتازي. ثمة أعاجيب في الليالي وددتُ لو رأيتها بعد إعادةِ التفكير بها في ألمانيا. وأنا أصوغ رغبتي هذه، أفكر بخزين الأعاجيب المقصودة: العفاريت العتاة عبيد مصباح أو خاتم؛ الملكة التي تمسخ المسلمين طيوراً؛ النوتيّ النحاسي وعلي صدره الطلاسم والتعاويذ، وتلك الأعاجيب الأخري الأكثر عمومية التي تتوالد، بحكم طبيعتها التجميعية، من الحاجة إلي إكمال ألف حكاية وحكاية. وما إن ينضبِ السحر في الحكايات، يرجع النساخون إلي الملاحظات الورعة أو التاريخية التي يبدو تضمينها شهادةً علي الإيمان في باقي النص. الياقوتة التي تصعد إلي السماء، والوصف الأول لسومطرة، تفاصيل بلاط العباسيين والملائكة الفضية التي تتغذي بتمجيدها للرب... هذا كله يشغلُ مجلداً واحداً. وهو، في نهاية المطاف، مزيجٌ شعري؛ وأقول الشيء نفسه عن بعض التكرارات. أليس مذهلاً أن يسمع الملك شهريار في الليلة 602 قصته تُروي بفمِ الملكة؟ فعلي غرار النهج العام للكتاب، غالباً ما تنطوي الحكاية علي حكايات أخري تماثلها في الطول: خشبات مسرح ضمن خشبة المسرح، كما في مأساة هاملت، وقد ارتقت إلي قوة الحلم. يبدو أن بيتاً صعباً وواضحاً لتينيسون يحدد توالد الحكايات هذا:
عاجُ الشرقِ المرهق، عالمٌ داخل عالم.
واستزادةً في الدهشة، يمكننا تلمُّسُ رؤوس الهيدرا الاعتباطية هذه أكثر من جسدها نفسه: يتلقي شهريار، الملك الخيالي "لجزر الصين والهند"، نبأ من طارق بن زياد، حاكم طنجة والظافر في معركة وادي بكّة... تختلط العتبة بالمرآة، ويرقد القناع تحت الوجه، وما عاد أحدٌ يميز الرجلَ الحقيقي عن أطيافه. ولا شيء من ذلك كله جدير بالتوقف عنده؛ فالفوضي مستساغةٌ وعادية شأنها شأن الاختلاقات في حلمٍ من أحلام اليقظة.
لقد تلاعبت المصادفة بالتناقضات والتناظرات والاستطرادات. ماذا كان بوسع رجلٍ- كافكا ما- أن يفعل لو قام بترتيب هذه المسرحية وتكثيفها، فأعاد كتابتها سطراً سطراً في خضم الضلال الألماني، عبر الغرابة في ألمانيا؟
هوامش المترجم( مرتبة أبجدياً)
- :Contrerimes شكل شعري بالغ التعقيد، ابتكره واستخدمه الشاعر الفرنسي توليه في ديوانه الذي يحمل العنوان نفسه.
- أقاصي الأرض Ultima Thule: استخدم الرومان هذا التعبير للإشارة إلي الأراضي القصية المجهولة.
- أكروستيكية: تعريب لمفردة acrostic، وهي قصيدة إذا جُمعت حروف أوائل أبياتها أو أواخرها شكلت كلمة أو عبارة مستقلة؛ أو، كما في الأحاجي، سلسلة من الكلمات متساوية الطول مرتبة بحيث تتطابق قراءتها عمودياً مع قراءتها أفقياً.
- أكسوم: عاصمة مملكة قديمة ازدهرت شمال شرق إفريقيا، من القرن الأول ق.م إلي القرن السابع ب.م.
- بريابوس: إله الخصوبة في الميثولوجيا اليونانية. يتم تصويره عادة كشخص ذي قضيب ضخم. وتعبير النعوظ الدائم priapeia مشتق من هذا الاسم، والحالة معروفة في إفريقيا بين مرضي فقر الدم المنجلي.
- تريسته: مدينة وميناء في شمال شرق إيطاليا.
- غوا: منطقة تقع علي الساحل الغربي للهند.
- هاجر: زوجة النبي إبراهيم.
- هيوديبراس: قصيدة طويلة ساخرة كتبها صموئيل باتلر (1612-1680)، متأثراً بالدون كيخوته.
- الهيدرا: في الميثولوجيا اليونانية، وحش ذو رؤوس تسعة أحدها هو الرأس الخالد، وأنفاسه قاتلة. وكلما قُطع رأس من رؤوسه نبت له عوضاً عنه رأسان آخران. أحرق هرقل ثمانية رؤوس، ودفن الرأس الخالد تحت صخرة عظيمة. قد تستخدم كلمة "هيدرا" أدبياً للدلالة علي التعقيد.
- الويست إند: المركز التجاري والترفيهي في لندن.
(ملاحظة: في ترجمته لبيت المتنبي يستبدل برتن الرمح بالضيف).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.