ما بين عامي1977 و1982 عشت في الولاياتالمتحدة لدراسة الماجستير والدكتوراه في جامعة شمال إلينوي, وبعدها عدت إلي مصر للعمل باحثا في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام. وبعد خمس سنوات من الغياب عدت إليها مرة أخري باحثا زائرا في معهد بروكينجز الشهير في واشنطن حيث بحثت ونشرت عددا من البحوث كان من بينها فصل عما جري في مصر خلال عقد من الزمان منذ زيارة الرئيس السادات للقدس. بعد ذلك, وطوال عقد التسعينيات تعددت الزيارات لواشنطن وعدد آخر من الولاياتالأمريكية حتي استقر الأمر بين عامي2003 و2009 علي البحث والتدريس بين عدد من الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث الأمريكية المعروفة. كل ذلك يجعل الزعم بمعرفة الولاياتالمتحدة بقدر معقول لا يوجد فيه الكثير من المبالغة; ولكن الدهشة مما يجري حاليا حول الشأن المصري في العاصمة الأمريكية تبدو معقولة لأن ما يجري حاليا لا يصدق بحال. فما يجري الآن في مراكز البحوث والجامعات والمعاهد المختلفة والجمعيات المعروفة وغير المعروفة يجعلنا نعتقد أن الولاياتالمتحدة قد حلت كل مشاكلها, ولم يبق من الأزمة الاقتصادية إلا ذكري مشئومة, ومن ثم لم تعد هناك قضية أخري سوي مصر للتركيز عليها وحل معضلاتها. وقد يكون ذلك جائزا حين نعرف أن الولاياتالمتحدة قد خرجت من العراق وأفغانستان ورفرفت علي عواصمهما الديمقراطية الحقة التي لا تعرف قبائل ولا مذاهب ولا انفجارات ولا تعصبا ولا تحريضا, ولم يعد هناك مشكلة أمريكية مع العالم إلا التأكد من نزاهة الانتخابات المصرية. أو حين تضع حرب أمريكا والغرب والعالم ضد الإرهاب أوزارها ويجري الإمساك بأسامة بن لادن وصحبه غير الكرام; وحين نعرف أن العلاقات الأمريكية الروسية قد استقرت علي حالها, وأن تلك التي مع الصين قد وصلت إلي أحسن وأسعد شئونها بعد أن قامت الصين بتبني الانتخابات الديمقراطية وتخفيض اليوان حتي سمحت لشبكة جوجل بأن تعمل بحرية داخل الشبكات الافتراضية والحقيقية الصينية, ولم يبق في جعبة السياسة الأمريكية إلا التأكد من حسن سير وسلوك النظام السياسي المصري. ومن يعرف فربما كانت أمريكا قد حلت مشاكلها مع نفسها فلم يعد هناك حزب للشاي ولا للقهوة, ولا عاد هناك انقسام فكري ومذهبي وأخلاقي يستقطب الساحة السياسية الأمريكية كما لم يجر الاستقطاب فيها منذ زمن بعيد ولم يبق إلا التأكد من دخول مصر إلي الاختبار الديمقراطي خلال الانتخابات التشريعية المقبلة وخروجها منها بنتيجة واحدة تقوم علي الإطاحة بأغلبية الحزب الوطني الديمقراطي وحصول جماعة الإخوان المسلمين عليها, وإلا كانت الانتخابات كلها مزيفة!!. طوال الزمن الذي عرفت فيه الولاياتالمتحدة 1977 إلي2010 كانت مصر مرتبطة بعلاقتها بقضية الشرق الأوسط الأولي والصراع العربي الإسرائيلي حربا وسلاما; ومن بعدها سلسلة من القضايا الأخري ذات العلاقة باستقرار المنطقة ضد الأفكار والنظم الراديكالية. وفي مرحلة من المراحل خلال الثمانينيات دخلت قضية الإصلاح الاقتصادي إلي الصورة نتيجة أن الولاياتالمتحدة كانت دائنة لمصر بمبلغ سبعة مليارات من الدولارات, فضلا عن أنها كانت تقدم لمصر معونة قدرها2.2 مليار دولار من المعونات الاقتصادية يزيد عليها معاونة مصر علي الحصول علي كثير من المساعدات من المنظمات الدولية والدول الغربية وبنوكها. ونتيجة ذلك كله كان الحديث عن الإصلاح الاقتصادي معقولا ومطلوبا من مصر علي أي حال, وهو ما أخذ في التحقق بسرعة معقولة خلال عقد التسعينيات الذي لم تقف فيه الولاياتالمتحدة إلي جانب مصر فقط من الناحية الاقتصادية بالإعفاء من الديون الأمريكية ونصف الديون الكلية بل إنهما تعاونا سويا في محاولة حل الصراع العربي الإسرائيلي والمشاركة في تحرير الكويت. المدهش بعد ذلك أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهد مشهدا عجيبا للغاية يقوم علي محاولات مستمرة للتدخل في الشأن السياسي المصري بينما كانت المعونات الأمريكية لمصر تتناقص, ويتزايد العجز الأمريكي إزاء إسرائيل فانتهي الأمل في الحل السلمي للصراع العربي الإسرائيلي, وخلقت أمريكا أكبر حالة من الفوضي غير الخلاقة في المنطقة عند غزوها للعراق وأفغانستان, وكلاهما شكل زلزالا في المنطقة أعطي الأصوليات الراديكالية مددا لا ينتهي من التعصب والكراهية, وأكثر من ذلك جعل المهمة الأولي للدول والحكومات ليس إقامة الديمقراطية, أو الإصلاح الاقتصادي, وإنما الحفاظ علي كيان الدولة من الانهيار خاصة بعد ما جري في العراق وأفغانستان وباكستان واليمن والسودان والصومال بالطبع من قبلهم. حالة الدولة في الشرق الأوسط كله بعد التحركات الأمريكية خلال العقد الماضي لم تشغل بال أحد في واشنطن التي يبدو أنها لم تشعر بذنب قط أو مسئولية أبدا عن الأزمة الاقتصادية العالمية; ولا شعرت بضرورة مراجعة السياسات والأسس التي قامت عليها سياستها الشرق أوسطية طوال عقد كامل من الفوضي وعدم الاستقرار. وعلي العكس تماما فإن ما جري هو أن الشهور الماضية شهدت انشغالا من جانب بعض وكالات الأنباء الأجنبية والمؤسسات البحثية الغربية والمنظمات الحقوقية الدولية بالأوضاع السياسية في مصر, وبصفة خاصة الانتخابات البرلمانية القادمة. ورغم أن المعتاد هو أن تصدر تقارير سلبية عن مصر من المؤسسات الأمريكية ذات الانحيازات الأيديولوجية الواضحة مثل بيت الحرية( فريدوم هاوس) أو مؤسسة التراث( هيرتاج) أو معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني, نتيجة إدخال التسييس في التحليل, لكن الجديد هذه المرة هو دخول بعض المؤسسات العلمية التي يفترض أن تتسم بالحياد مثل معهد كارنيجي لدراسات السلام الدولي. وفي2 نوفمبر2010 اجتمع في البيت الأبيض ممثلو فريق العمل الأمريكي بشأن مصرworkinggrouponEgypt( الذي يضم إليوت إبرامز بمجلس العلاقات الخارجية الذي كان يشغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش, و روبرت كاجان الباحث بمعهد بروكينجز و سكوت كاربينتر و روبرت ساتلوف بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني و السفير إدوارد ووكر بمعهد الشرق الأوسط و أندرو البرتسون المسئول عن مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط و بريان كاتوليس بمركز التقدم الأمريكي و توم مالينجوسكي بمنظمة هيومان رايتس ووتش ودانيال كالينجرات بمؤسسة فريدوم هاوس و إلين بورك من مبادرة السياسة الخارجية و ميشيل دان و توماس كاروذرس من معهد كارنيجي للسلام الدولي) مع مستشاري الرئيس باراك أوباما في مجلس الأمن القومي, اللذين يشرفان علي الملفات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط, دينيس روس ودان شابيرو, إلي جانب مسئولي حقوق الإنسان وتحقيق الديمقراطية بالمجلس وهما سامانثا باور وجايلي سميث, لحث الإدارة علي ممارسة المزيد من الضغوط علي النظام المصري من أجل إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة والسماح للمراقبين الدوليين والمحليين بمتابعة الانتخابات المقبلة. ولم يكن الاجتماع السابق هو الأول من نوعه, فمنذ تأسيسه يجتمع أعضاء فريق العمل الأمريكي من أجل مصر مع مسئولين في الإدارة الأمريكية وشخصيات بارزة في الكونجرس في لقاءات رسمية وغير رسمية. وقد بدأ أعماله في فبراير الماضي بمبادرة جمعت كاجان مع ميشيل دان الباحثة بمعهد كارنيجي, وجذبا قائمة من الباحثين والخبراء والمهتمين بالشأن المصري, فضلا عن مسئولين سابقين, وهؤلاء يجمعهم قاسم مشترك وهو ضرورة اهتمام إدارة أوباما بدرجة أكبر بملف الديمقراطية في مصر. كل ذلك يشير إلي تكوين تحالف جديد في واشنطن يضم جماعة لم يسبق لها الانضمام إلي بعضها البعض في أي موضوع آخر. يقع في أوله الجماعات اليمينية التقليدية في أمريكا, ثم بعد ذلك مجموعة المحافظين الجدد الذين كان مشروعهم السياسي والاقتصادي وبالا علي أمريكا والعالم, ثم يأتي الجديد عندما تنضم لهم جماعة من الليبراليين في مؤسسة كارنيجي ومثيلاتها من المنظمات, وهؤلاء جميعا يقف من ورائهم مشجعا ونصيرا مجموعة من الأكاديميين والليبراليين السابقين في مصر الذين استوطنوا هامش السياسة المصرية واستعذبوا هامشيتها وتطرفها. وهكذا بات ممكنا أن يقف روبرت ساتلوف وروبرت كيجان جنبا إلي جنب مع ميشيل دان وسعد الدين إبراهيم وما رينا أوتاوي وغيرهم في تحالف واحد يتصور أنه من واشنطن يمكنه تغيير النظام السياسي المصري دونما تشاور لا مع الشعب المصري, ولا مع التجربة الشرق أوسطية كلها خلال العقود الأخيرة. هذا التحالف يضم ثلاثة مذاهب: الأول أمريكي يريد إضافة مشكلة إضافية لحكم أوباما المهتز حاليا, ولا بأس حتي لو لم يعرف شيئا عن مصر, بأن يجعل الفشل الديمقراطي في القاهرة يضاف إلي أنواع أخري من الفشل للإدارة الحالية. المسألة هنا ليست الانتخابات في مصر, ولكن الانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة بعد عامين. والثاني إسرائيلي يريد منع أو تخفيف الضغط علي إسرائيل بالتأكيد علي فساد كل النظم السياسية العربية, وطالما كان الحال كذلك فلماذا لا تكون المغفرة للدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط مهما فعلت. والثالث ليبرالي حائر ومتخبط بين ما يراه من تعددية وحراك سياسي في المجتمع المصري, وانتصار للمشاركة علي المقاطعة, ورفض شعبي من غالبية الأحزاب والحركات السياسية للرقابة الأجنبية علي الانتخابات, وزخم يرفع من تنافسية الانتخابات لدي كل الأحزاب السياسية, وتدخل حاسم من القضاء واللجنة العليا للانتخابات والمجتمع المدني; وما بين اعتقاده السابق أن المعيار الوحيد لنظافة الانتخابات المصرية هو هزيمة الحزب الوطني الديمقراطي وفوز الجماعة المحظورة للإخوان المسلمين حتي لو كان شعارها يتحدي كل ما كتب في الليبرالية بأن الإسلام هو الحل. وعلي أي حال دعونا نر ماذا سيكون رأي الشعب المصري فيما يسعي له تحالف واشنطن التعيس!.