اليوم تمر الذكري الثالثة عشرة علي رحيل الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي, ولعلنا بهذه المناسبة نشير الي كتاباته الإسلامية التي كانت في جملتها وتفصيلها ذات مذاق خاص يميزها عن غيرها, من حيث منحاها الواقعي, ومضمونها الاجتماعي, واهتمامها بإلغاء الفوارق بين الطبقات, ومطالبتها بالعدالة الاجتماعية.. الي آخر هذه الأفكار التي قد تشي بتأثره بالحركة اليسارية وأفكارها التقدمية علي ما يظن البعض مستندا في ذلك الي ما أشار إليه كوريل مسئول هذه الحركة حديتو في مذكراته من أن الشرقاوي كان ضمن التنظيم اليساري.. علي أن ذلك إن كان صحيحا لا يعيب كتابات الشرقاوي الإسلامية لأسباب منها أن التعاطف مع اليسار لا يدين كتابات صاحبها, خاصة إن كانت موضوعية ودقيقة, وأن اليسار علي اطلاقه هكذا كلمة ذات تعبيرات واسعة تضم بحرا من الموجات والتيارات, الطحالب والأعشاب, وأنه علي مستوي التطبيق يضم تفريعات منها يسار اليسار, ويمين اليسار ويسار اليمين, واليساري اليميني, وكل له دوره ومن الصعب تبين الموقف المحدد لمبدع ومفكر في طول قامة الشرقاوي, الي جانب أن معطيات فكره كانت في التأريخ للشخصيات الفذة في الاسلام التي تتطلب عملا فكريا لا يقوم أمره علي تجارب حاضرة تهدم أخري قديمة, أو برهان جديد يناقض برهانا قديما, إنما الأمر قائم علي رواية الخلف عن السلف, والمحدثين عن الأقدمين, وما أظن أن ذلك كان خافيا علي الشرقاوي حيث قال في مقدمته لكتاب محمد رسول الحرية: أنا لا أقدم كتابا جديدا في السيرة فمكتبة السيرة زاخرة بالمؤلفات القديمة, وما أحسب أن كتابا جديدا يمكن أن يضيف جديدا الي ما كتب عن السيرة. ومنها سبب ثان قد ندركه لدي الشرقاوي من يقينه الإيماني, وحسه الديني الذي لا يهتز لمجرد التأثر بأي من المناهج وهو ما يبدو من كتاباته ذات الصلة بتكوينه الشخصي أو ظروفه الوراثية, فمثلا في رائعته الأدبية الأرض نلمح ذلك علي لسان راويها أو كاتبها بأنه كيف اهتم والد الراوي بتأديب ابنه بآداب الإسلام, كما نري تقدير القرية للشيخ الشناوي فقيه القرية ومفتيها وخطيب مسجدها ومأذونها, ومعلم الصغار, وواعظ الكبار, كما نلمح ذلك في إهداءاته لكتبه الإسلامية حيث نجد دلالات تقربنا من هذا اليقين وذاك الحس حين يهدي والده كتاب محمد رسول الحرية قائلا: الي أبي الذي غرس في قلبي منذ الطفولة حب محمد ويهدي لوالدته مسرحيتي: الحسين ثائرا والحسين شهيدا مسجلا: كيف علمته حب الحسين, ولشقيقه كتاب علي إمام المتقين مذكرا إياه حبهما للإمام علي وقرابتهما للحسين, ولأولاده كتاب عمر بن عبدالعزيز: راجيا أن يحبب لهم تراثنا الإسلامي العظيم.. فإذا أخذنا بمقولة أن الكاتب هو ما يكتبه أصبح لدينا هذا السبب المعبر عن اهتمامه الواضح بالكتابات الإسلامية, وقلنا إن للوراثة وظروف النشأة دخلا كبيرا في هذا الاهتمام الذي صاحبه الي آخر أيام حياته, ومنها أيضا سبب ثالث هو عامل التأثر المكتسب من الكتابات الإسلامية للرواد, وفي مقدمتهم طه حسين والعقاد وحسين هيكل وأحمد أمين, ومن المصادفات ألا يكون هؤلاء الأربعة الذين كتبوا مؤلفات عن الإسلام من خريجي الدراسات الدينية, بالضبط كما نجد في جيل الشرقاوي وبنت الشاطئ والسحار ومصطفي محمود, والأربعة علي التوالي من خريجي الحقوق والآداب والتجارة والطب حيث تكون لكل منهم مكتبة إسلامية من مؤلفاته, ولهذا نجد الشرقاوي متأثرا في تناوله الشخصيات الإسلامية بكتابات هؤلاء الرواد ولكنه يختلف عنهم حيث تكونت له رؤيته المتميزة, والتجربة خير دليل علي ذلك, فلو قرأنا كتاب محمد رسول الحرية للشرقاوي نجده يختلف عن حياة محمد للدكتور هيكل, أو علي هامش السيرة للدكتور طه حسين, أو عبقرية محمد للأستاذ العقاد, أو فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين, حيث يختار اللون الإبداعي في التناول في أسلوب شاعري ولوحات رائعة, وصور جميلة كما قال في تقدمته لكتاب أئمة الفقه التسعة: أحسست أن من الواجب علي أن أنشر صفحات نضال هؤلاء العلماء والفقهاء وأن أتقصي مواقفهم من الحياة والناس, وأرسم ما وسعني الجهد صورا من الحياة أمام القارئ المعاصر... وهكذا نجده كاتبا لم يتأثر بأحد. رحم الله الشرقاوي لقاء ما قدمه لنا من معين لا ينضب.