في العاشر من نوفمبر مضت 90 عاما علي مولد الكاتب والأديب الكبير أستاذنا عبدالرحمن الشرقاوي، وكذا 23 عاما بالضبط علي رحيله، فقد ولد في 10 نوفمبر 1920 بقرية الدلاتون بمحافظة المنوفية ورحل في نفس التاريخ عام 1987، أي عاش 67 عاما بالتمام والكمال. حياة كاتبنا الكبير بهذه القرية ألهمت وجدانه وخياله، أتاحت له أن يري الفقر الذي يطحن الفلاحين والظلم الذي يحيق بهم في تلك السنوات من عشرينات القرن الماضي، وكما يذكر الناقد د. مصطفي عبدالغني الكاتب بالأهرام عن الشرقاوي في كتابه: الشرقاوي متمردا: الدلالة الذاتية والاجتماعية أن ذلك جعله يبدع مجموعة من الأعمال المهمة في تاريخ الأدب المصري والعربي وهو رواياته: الأرض، الفلاح، قلوب خالية، الشوارع الخلفية، وهذه الروايات التي أبدعها الشرقاوي منذ مطلع الخمسينات حتي منتصف الستينات جعلته ملتزما بخط الواقعية الاشتراكية. من القرية.. إلي المدينة ما دلالة ذلك؟ وما معناه؟ الأمر المؤكد أن حياة الكاتب وتجربته الإنسانية تنعكس في إبداعه الأدبي والفني.. وحين كان عبدالرحمن الشرقاوي في الثامنة من عمره جاء إلي القاهرة ليكمل دراسته الابتدائية.. ثم الثانوية.. وبعدها التحق بكلية الحقوق.. لكنه كان يتردد علي كلية الآداب بسبب شغفه وولعه بالأدب.. وتخرج في الحقوق سنة 1943.. وظل يكتب القصة القصيرة التي كانت تنبض بتيارات حقبة الأربعينات مع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. وينبهنا الناقد د. مصطفي عبدالغني إلي أن مجموعات القصص القصيرة وقصائد الشرقاوي التي نشرت في جريدة المصري أو صدرت منشورة في كتب مثلت البدايات لفكره الذي ظل ينضج ويتبلور في دعوته للعدل الاجتماعي والحرية. في ذلك الوقت كانت مصر تعيش الأزمة الطاحنة اقتصاديا واجتماعيا، وفي ظل هذا المناخ تعرف الشرقاوي إلي أديبين كبيرين أثرا في وجدانه واستفاد منهما هما الأستاذان: سعد مكاوي وهو من نفس قريته ومحمود البدوي أحد رواد القصة القصيرة وهو من صعيد مصر. وانضم الشرقاوي إلي جماعة الفجر الجديد الأدبية اليسارية، وكانت هذه الجماعة عنصر جذب للكثير من المثقفين والأدباء حينذاك. القرية في الرواية المصرية مما لا شك فيه أن عبدالرحمن الشرقاوي قد اطلع جيدا علي الآداب الأجنبية: الروسية والفرنسية وتأثر بتشيكوف وتولستوي ودستوفيسكي، كما تأثر بعدد من الأدباء الفرنسيين الذين قرأ لهم باللغة الفرنسية، حيث قد أتيح له أن يزور فرنسا ويمضي بها عاما كاملا سنة 1950، ثم عاد ليتابع إبداعه الأدبي الشعري المسرحي والروائي والفكري الإسلامي. وفي دراسة مهمة للأديب والقاص الأستاذ سمير بسيوني رئيس اتحاد الكتاب بالدقهلية ودمياط صدرت عام 2001 عن الفلاح في الرواية المصرية وتتضمن مقارنة بين تناول الشرقاوي لقضيته ومشكلات الفلاحين وبين تناول كل من د. طه حسين ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم. وتوضح الدراسة أن تناول هيكل في روايته زينب اتسم بالرومانسية، بينما الحكيم في عودة الروح نظر إلي القرية نظرة من يكتب عنها من الخارج.. والقرية عند هؤلاء الثلاثة أقرب إلي طابع الاستسلام لقدرها.. وإن كان الدكتور طه حسين قد أفاض في وصف حالة التخلف الذي تعانيه القرية في قصته المعذبون في الأرض، بينما ثلاثية الشرقاوي: الأرض والفلاح وقلوب خالية تقدم لنا نموذجا للمقاومة والتحدي.. سواء للإقطاعي المستغل أو الموظف البيروقراطي أو حتي عضو التنظيم السياسي المتسلق والانتهازي. ويبقي هذا الرصد المهم لدراسة سمير بسيوني فضلا عن دراسات أخري عديدة لأدب عبدالرحمن الشرقاوي وكتاباته ذات دلالة علي أن فكر الأديب والكاتب عنصر فاعل ومؤثر في التاريخ لا ينتهي برحيله عن الحياة. نبوءة الشاعر الدعوة إلي العدل والحرية ورفع الظلم والقهر عن المطحونين والغلابة هذا جوهر فكر عبدالرحمن الشرقاوي سواء في مسرحياته الشعرية أو دراساته الإسلامية، لقد توالت إبداعاته عن مسرحيته الرائعة الحسين شهيدا والحسين ثائرا أو كتبه عن الإمام علي والفاروق عمر. الأمر الذي جعل بعض المحافظين من رجال الدين يتهمونه تارة بالشيوعية وتارة بأنه شيعي «!!» لكن المؤكد أن كتاباته التي اتسمت بشجاعة الفكر تلقاها الرأي العام في مصر والعالم العربي بردود مختلفة. وظل الشرقاوي يقيم الدنيا ويقعدها متمثلا قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمي إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم إن رؤيته المستنيرة ودعوته إلي اقتسام الثروة بين طبقات المجتمع جعلت رأس الشرقاوي مطلوبا حتي قبل ثورة 23 يوليو 1952، ولما احتدم الخلاف حول مقالاته وكتبه التي ظلت تتوالي «25 كتابا» فضلا عن عشرات الدراسات، أقول احتدم الخلاف بين الكاتب الكبير وفضيلة الإمام الشيخ محمد الغزالي دعا فضيلته الشيخ أحمد حسن الباقوري إلي لقاء مصالحة بين الرجلين في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة أعلنا فيه حرصهما علي سلامة العقيدة وتوخي الروح العلمية في الكتابة عن الصحابة رضوان الله عليهم ومن جانبه أعلن الشيخ الغزالي رحمه الله أن عبدالرحمن الشرقاوي لم يكن شيوعيا، وبهذا أنهت هذه المصالحة فترة من القلق الفكري في حياته. كان ذلك في منتصف الثمانينات، ولقد شغل عبدالرحمن الشرقاوي عدة مناصب مهمة: رئاسة مؤسسة روزاليوسف وسكرتيرا عاما لمنظمة التضامن الآسيوي الأفريقي وكاتبا بالأهرام قبل أن يرحل عن الدنيا في 10 نوفمبر 1987، أي أنه عاش 67 عاما، ولعلي في ختام هذا المقال لجريدة القاهرة الغراء أقول إن هذا الرجل العملاق جدير بالاحتفاء به.. لقد قال في مسرحية الفتي مهران الصادرة عام 1966، في نبوءة الشاعر الصادقة: أنا ذا أفض وما قلت الذي كنت أريد لم يزل عندي أشياء تقال.. أنا ذا أفضي وما قلت الذي عندي وما حققت حلما واحدا لم يزل في القلب مني ألف حلم وأنا ذا أفضي بأحلام حياتي.. يا لها من نبوءة.. أستاذنا الشرقاوي نحن مازلنا نسير علي درب حياتك.