كانت الطائرة قد أخذت في التراجع قبل أن يستقر حالها علي الممر وتتسارع سرعتها وتنطلق نحو السماء الصافية في يوم خريف شمسه ساطعة ولكن نسيمه خفيف يؤذن بأن الصيف قد ذهب إلي غير رجعة. فقد وصل شهر أكتوبر إلي نهايته علي أية حال. وأشرعت البصر من النافذة حيث بدت القاهرة علي حالها التي أعرفها في كل رحلة ككتلة أسمنتية هائلة تتراوح حالتها بين البريق والهوان حتي ذابت مدنها وجاءت الصحراء الشرقية علي اتساعها وامتدادها وجدبها من البشر والعمران. ولم تكن الرحلة من القاهرة إلي العريش طويلة, ولكن إثارتها جاءت من ذلك العبور من العاصمة الكبري إلي الصحراء إلي قناة السويس وبحيراتها ثم الوصول إلي الصحراء علي الجانب الشرقي في سيناء, وبعد العبور علي الجبال والقفار جاء المطار صغيرا وخاويا لا يبدو عليه ازدحام في الوصول أو المغادرة. لم يتجاوز الزمن كله بين امتطاء الطائرة والهبوط منها أربعين دقيقة, ولكن ما كان فيها إلا تدافع تلك الأفكار والأحاسيس والذكريات, بل وما جاء من معارك فكرية حول عمران الأرض والدفاع عنها. ولا أدري لماذا تداعي إلي الذهن ما تساءل عنه محمود تيمور فيما أذكر منذ وقت بعيد حينما شرع بصره من طاقة الطائرة عن ماهية الوطن; أو كما قال في عجب وهل الدنيا علي رحبها واتساع بقاعها إلا مثلك بر وبحر؟ لماذا تبدو إذن قطعة بعينها, هي في هذه الحالة مصر لها من الجاذبية والهوي, أرضا وماء, أكثر من غيرها في أرض الله الواسعة؟ ولم يكن السؤال جديدا بالمرة بل إنه كان مطروحا منذ بدأت السفر الذي جعلني أعبر أمريكا من شاطئها الأطلنطي إلي شاطئها الباسفيكي, والمكسيك من العاصمة شرقا إلي أكابولكو غربا, وعبر الدنيا كلها إلي الصين واليابان, وما بين الشرق والغرب والدول والأمم والشعوب الكثيرة ظل لهذه البقعة من البر والبحر شوق وشجن خاص لا يذوب ربما إلا ساعة الرحيل عن الدنيا. وللحق فإن الشجن هذه المرة كان مختلطا بكثير من التاريخ والذكريات, ولم يكن عبور اليم بالطائرة إلا باعثا لذكري العبور العظيم الذي كنت من شاهديه. ولكن ما جاء إلي الذهن أكثر, فقد كانت تلك الأيام العصيبة التي أعقبت هزيمة أو نكسة لا فرق يونيو1967 عندما خرجنا في فبراير1968 نطالب بالمساءلة عن الهزيمة, ونعبر عن تصميمنا علي الحرب. ولم يمض عام حتي كانت حرب الاستنزاف جارية هنا تماما علي مسار الطائرة في أشكال ضربات مستمرة للمدفعية, وغارات للقوات الخاصة, ونوبات من الاقتحام والهجوم التي كان الهدف منها رفع تكلفة الاحتلال علي العدو الإسرائيلي. ولا أدري من كانت فكرته في تلك الأيام أن يذهب الطلبة في الجامعة إلي الخطوط الأمامية لكي يشاهدوا بأنفسهم الحالة القتالية والروح المعنوية للجيش المصري الذي يستعد للحظة الحاسمة. وهكذا ذهبنا في صمت بليغ إلي حافة قناة السويس لكي نشاهد ليس فقط استعداد قواتنا بل أيضا نقاط العدو الحصينة علي الطرف الآخر, ولكي نستمع لعدد من المحاضرات من ضباط مدربين كان فيهم من التصميم والإرادة ما يكفي لكي يقتنع المتمردون من الطلبة أن يوم الحساب مع إسرائيل قادم لا شك فيه. ولكن لفت نظري من بين ما استمعت إليه ما جاء علي لسان واحد من ضباط القوات الخاصة الذين عبروا القناة ذهابا وإيابا تحت وابل النيران وطغيان الخطر: علينا أن نتذكر بعد كل ذلك, وسوف ينتهي كل ذلك( وكان يقصد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء) إن عاجلا أو آجلا, أهل سيناء الذين أصبح لهم لدي كل المصريين دين كبير في أعناقهم نتيجة ما قاموا به من جهد لمقاومة إسرائيل, وجمع المعلومات عن قواتها وتسهيل عمليات الاستنزاف إزاءها, إلي آخر ما بات معروفا من جهاد. وفي الحقيقة لم يكن في ذلك إباحة لسر, فقد كنا نعرف بوجود جبهة تحرير سيناء, وكنا نعرف أن مصريا من كان لن يألو جهدا في المساهمة في المعركة الكبري, ولكن الوصية التي جاءت من ضابطنا كان لها معني خاص حيث كانت الكلمات تعكس تجربة خاصة اختلطت فيها المعلومات مع القتال والاستشهاد في حزمة واحدة صافية ونقية من المصريين عندما يكونون في أحسن أحوالهم. وكانت هذه القصة هي ما بدأت به حديثي إلي طلبة وطالبات وأساتذة جامعة سيناء الفتية, خاصة وقد أتي إلي محاضرتي شيوخ المجاهدين, وأعضاء في مجلسي الشعب والشوري, والمجلس المحلي لمدينة العريش, وأهل همة ونفوذ في المجتمع المدني. كانت الرحلة التي قطعتها منذ الصباح وزرت فيها مشروعات للتنمية في الحسنة ونخل ووسط سيناء حتي الوصول مع المساء للجامعة; كلها تقول إن الدين في أعناقنا لم يوف ولم يدفع, بل إن القصص التي ما باتت تأتي وتذهب كان فيها الكثير مما يحبط. ولولا جهود شرحها المحافظ القدير اللواء مراد موافي والدكتور حسن راتب رئيس مؤسسة تنمية سيناء لبدا الأمر كله باعثا علي اليأس, وعلي مدي ما يقرب من ثلاثة عقود من التحرير فإن وعودنا بتنمية سيناء, والأكثر استعدادنا لدفع الدين في أعناقنا, كان محدودا وغير كاف. ومن المدهش أن ما جري لم يكن بسبب قصور في النظر, فمنذ التحاقي عضوا بمجلس الشوري وجدت عشرات التقارير والدراسات لدي المجالس التشريعية والمتخصصة والحكومة التي قالت كلها بضرورة تنمية سيناء, وكان الإلحاح علي ذلك يزيد في يوم التحرير25 إبريل من كل عام, وعندما تأتي ذكري معركة العبور في السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان كل سنة. ولكن الإلحاح الأكبر الذي كان يأتي كل يوم من الكتلة السكانية الأعظم إلحاحا في القاهرة والدلتا وأخيرا الصعيد كان يعني إما تأجيل مشروعات سيناء أو غض البصر عنها وانتظارها إلي يوم آخر. وكان معني ذلك القبول بمخاطرة كبري لوجود فراغ إستراتيجي يغري بالعدوان وهو ما بدأ يظهر بالفعل في أشكال مختلفة من التهديد قد يأخذ أشكالا إجرامية لتهريب المخدرات والبشر, وحفر أنفاق تنقل السلاح ذهابا وإيابا عبر حدود مصر الدولية, وعمليات إرهابية جرت في طابا وشرم الشيخ ودهب, واقتحام ما يقرب من700 ألف فلسطيني للأراضي المصرية. ولكن الخطر الاستراتيجي الأكبر سوف يظل إسرائيل خاصة طبقا للحالة التي تعيش عليها الآن, وشرحنا لها في مقال سابق بعنوان أكتوبر2010 حيث انتهي معسكر السلام ولم يبق إلا معسكر مجنون بغرور القوة وصلافتها. هذا الموضوع ربما نعود له في يوم آخر, ولكن ما يعنينا هنا أن التوازن الإستراتيجي الشامل مع إسرائيل يمكنه أن يتعرض للاختلال ما لم نتخذ خطوات جسورة للتعمير الشامل لشبه جزيرة سيناء خاصة في منطقتي الوسط والشمال, حيث يفيد ذلك عناصر القوة المصرية من ناحيتين: الأولي أنه سوف يكون أسرع الطرق لزيادة الثروة الاقتصادية لمصر والمصريين; والثانية أنه سوف يكون السبيل الأساسي لإقامة مانع سكاني هائل يصعب علي أي قوة عسكرية تخطيه فضلا عن اجتياحه أو اختراقه. لقد انتهي الوقت الذي كانت تمثل فيه الصحراء ورمالها ومضايقها مانعا طبيعيا أمام الغدر والعدوان الخارجي نتيجة التقدم التكنولوجي والقدرة علي نقل القوات الميكانيكية السريعة والقوة الكبيرة والهائلة للنيران. وعلي العكس فإن الصحراء الواسعة الفارغة من أهلها تعطي قدرة كبيرة علي المناورة, والنقل السريع للقوات, ومن ثم فإنها تتحول من مانع إلي معبر تتحرك فيه القوات, دون عائق أو مانع. كل ذلك لا يمكن مواجهته إلا بكتلة سكانية كبيرة وهادرة وديناميكية, ومن حسن الطالع أن حالة الخفة السكانية التي تعيشها سيناء تجعل التنمية أكثر سهولة بكثير من الوادي, حيث الضغوط الكبري الداعية إلي الحصول علي العائد الآن وليس استثماره من جديد لتحقيق التراكم المطلوب لقفزة تنموية. وتكتسب رؤية تعمير سيناء وجاهة خاصة مع الوضع في الاعتبار الموارد والإمكانيات الطبيعية التي تحظي بها سيناء, والتي تجعل منها أحد أهم مناطق التنمية والاستثمار في مصر. وكان ذلك هو ما كشفت عنه الخريطة الاستثمارية التي أعدتها هيئة الثروة المعدنية لاستكشاف أماكن المعادن والموارد التي تحتوي عليها سيناء والتي تمثلت في: الكاولين الذي تصل احتياطاته إلي100 مليون طن ويمكن استخدامه في صناعة الخزف, والرمال البيضاء التي تبلغ احتياطاتها مليارات الأطنان ويستعان بها في صناعة الزجاج والكريستال, والمنجنيز الذي يوجد في منطقة أم بجمة, والألبيتت الذي تصل احتياطاته إلي مليار ونصف المليار طن منها26 مليون طن احتياطات مؤكدة و811 مليونا احتياطات محتملة, ويستخدم في صناعة السيراميك, والطفلة الكربونية التي تبلغ احتياطاتها75 مليون طن في الكيلو متر المربع, وتستخدم في صناعة الأسمنت ومحطات توليد الكهرباء, والفحم الذي يوجد بمنجم المغارة والذي تقدر احتياطاته بحوالي27 مليون طن مؤكدة و52 مليون طن احتياطي جيولوجي. كما كشفت الخريطة التي أعدتها هيئة الثروة المعدنية وجود ثلاثة عشر نوعا من الجرانيت, وسبعة أنواع من الحجر الجيري, بالإضافة إلي وجود خامات أخري مثل الجبس, وكلورايد الصوديوم, والبنتونيت الذي يستخدم في عمليات حفر آبار النفط والمياه الجوفية, والنحاس, والذهب, والفضة, والكبريت الذي يقدر حجم الاحتياطي في المنطقة التي يوجد بها بين العريش ورفح بنحو30 مليون طن, ونظرا للأهمية الكبيرة التي يحظي بها, تم طرح أول مزايدة عالمية للتنقيب عنه. ورغم ذلك هناك تقديرات تشير إلي أنه لم يتم استغلال سوي1% من ثروات سيناء التعدينية حتي الآن. كما لم يتجاوز عدد المصانع الكبيرة في سيناء مصنعين وكليهما للأسمنت. وأن أقصي ما تحقق هو السياحة بأبعادها المختلفة لدرجة أنه تم اختزال المشروعات المقامة في سيناء في الجوانب السياحية, وأغلبها يتواجد في الجنوب. المدهش في الأمر أنه بعد تحرير سيناء في25 أبريل عام1982 كانت هناك حاجة إلي12 عاما إضافية حتي تم إقرارالمشروع القومي لتعمير سيناء في14 أكتوبر1994, الذي يعرف اختصارا باسم ممر التنمية, وكان يستهدف إنشاء ترعة السلام التي تزرع400 ألف فدان في وسط سيناء, وإقامة مجتمع عمراني جديد مكون من40 قرية علي جانبي الترعة, واستيعاب حوالي5 ملايين نسمة, بتكلفة قدرت في هذا الوقت بحوالي75 مليار جنيه. وقد تمت إعادة رسم المشروع في سبتمبر2000 ليضم محافظات القناة بتكلفة تقديرية بلغت251.7 مليار جنيه منها69 مليار جنيه لشمال سيناء, بحيث يسهم المشروع في توطين2.457 مليون نسمة بشمال سيناء وتوفير612 ألف فرصة عمل. وارتفعت التكلفة الإجمالية إلي نحو154 مليار جنيه, يشارك القطاع الخاص فيها بنسبة56% وحتي نهاية عام2009, تم تنفيذ بعض الأعمال والمشروعات التي تضمنها المشروع بتكلفة20.2 مليار جنيه, ساهم القطاع الخاص فيها بنسبة تقدر بحوالي31%(6.4 مليار جنيه), فيما ساهمت الحكومة بنسبة تقدر بنحو69%(13.846 مليار جنيه). لاحظ هنا الفترات الزمنية الطويلة ما بين كل خطوة وأخري, ولاحظ هنا أيضا ضعف الإقبال من ناحية القطاع الخاص علي عمليات التنمية في سيناء رغم ربحيتها المؤكدة نتيجة عدم الوضوح الكافي لأوضاع الملكية في سيناء وقصره علي حق الانتفاع الذي لا يغل قروضا ولا يكون سوقا إذا ما تم استخدامه بشكل شامل. وحتي تكون الأمور واضحة فإن أحدا لا يختلف علي ضرورة قصر الملكية علي المصريين; أما أن يعجز شيخ من شيوخ المجاهدين عن امتلاك المنزل الذي عاش فيه آباؤه وأجداده فإن في ذلك تزيدا وضعف همة. وظهر ذلك بشكل أكبر في المصير الذي آل إليه المشروع القومي لتنمية سيناء, ومن بين400 ألفا فدان كان من المستهدف استصلاحها من خلال المشروع بالاعتماد علي مياه ترعة السلام, تم استصلاح135 ألف فدان فقط في منطقة شرق البحريات, و60 ألف علي ترعة السلام. وفي مشهد من مشاهد التاريخ المصري وقف الرئيس مبارك في صورة لا تخرج من الذهن عندما بدأت المياه في التدفق من غرب القناة إلي شرقها بعد أن مرت أسفل قناة السويس في واحدة من أعظم المشروعات الهندسية التي عرفتها مصر. وربما لم يكن يماثل هذه اللحظة في تاريخيتها وأهميتها للمستقبل المصري إلا تلك اللحظة التي وقف فيها الرئيس جمال عبد الناصر وهو يشهد تحويل نهر النيل أثناء إقامة مشروع السد العالي. ومع ذلك فقد توقف المشروع, وغاب عن الذاكرة المصرية وجوده, وكأنه لم تنفق مئات الملايين من الدولارات علي الاستعداد والاستصلاح, ولا جري وضع السحارات, ولا عبرت مياه, ولا جهزت أرض, ولا ارتفعت توقعات شعب بأسره إلي عنان السماء. وربما لا تزال الأماني ممكنة كما يقال, فتبعا لما ذكره السيد محافظ شمال سيناء اللواء مراد محمد موافي في حوار ممتد طوال يوم الثلاثين من أكتوبر, فإن هناك خمسة محاور أساسية لتعمير سيناء: المحور الأول يتعلق بالتعمير الزراعي ويستهدف استصلاح275 ألف فدان علي مياه ترعة الشيخ جابر و70 ألف فدان علي المياه الجوفية والأمطار, وتنمية300 ألف فدان مراعي طبيعية, فضلا عن مضاعفة الإنتاج السمكي من سواحل البحر المتوسط, أما المحور الثاني فيختص بالتعمير الصناعي. والمحور الثالث يتعلق بالتعمير السياحي ويتم فيه استحداث مفهوم المنتجعات السياحية المتكاملة لخدمة أغراض السياحة الداخلية الراقية والسياحة العالمية. ويتصل المحور الرابع بالتعمير التعديني من خلال إقامة مشروعات إنتاجية واستغلال خامات الأسمنت والرخام والخامات المحجرية بوسط سيناء. أما المحور الأخير فيختص بالتنمية البشرية من خلال إنشاء11720 فصلا ابتدائيا و5940 فصل إعداديا, و5040 فصل ثانوي, وإقامة390 ألف وحدة سكنية في37 تجمعا عمرانيا جديدا, فضلا عن ذلك ربط المناطق المحرومة بخطوط المياه النقية الرئيسية واستكمال مشروع الصرف الصحي بمدينة رفح والبدء في مشروع مدينة الشيخ زويد. الخطط موجودة إذن وبكثرة, والإيمان والعزيمة متوافرة بغزارة, والدين في الأعناق هائل ويطلب السداد, والحكمة الإستراتيجية ترفض التأجيل والانتظار, ولكن من المؤسف أن يختفي الموضوع من المعركة الانتخابية الراهنة لمجلس الشعب بينما تحصل أسعار الطماطم علي نجومية ظاهرة. هنا فإننا لا نقلل من قيمة كل القضايا المصرية المعروفة, ولا نقلل من حجم الإنجازات التي تم وضعها موضع التطبيق, ولكننا نري أن التاريخ لن يسامحنا إذا لم نعد للأمر عدته, حيث إن ثمن ترك سيناء علي حالها دون ملايين من المصريين سوف يكون فادحا للغاية. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد