صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    انهيار أسعار الفراخ اليوم نهاية أبريل.. البيضاء نزلت 20 جنيه    تراجع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الثلاثاء 30 إبريل 2024    الجيش الأمريكي ينشر الصور الأولى للرصيف العائم في غزة    حقيقة نشوب حريق بالحديقة الدولية بمدينة الفيوم    مقتل 3 ضباط شرطة في تبادل لإطلاق النار في ولاية نورث كارولينا الأمريكية    موعد صرف مرتبات شهر مايو 2024.. اعرف مرتبك بالزيادات الجديدة    اندلاع اشتباكات عنيفة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال في مخيم عسكر القديم شرق نابلس    مباراة من العيار الثقيل| هل يفعلها ريال مدريد بإقصاء بايرن ميونخ الجريح؟.. الموعد والقنوات الناقلة    تعرف على أفضل أنواع سيارات شيفروليه    ظهور خاص لزوجة خالد عليش والأخير يعلق: اللهم ارزقني الذرية الصالحة    تعرف على أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منه    حبس 4 مسجلين خطر بحوزتهم 16 كيلو هيروين بالقاهرة    العميد محمود محيي الدين: الجنائية الدولية أصدرت أمر اعتقال ل نتنياهو ووزير دفاعه    هل أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء؟.. دار الإفتاء تجيب    السيطرة على حريق هائل داخل مطعم مأكولات شهير بالمعادي    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    تعرف على موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم للعاملين بالقطاع الخاص    نظافة القاهرة تطلق أكبر خطة تشغيل على مدار الساعة للتعامل الفوري مع المخلفات    د. محمود حسين: تصاعد الحملة ضد الإخوان هدفه صرف الأنظار عن فشل السيسى ونظامه الانقلابى    العثور على جثة طفلة غارقة داخل ترعة فى قنا    مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30 أبريل في محافظات مصر    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    فتوى تحسم جدل زاهي حواس حول وجود سيدنا موسى في مصر.. هل عاصر الفراعنة؟    شقيقة الأسير باسم خندقجي: لا يوجد أى تواصل مع أخى ولم يعلم بفوزه بالبوكر    بين تقديم بلاغ للنائب العام ودفاعٌ عبر الفيسبوك.. إلي أين تتجه أزمة ميار الببلاوي والشيح محمَّد أبو بكر؟    لتلوثها ببكتيريا برازية، إتلاف مليوني عبوة مياه معدنية في فرنسا    محلل سياسي: أمريكا تحتاج صفقة الهدنة مع المقاومة الفلسطينية أكثر من اسرائيل نفسها    حماية المستهلك: الزيت وصل سعره 65 جنيها.. والدقيق ب19 جنيها    أستاذ بجامعة عين شمس: الدواء المصرى مُصنع بشكل جيد وأثبت كفاءته مع المريض    مفاجأة صادمة.. جميع تطعيمات كورونا لها أعراض جانبية ورفع ضدها قضايا    حكم الشرع في الوصية الواجبة.. دار الإفتاء تجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    السجيني: التحديات عديدة أمام هذه القوانين وقياس أثرها التشريعي    رسميا.. بدء إجازة نهاية العام لطلاب الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية بهذا الموعد    بمشاركة 10 كليات.. انطلاق فعاليات الملتقى المسرحي لطلاب جامعة كفر الشيخ |صور    ضبط 575 مخالفة بائع متحول ب الإسكندرية.. و46 قضية تسول ب جنوب سيناء    مصدران: محققون من المحكمة الجنائية الدولية حصلوا على شهادات من طواقم طبية بغزة    المتحدث باسم الحوثيون: استهدفنا السفينة "سيكلاديز" ومدمرتين أمريكيتين بالبحر الأحمر    «هربت من مصر».. لميس الحديدي تكشف مفاجأة عن نعمت شفيق (فيديو)    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    ميدو: عامر حسين ب «يطلع لسانه» للجميع.. وعلى المسؤولين مطالبته بالصمت    مصطفى عمار: القارئ يحتاج صحافة الرأي.. وواكبنا الثورة التكنولوجية ب3 أشياء    بعد اعتراف أسترازينيكا بآثار لقاح كورونا المميتة.. ما مصير من حصلوا على الجرعات؟ (فيديو)    ما رد وزارة الصحة على اعتراف أسترازينيكا بتسبب اللقاح في جلطات؟    ليفاندوفسكي المتوهج يقود برشلونة لفوز برباعية على فالنسيا    توفيق السيد: لن يتم إعادة مباراة المقاولون العرب وسموحة لهذا السبب    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    تموين جنوب سيناء: تحرير 54 محضرا بمدن شرم الشيخ وأبو زنيمة ونوبيع    برلماني يطالب بالتوقف عن إنشاء كليات جديدة غير مرتبطة بسوق العمل    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    خليل شمام: نهائى أفريقيا خارج التوقعات.. والأهلى لديه أفضلية صغيرة عن الترجى    تقديم موعد مران الأهلى الأخير قبل مباراة الإسماعيلى    درجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 30/4/2024 في مصر    بالرابط، خطوات الاستعلام عن موعد الاختبار الإلكتروني لوظائف مصلحة الخبراء بوزارة العدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المكسيك وإن طال السفر:
ثاكاتيكاس.. مدينة بوجه وردي وقلب من فضة !
نشر في أخبار الأدب يوم 31 - 07 - 2010

"عندما تعودين، أريد أن أعرف كل شيء عن تجربتك المكسيكية". قال لي خوسيه أنطونيو ميندوثا قنصل المكسيك في القاهرة وهو يسلمني الفيزا. سألني في البداية إن كنت أعرف ثاكاتيكاس من قبل، فأخبرته مبتسمة أنني سمعت باسمها لأول مرة منذ شهرين فقط، فرد بثقة "ستكون مغامرة أن تزوريها". شرح لي أنها أهم المدن الكولونيالية في المكسيك، وأن وسط المدينة بالكامل موقع تراث عالمي تابع لليونسكو. شرد بعيدا متأملاً الأشجار عبر نافذة مكتبه في ضاحية المعادي، قبل أن يقول فجأة: ثمة دوماً صلات مشتركة بين البلاد ذات الحضارات العريقة مثل مصر، اليونان، المكسيك. ستتأكدين من هذا في ثاكاتيكاس.
كانت تلك هي المعلومة الوحيدة التي عرفتها عن المدينة قبل زيارتها، رفضت البحث عنها عبر جوجل كي أترك نفسي للمفاجأة والدهشة.
في الطائرة الأولي من القاهرة لمطار شارل ديجول حاولت أن أطرد من ذاكرتي كل الكليشيهات والصور النمطية التي تسوقها السينما الأمريكية عن المكسيك. اكتشفت أن معلوماتي عن هذا البلد ضئيلة بشكل مخزٍ. خطرت ببالي فريدا كاهلو للحظات. في الطائرة الثانية من شارل ديجول إلي مكسيكو سيتي بدأت أتدرب علي الصبر والانتظار وهما مفردتان لا أعرفهما. أقرأ بعض الوقت في رواية "بريك لين" لمونيكا علي، أغرق في تفاصيل حياة نازنين ورحلتها من القرية البنغالية إلي الحياة مع زوجها شانو في لندن. مدام بوفاري مسلمة هذه المرة، تدرك في النهاية أن لديها القدرة علي رفض العودة إلي بنجلاديش مرة أخري مع زوجها، وعلي رفض الاستمرار في علاقتها بحبيبها كريم، فقط لأنها لا تريد ذلك، ولأن ما فعلاه هو أن كلا منهما اختلق الآخر.
أترك الرواية وأعود لمراقبة الوقت الذي يأبي المضي قدماً. المسافة من باريس إلي مكسيكو سيتي اثنا عشر ساعة، في الأربع ساعات الأولي يكون الإحساس بالزمن قويا وحاداً، بداية من الساعة الخامسة لم أجد ما أشغل نفسي به، لا أستطيع النوم في الطائرة، ولا أرغب في مشاهدة أي فيلم. بعد الست ساعات الأولي فقدت إحساسي بالزمن تماما خاصة مع كوني لم أنم منذ 36 ساعة تقريباً. لو كان زيوس موجوداً الآن، مؤكد أنه كان سيجد عقاباً أكثر إيلاماً لسيزيف، بأن يجلسه في طائرة تجوب السماء بلا توقف. ليبقيه هكذا معلقاً بين السماء والأرض وطائراً للأبد في صندوق لا يتوقف للحظة واحدة. لكن لحسن الحظ، لست "سيزيف" علي أية حال، كما أن زيوس لم يتبق منه إلا مجموعة حكايات لا تخيف أحدا، والطائرة ستهبط أخيراً في المكسيك، لنستقل أخري من مطار بينيتو خواريث إلي مطار ثاكاتيكاس الصغير الذي ما أن نزلنا فيه حتي قلت لجمانة حداد وعبد القادر بن علي مازحة "هذه زيارتي الأولي والأخيرة للمكسيك". تحت تأثير الإرهاق وقلة النوم كنت قررت قبل حتي أن أري المدينة ألاّ أكرر هذه التجربة مرة أخري.
ما أن خرجت من المطار حتي واجهتني أشجار السرو والكينا والجازورينا لأشعر بألفة مع المكان. حسناً، أنا الآن في المكسيك، تحديداً في ثاكاتيكاس.. المدينة المتحف كما سأطلق عليها. أجلس في السيارة، التي ستقلني إلي الفندق، في انتظار بيتر فلورنس مدير هاي فيستيفال الذي لم تصل حقيبته. الجو يميل للبرودة والساعة تقترب من الثامنة مساءً أي الرابعة فجراً بتوقيت القاهرة. يأتي بيتر فلورنس أخيراً دون حقيبته. وتنطلق السيارة صوب فندق إمبريو في الوسط التاريخي للمدينة. أول ما يلفت نظري وأنا أراقب الطريق عبر زجاج نافذة السيارة هو تربة ثاكاتيكاس الحمراء. لم أرَ تربة بهذا اللون طوال حياتي. حقول ممتدة تشترك في لون التربة نفسه، نباتات وأشجار علي طول الطريق، أتعرف علي بعضها، وأفشل في التعرف علي البعض الآخر. بدخولنا المدينة ألاحظ مبانيها العتيقة بلونها الذي يقترب من الوردي الفاتح، وسط المدينة أقرب لمتحف مفتوح بالفعل. المباني كلها أثرية تم تحويلها إلي فنادق ومطاعم ومقاهٍ وبنوك، لا شيء يكسر هذا التناسق إلا سيارة صاخبة تمر من وقت لآخر. ثمة أغانٍ بالأسبانية تنطلق بصوت مرتفع من مكان قريب، بدت أشبه بموسيقي تصويرية تصاحب دخولنا الأول لثاكاتيكاس. أنا الآن شخصية في فيلم ما. وأنغام ثاكاتيكاس هي الموسيقي التصويرية لهذا الفيلم. يخطر في بالي كلينت ايستوود في "الطيب والشرس والقبيح"، أستعيد أفلام سيرجيو ليوني والغرب السباجيتي التي أحبها، لكنها لا تناسبني علي أية حال. حسنا، سأرتجل فيلماً مناسبا للأيام الثلاثة المقبلة، أما الآن فعليّ أن أنام دون حتي أن ألقي نظرة علي المنظر من شرفة غرفتي.
نمت في التاسعة واستيقظت في الثالثة فجراً. طوال فترة وجودي في ثاكاتيكاس سأنام وفقا لتوقيت القاهرة، لم تستوعب ساعتي البيولوجية فارق التوقيت، إلا مع موعد عودتي. مع استيقاظي لم أعرف علي وجه التحديد، ما الذي أفعله هنا في الطرف الآخر من العالم، كل هذه المسافة من أجل ندوة واحدة؟! مع الوقت يصبح السفر والانتقال من مدينة لأخري بمثابة لعبة مع الذاكرة وبالتالي مع النسيان. مدن عديدة مررت بها، بعضها ليوم واحد فقط (دوسلدورف وأشبيليه)، وبعضها لأسبوع أو أكثر. وفي النهاية تبقي شذرات غامضة من كل مدينة. لا تستطيع أن تقول أنك زرت هذه المدن، أو أنك تعرفها أو تعرفت عليها، فقط مررت بها كعابر سبيل، حاولت القبض علي قبس منها، علي لمحة من وجودها المتغير والمهتز، ولأنك متشكك بطبيعتك، ستقول أنك اختلقت هذه المدن، واخترعتها اختراعاً، بحيث حصلت في النهاية علي نسخة تخصك وحدك. حين كتبت عن جزائر البهجة كما يطلق عليها مواطنوها، شعرت بنزعة إكزوتيكية فيما كتبت، واعترض صديق جزائري علي رؤيتي للمدينة كمعرض للهويات المتجاورة، رغم أن فعلا بسيطاً كارتدائي حلي قبائلية من الفضة في شارع ديدوش مراد دفع البعض للظن أني جزائرية قبائلية، كأن أي إشارة بسيطة تصبح فعل إشهار لهوية ما في مواجهة الهويات الأخري.
هنا في ثكاتيكاس تذكرت الجزائر، المدينة الصاعدة أبداً الهابطة أبداً، كما وصفها رشيد بوجدرة. هنا ثمة جبل (جبلان في الحقيقة تتوسطهما المدينة)، تكسوه الأشجار، وشوراع صاعدة هابطة، وبيوت علي النمط الكولونيالي. لا يوجد شبه فعلي، إنما هي ألعاب الذاكرة، ورغبتها في اختلاق خطوط وهمية بين أشياء وأماكن نحبها. هي الألعاب نفسها التي دفعتني لتذكر أشبيلية طوال وجودي في ثاكاتيكاس، المدينة ذات الوجه الوردي والقلب الفضي، كما يسميها محبوها. لكن هذه المرة ثمة روابط أكثر متانة بين المدينتين، كون ثاكاتيكاس من المدن الكولونيالية فيما يُعرف بأسبانيا الجديدة، ومبنية علي النمط الأسباني. تذكرت بينما أسير في شوراع أشبيلية مع صديقتي أثير علي، أنها أشارت لي إلي برج الفضة قائلة أنه كان يستقبل الفضة المنهوبة من المستعمرات، وقتها لم أكن أعرف أن ثاكاتيكاس التي سأزورها بعد شهرين، كانت المنبع الأساسي للفضة التي يستقبلها هذا البرج. ففي وقت ما كانت ثاكاتيكاس تنتج خُمس إنتاج العالم من الفضة، ومن هنا اكتسبت أهميتها لدي الإسبان. تحتوي المدينة علي عدد من مناجم الفضة والذهب وغيرهما من المعادن، وكان كثير من سكانها يعملون في هذه المناجم إلي جانب الزراعة.
في صباحي الأول بمدينة الفضة والمباني الوردية، لم أجد ما أفعله في الثالثة صباحا إلا التنقل بين محطات التلفاز، كان مارك أنطوني يغني Recuerdame (تذكريني)، لأول مرة أنتبه إلي وسامته الخلاسية. قلت سيكون يوماً جميلاً ذلك الذي أفتتحه بأغنية أحبها. في التاسعة نزلت لتناول إفطاري، ثم خرجت لشوارع المدينة. بعض الأصدقاء كانوا حذروني من انتشار السرقة في المكسيك، فمشيت في البداية بحذر قابضةً علي حقيبة يدي، لكن سرعان ما لاحظت الأمان المخيم علي المدينة فتخليت عن حذري، تاركة نفسي للتسكع بلا هدف. أحب التوهان في المدن التي لا أعرفها. السير لأطول وقت ممكن دون خرائط (لا أجيد التعامل معها علي أية حال)، ودون خطط معينة في رأسي. عادة ما أخصص يومي الأول للتعرف علي المدينة بمفردي بلا شرح أو دليل، ثم إذا سمح وقتي، أعود للأماكن نفسها مع أحد العارفين بها، لأقارن إحساسي بها مع "حقيقتها". مع الوقت اكتشفت أن أكثر المدن بقاءً في نفسي هي تلك التي أتعرف عليها دون دليل. برلين التي تهت وتسكعت فيها لخمسة أيام كاملة مع زهرة يسري بينها ست ساعات سير متواصل في يوم واحد، نتبادل الحكايات والأسرار الصغيرة، وعدت إليها بعد خمس سنوات لأتعرف علي وجه آخر من وجوهها. ودوسلدورف (باريس الصغيرة) التي تعرفت عليها مع عباس بيضون، شفاه الله، وتجولنا فيها لساعات مهتدين بنهر الراين، مخترعين تفسيرات للتماثيل التي نقابلها، تحدثنا عن الفن التشكيلي من حامد ندا حتي أندي وارهول، وعن السينما والسياسة والشعر ذات صباح خريفي.
هنا في ثاكاتيكاس، قررت أن أكون وحدي تماما. أن أتوه في المدينة الكولونيالية الأثرية محاولةً اكتشافها بلا مرجعيات. أبدأ من شارع هيدالجو بالوسط التاريخي لثاكاتيكاس، حيث يقع الفندق الذي نزلنا فيه مواجهاً كاتدرائية ثاكاتيكاس أهم معالم المدينة، أقترب من الكاتدرائية، أدور حولها بشغف السيّاح. يبدو أنني أطلت النظر إلي النقوش والزخرفات علي واجهتها، فاقتربت مني مكسيكية
شابة موضحة أن هذه الكاتدرائية شيّدت كي تنافس كاتدرائية أشبيلية ثاني أكبر كاتدرائية في أوروبا. أقول لنفسي "أين هي من روعة ورهبة العمارة القوطية في كاتدرائية أشبيلية؟!" يبهرني الفن القوطي بكل أشكاله، وأنحاز له. غير أني أعود وأنفض انحيازاتي المسبقة. وأحاول تذوق العمارة هنا دون مقارنات. أنتبه إلي اختلافها عن الباروك الأوروبي. الباروك المكسيكي كما ألاحظه في الكاتدرائية وفي غيرها من المباني التاريخية ككنيسة سانت أوجستين، ومبني متحف رفاييل كورنيل، مزيج من الباروك الإسباني (علي نمط الChurrigueresque" "تحديداً، حيث الاهتمام الزائد بالتفاصيل والزخرفات والمنمنمات) ومن عمارة السكان الأصليين للمكسيك بكل ما تحمله من عراقة حضارة المايا والأزتيك. مع تجوالي من شارع لشارع ومن مبني أثري لآخر، أنتبه أكثر للحس البدائي الفطري الساحر لزخرفات الباروك المكسيكي. فطرية تداخلها الدقة والصبر علي هذا النحت للتفاصيل والمنمنمات. التأثير العربي الأندلسي لا تخطئه العين وهي تطالع عمارة ثاكاتيكاس فالباروك المكسيكي يستلهم أيضا العمارة الموريسكية المعروفة بال Mudejar "المدجن". الهُجنة إذاً والمزج بين عمارة أكثر من حضارة وثقافة هي ما يعطي عمارة ثاكاتيكاس هذه الفرادة.
اتخذت من شارع هيدالجو مرتكزاً لجولاتي اليومية في المدينة، أنحرف منه يساراً ويميناً وأعود إليه من جديد، أنتقل إلي خاردين خواريث "حديقة خواريث" أجلس فيها لبعض الوقت مستمتعة بالشمس في هذا الجو البارد نسبياً ومتأملةً الساحة الصغيرة التي تحمل اسمها، أتوجه لساحة أوز، ومنها إلي حديقة إنريكي سترادا، تلك الحديقة المقامة علي ما تبقي من موقع أثري لمكان كان يمد المدينة بالمياه في الماضي، لا خطأ في استخدام وصف "المقامة" مع الحديقة، فالحدائق هنا كما لاحظت هي مزيج من الأبنية والمساحات المزروعة، للحديقة سور وتصعد عدة درجات لدخولها، وتنتقل من مكان لآخر فيها عبر السلالم . أشجار ونباتات حديقة إنريكي سترادا منوعة من سرو ودلب وشجيرات ورد معمرة، غير أن أغرب ما لفت نظري فيها وجود شجرة برقوق هي شجرة الفاكهة الوحيدة بالحديقة. وأنا أجلس بالحديقة أتشاغل بتصوير نفسي، تنطلق الموسيقي والأغاني من جديد، لا أعرف من أين تنبع هذه الأغاني. انصت فقط مستمتعة، ومندهشة من ثاكاتيكاس مدينة الموسيقة الغامضة المنبعثة باستمرار من مكان ما.
أمر بمحلات الأرتيزانا والمشغولات والحلي الفضية، لا ينافسها في العدد إلا بائعي كتب الرصيف في شارع هيدالجو. أتناول قهوتي في ستاربكس الموجود هو الآخر في مبني أثري وردي اللون، وأفكر كيف هي المدينة خارج الوسط التاريخي؟
صباح الجمعة (يومي الثاني في المدينة) أتجه إلي متحف رفاييل كورنيل الذي يضم أكبر تشكيلة من الأقنعة المكسيكية التقليدية، أجده لم يفتح ابوابه بعد. أدور حوله متلصصة علي حديقته من الخارج، أجلس علي مقعد مثبت في الساحة أمامه حتي يحين موعد فتحه في العاشرة. أتوه في داخله لمدة ساعة مبهورة بمحتوياته. أخرج للشارع منتبهة لأول مرة لطرافة أسماء المحال والأماكن التي أقابلها: الكناري السعيد، صالة الفردوس، منجم عدن، الخ.
أقف ومتحف رافاييل كورنيل خلفي، أنظر عن يساري لأحد الجبلين اللذين يحتضنان المدينة بينهما. الجبل تغطيه الأشجار، البيوت الراقدة في حضنه تكاد تشوه صورة المدينة. بيوت مبنية بالطوب الأحمر دون طلاء، أو مطلية بألوان زاهية متنافرة. أتجاهلها وأخطو باتجاه شارع تاكوبا الذي وصلت إليه من خلف الكاتدرائية، أصل لساحة خينارو كودينا مؤلف مارش ثاكاتيكاس. أنا الآن في قلب الحياة الحقيقية للمدينة، بعيداً عن شارع هيدالجو بفنادقه ومقاهيه ومحلاته الفخمة. حسناً، ليس بعيداً جداً في الحقيقة، فالساحة، حيث أجلس الآن متأملة أشجار "أبو فروة" وتمثال خينارو كودينا تطل علي شارع تاكوبا الموازي لهيدالجو أفينيدا مباشرة، لكن الفارق كبير.
المكان هنا أكثر شعبية وفقراً، حيث الباعة الجائلون، والمتسولة التي تطلب النقود باسم المسيح، والرجل بقبعته المكسيكية "السومبريرو" الذي يسألني عن الساعة فأجيبه بإسبانية ركيكة أنها الثانية عشرة ظهراً ليرد بامتنان مبالغ فيه. حيث بائع عجوز يجر حماراً محملاً بأربعة أوانٍ فخارية مملوءة بمشروب أبيض شفاف، أطلب منه أن ألتقط صورة لبضاعته فيوافق بحبور، ويبتعد عنها تاركاً لي أن أصورها وحدها. سأعرف فيما بعد أن هذا المشروب هو الأجوا مييل أو ماء العسل ويستخرج من عصارة نباتات وأعشاب تزرع في جبال ثاكاتيكاس. أفكر في تذوقه، غير أني أنفض الفكرة عني. ألمح لافتة مكتوب عليها سوق خينارو كودينا، أتجه إلي الممر حيث اللافتة، فأجد سوقاً شعبيا، لبيع الخضروات المقطعة، والسمك النيء والفواكه والتاكو.
أغادر السوق عائدة لسيري في شارع تاكوبا، وأواصل طريقي للخروج من الوسط التاريخي للمدينة، لأفاجأ بمدينة أخري لا تشبه الوسط التاريخي، موقع التراث العالمي، في أي شيء.. هنا الفقر والعشوائية، والضجيج. هنا الحياة بوجهها الحقيقي بعيداً عن المتاحف والتاريخ وموسيقي ثاكاتيكاس الغامضة. بعد جولة في الزحام، أعود من جديد لشارع هيدالجو بعد أن تعرفت علي وجه آخر لمدينة الفضة والمناجم.
أكرر جولتي نفسها صباح السبت، أمر بنفس الشوارع والميادين آملةً أن يمدني التكرار بزوايا جديدة للرؤية. وبالفعل مع كل جولة أكتشف بعداً جديداً أو ملمحاُ كان متوارياً عني في المرات السابقة. أتكلم مع باعة كتب الرصيف فيسألونني عن جنسيتي، وحين يعرفون أني مصرية، يصابون بالدهشة كما لو كنت أخبرتهم أني من المريخ، سأعرف فيما بعد أن مصدر دهشتهم أن المكسيك كلها لا يوجد بها إلا 250 مصرياً أو أكثر قليلاً، معظم من رأيتهم أخبروني أنهم لم يقابلوا مصرياً أو مصرية من قبل في ثاكاتيكاس.
في المساء موعد ندوتي، ضمن مهرجان هاي ثاكاتيكاس وبرعاية جائزة البوكر العربية. الندوة كانت عبارة عن حوار أجرته معي الشاعرة اللبنانية جمانة حداد حول كتابتي والأدب العربي بشكل عام. شاركت جمانة بعدها بساعتين في قراءة شعرية مع عدد من الشعراء من أمريكا اللاتينية والعالم، وكان لديها في اليوم التالي ندوة أخري بعنوان "كتابة الحواس"، أما الكاتب الهولندي المغربي عبد القادر بن علي فتحدث في المهرجان عن كتابه الجديد "كرة القدم في قلب أفريقيا"، ضم المهرجان أيضا ندوات منوعة حول كرة القدم والعلاقة بين الأدب والسينما، إضافة إلي حفلات موسيقية ومعارض فن تشكيلي متنوعة. كما احتفي بالروائي البرتغالي الراحل جوزيه ساراماجو. غادرت ثاكاتيكاس صباح الأحد متجهة إلي مكسيكو سيتي ومنها للقاهرة عبر باريس، فيما ظلت جمانة حداد في المكسيك عدة أيام أخري لإطلاق الترجمة الإسبانية لديوانها "مرايا العابرات في المنام" الصادر عن منشورات "فاسو روتو.. برشلونة ومكسيكو".
في الطائرة الصغيرة التي أقلتني من ثاكاتيكاس إلي مكسيكو سيتي، كان الكاتب المكسيكي أنطونيو سكارميتا منهمكاً في قراءة التغطية الصحفية لندوته بالمهرجان عن كرة القدم وعلاقتها بالأدب، بدا كمن يتأكد من أن الصحفي قد نقل كلماته كما هي، يقرأ التغطية، ثم يعاود قراءتها من جديد، فيما كنت أفكر في أن ثاكاتيكاس تمثل نموذجاً يمكن الاحتذاء به في التعامل مع كنوزنا الأثرية بطريقة نتمكن عبرها من عيشها والامتزاج بها لا عزلها عن مجريات حياتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.