ليس أكثر من حسن طلب إخلاصا في انتظار القصيدة, إنها ضالته. وقد أسفر انتظاره عن أحد عشر ديوانا جعلت له صوتا فريدا في اللعب من أوسع أبوابه.. الشعر. حسن هو الصانع الأمهر في جيله. لكن لا تفتش عنده عن الطبع مقابل الصنعة, فكلاهما يتحول علي يديه الي شيء واحد هو القصيدة, وهو لا يسوقك إليها بالعصا, بل يتركك تكتشف أن جماليات هذه القصيدة هي نفسها جماليات الحياة. ** في ديوانه الجديد يكتب الباء يقرأ الجسد, الصادر أخيرا عن دار العين بالقاهرة, يقطر حسن اللغة لصالح الأنثي. بادرته بسؤال عن الحسية المتفشية في أرضية الديوان, عن الجسد.. ما هو, ولماذا يقرؤه الآن, بعد الستين؟ أقرأ الجسد الآن لأني كتبته من قبل في الأربعين! كتبته لذاتي, وأنا اليوم أقرؤه لذاته, اللحم والدم يتحولان الي حروف وكلمات في أثناء القراءة! الكتابة خبرة ذاتية محصورة في نطاق يخص الإنسان الفرد, ومن هنا يكتب سائر الأفراد أجسادهم علي النحو الذي يريدون, ولكن القراءة فعل علني لا سرية فيه, لابد للقاريء من مستمعين. ما أقصده هو أن الأحاسيس شيء والتعبير عنها شيء آخر. اللغة جسد آخر, إذا جاز التعبير, تشكله أعضاؤه من الحروف, ومرة من الخزف, أو الصلصال.. اللغة مادتك المطيعة التي تراهن عليها ويبدو أنك تشطح في الرهان! ليس الأمر مجرد رهان, فأنا ممن يؤمنون بأن الشعر فن لغوي في المقام الأول, وأول ما يفرضه هذا الإيمان هو ضرورة التمييز بين مستويين من مستويات اللغة, الأول نفعي عملي, لا نريد فيه من اللغة إلا أن تكون مجرد وسيلة لأداء المعني المطلوب من أقرب الطرق, وهذا هو ما تمثله اللغة التي نستخدمها في حياتنا اليومية. أما المستوي الثاني, فيستحيل أن تكون اللغة فيه مجرد وسيلة لقضاء المصالح أو للتفاهم اليومي المشترك, بحيث لا نريد منها غير ما تؤديه من معان مباشرة! بل ترقي اللغة لتصبح غاية بقدر ما هي وسيلة, فلا تصبح الأولوية للتعبير الدقيق عن المعني, ولكن للكيفية التي يتم بها هذا التعبير, فأنت لا تقف في القصيدة الجيدة عند معانيها فحسب, كما يفعل قاريء المقال في الجريدة مثلا! وإنما تقف, أولا, عند توافقات الكلمات والحروف والمعمار الإيقاعي الذي ينشأ عن بنية العمل كله, وإذا كنت قارئا محبا للشعر واعيا به, فستسلم نفسك بالتأكيد للطاقة الإيحائية التي تحملها لغة القصيدة وإيقاعاتها, بغض النظر عن المعاني المباشرة. الشعراء كلهم يتغزلون في المرأة الجميلة مثلا, فما الذي يجعلنا نفضل نزار قباني علي مقلديه؟ لا شيء سوي اللغة, أما المعاني فمطروحة علي قارعة الطريق. ثقافتنا العربية تستخف باللعب, بينما أنت تحتفي به, قصيدتك هي نوع من اللعب المفرط, كأنه كل ما تريد من القصيدة. ديوانك آية جيم يؤكد ذلك. نعم, أوافقك علي أن ثقافتنا العربية في مجملها هي التي وصمت مفهوم( اللعب) باللهو أو العبث, ولعل العارفين بالفكر الغربي يدركون كيف أن فلاسفة محدثين ومعاصرين كبارا, قد بينوا أن الفن في جوهره نوع من اللعب, ومن هنا كان الشعراء الكبار لاعبين كبارا في الوقت ذاته, وهذا يصدق علي شكسبير وجوته كما يصدق علي أعظم الشعراء في تراثنا, تأمل مثلا لعب أبي العلاءالمعري بالألفاظ والقوافي خاصة في( اللزوميات)! بل إن في تراثنا شعراء أقل مكانة وشهرة, ولكنهم استطاعوا أن يحدسوا قيمة( اللعب) باعتباره نوعا من الحرية, ويحضرني هنا قول البهاء زهير:( أنا بالعالم ألعب)! ولكن مشكلتنا أننا لا نقرأ. * رؤية الحياة من زاوية فلسفية ملمح بارز لشعرك, السؤال عن عقبة التواصل مع المتلقي العادي باجتراح الفلسفي والشعري في آن, هل يمكن الجمع بينهما في نص واحد.. أن تجر عربة الفلسفة الي الشعر, وتحتفظ, في الوقت نفسه, للنص بوهجه؟ أود أن أميز هنا بين أمرين: الفلسفة باعتبارها علما أو فرعا من العلوم الإنسانية, يدرس طلابها النظريات والمذاهب, والفلسفة باعتبارها درجة من التعمق في التفكير, الفلسفة بهذا المعني موجودة تلقائيا, الشاعر الحقيقي لا يستطيع إلا أن يكون فيلسوفا بمعني ما, وبالمقابل قد يكتب الفيلسوف شعرا ولكنه يظل فيلسوفا فحسب, وهذا بالضبط هو ما أحاول أن أتجنب الوقوع فيه. * الزخرفة, الباهظة أحيانا, سمة أيضا في نصك, فهل أنت غير قادر علي إيقاف تقليم أصابعك؟ ظنك في محله,, مع تعديل بسيط ولكنه مهم, هو أنني( غير راغب), أما( غير قادر) هذه, فيمكن أن تقال عن الانتقال من الأهون الي الأصعب أو من البسيط الي المركب! إن ما نسميه( زخرفة) بكل ما يحمله اللفظ من دلالات سلبية, قد يكون فنا حقيقيا عظيما إذا نحن لم نستسهل إصدار الحكم, وإلا فإن في أروع المواويل الشعبية التي لا نزال نرددها مع أهلينا ونعجب بها, زخارف تفوق أضعاف ما قد يوجد في بعض قصائدي! علينا أن نعرف إذن كيف نميز بين زخارف خارجية يلجأ إيها بعض المقلدين من الشعارير, وزخارف أخري لا تنفصل عن بنية القصيدة, وإلا انهار العمل من أساسه. * دعني أسألك عن المعرفة.. أعني الإفراط حين يتلبس النص, ألا يحوله ذلك الي شيء غير قادر علي النبض, أقصد أن المعرفة قد تكبل القصيدة, أم أن المحك في قدرة الشاعر علي تسريب ما يعرف؟ هذا هو: قدرة الشاعر علي توظيف ما يعرف, بل وقدرته علي عدم توظيفه حين يكون عدم التوظيف في صالح القصيدة, العناصر المعرفية في القصيدة ليست شرا ولا خيرا! يتوقف الأمر علي كونها جزءا من نسيج القصيدة أم لا. * أنتقل معك الي المشهد الشعري الراهن. مع أني أكتب قصيدة النثر, لكني أري أنها كانت الباب الموارب الذي تسللت منه أصوات غير موهوبة. ثم إن القصيدة العمودية قد لفظت أنفاسها الأخيرة برحيل عبد الله البردوني والأصوات الجهيرة الأخري. كيف تثمن أنت هذا المشهد؟ باختصار.. لا أظن أننا نستطيع في غيبة نقاد الشعر, إلا أن نرفع شعار: البقاء للأصلح, والأصلح هنا هو الشعر الحقيقي, عموديا كان أو تفعيليا أو قصيدة نثر.