يوم الخميس الماضي تفضل الرئيس حسني مبارك فدعا عددا من المثقفين المصريين, كنت واحدا منهم, الي لقاء معه في قصر العروبة بمصر الجديدة امتد أكثر من أربع ساعات, ودار فيه حوار طويل متشعب بين الرئيس وضيوفه. وقد عبرت في كلمة نشرت في الأهرام يوم الجمعة الماضي عن انطباعاتي الشخصية حول هذا اللقاء, وأريد في هذه الكلمة أن أجيب عن بعض الأسئلة المسكوت عنها أو التي طرحها بعض الصحفيين, وبعض المثقفين الذين لم يحضروا اللقاء ممن نظروا إليه بتقدير واعتبروه بداية لعلاقة جديدة بين السلطة والثقافة, ومن لم يفهموا المقصود من هذا اللقاء, وربما كانت لهم ملحوظات سلبية عليه. والسؤال الأول الذي طرح هو: ما الذي روعي في اختيار المثقفين المدعوين لهذا اللقاء؟ أن يمثلوا أنفسهم وينطق كل منهم بلسانه؟ أم ليمثلوا جماعة المثقفين وينوبوا عنها وينطقوا بلسانها؟ وأنا لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال إجابة اطمئن إليها, فأنا لست الداعي, ولم أستشر في الاختيار, غير أن معرفتي بالمدعوين تتيح لي أن أقول إنهم كانوا تأليفا من الفريقين. لاشك في أن فيهم من اختير لشخصه ليمثل نفسه ويعبر عن رأيه, وفيهم أيضا من اختير لأن له وضعا أو صفة يستطيع بها أن يمثل غيره, وإن لم يمنعه هذا من أن يمثل نفسه أيضا. غير أن هناك قاسما مشتركا بين معظم المدعوين هو أنهم, علي اختلاف منطلقاتهم الفكرية واختياراتهم العملية, منحازون لمبادئ الاستنارة العقلية والإصلاح السياسي التي ينحاز لها ويجاهد في سبيلها معظم المثقفين المصريين الذين تمنيت أن يكون معنا في هذا اللقاء بعض الذين لم يحضروه منهم. فإذا كان ما ذكرته صحيحا فباستطاعتي أن أقول إن هناك سعيا للاتصال بمن يمثلون مبادئ الاستنارة وحاجة لإدارة حوار معهم. السؤال الثاني الذي طرح علي هو: لماذا هذا اللقاء الآن؟ وجوابي أن المرحلة التي نمر بها الآن مرحلة فاصلة تستدعي التفكير والعمل والسهر والاتصال بمختلف القوي والفئات والشخصيات والانصات لها, وتقليب وجهات النظر, والاتفاق علي المبادئ والقواعد, وتحديد المشكلات واستعراض الحلول المقترحة. نحن نمر بمرحلة انتقالية صعبة نحاول فيها أن نخرج نهائيا من النظام الشمولي الموروث, وأن نتخلص من كل قيوده وسلبياته وما جره علينا من فساد وتخلف وجوع وانحطاط, وننتقل منه إلي النظام الديمقراطي بكل أركانه. دستور يتأسس علي ما يجمع بين المصريين علي اختلاف أصولهم وطبقاتهم الاجتماعية وعقائدهم الدينية, واتجاهاتهم الفكرية والسياسية, ويضمن لهم أن يكونوا هم وحدهم سادة أنفسهم, وأن يتحرروا من كل سلطة مسبقة مدنية أو دينية, مرئية أو غير مرئية, ومؤسسات يتحول بها الدستور الي عمل وطني منظم, ونشاط فكري وسياسي نمارسه بحرية مطلقة تمكننا من أن نتعرف علي مشكلاتنا وأن نضع الحلول لها, ونفتح الطريق علي سعته لتداول السلطة أمام الأحزاب المختلفة وأمام البرامج المطروحة, ماعدا تلك الأحزاب والجماعات التي تسعي للقفز علي الديمقراطية لتهدمها من داخلها وخارجها, ولتغتصب السلطة وتحتكرها لنفسها باسم تفسيرات مضللة للنصوص الدينية وتصورات وهمية للتاريخ, والمشكلات التي نواجهها في هذه المرحلة ليست داخلية فحسب, وإنما تتجاوز الداخل إلي الخارج القريب والخارج البعيد, لأن إعادة تنظيم أوضاعنا في الداخل تفرز أفكارا ومصالح وحاجات تؤدي بالضرورة لإعادة النظر في علاقاتنا مع الخارج وترتيبها من جديد, كما أن التطورات الجذرية التي حدثت في العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة تؤثر علي أوضاعنا الداخلية. كل شيء تغير عندنا وعند غيرنا, لكن وعينا بهذه التغييرات الداخلية والخارجية مازال قاصرا, ومازلنا نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين في كثير من المجالات, وكثير من الحالات, كما كنا نفعل في ستينيات القرن الماضي. من هنا أقول إن المرحلة التي نمر بها الآن مرحلة فاصلة, ولهذا فهي مرحلة خطيرة, وربما كانت مخيفة. فإذا كانت المرحلة كما وصفتها فنحن نحتاج أولا وقبل كل شئ الي ثقافة إنسانية تضعنا في قلب العصر, ووعي جديد شامل نسيطر به علي مقدراتنا. وتلك هي رسالة المثقفين. ونحن نحتاج الي هذه الثقافة وهذا الوعي لنغير الواقع, فلابد من ادارة الحوار بين رجال الفكر ورجال السياسة. واللقاء إذن بين المثقفين والرئيس طبيعي ومنطقي وضروري. وهو يلبي حاجة مشتركة لدي الطرفين. الرئيس يهمه أن يتعرف علي رؤية المثقفين للمرحلة وتحدياتها, والمثقفون يهمهم أن يستمعوا للرئيس ويعرفوا ما لديه من تصورات وخطط ومشاريع وردود علي التحديات التي نواجهها والمشكلات التي نشقي بها. وأخيرا, فقد تساءل بعضهم عن معني هذا اللقاء, وهل يعتبر انحيازا للسلطة وخروجا علي مبدأ الاستقلال الذي يجب أن يلتزمه المثقف حتي لا تتحول الثقافة إلي أداة من أدوات السياسة؟ وأنا أتفهم جيدا هذه التساؤلات, فالأساس الأخلاقي للنشاط الثقافي شرط جوهري بالنسبة لي. وأنا أعرف جيدا أن طريق المثقف غير طريق السياسي, وأن ارتباط النشاط الثقافي بالنشاط السياسي يقيد النشاطين, وقد يحول الثقافة إلي دعاية, وقد يحول السياسة إلي أحلام يقظة فإذا كان الفصل بين السياسة والثقافة ضروريا لضمان حرية المثقف وتمكينه من أداء واجبه في التذكير بالمبدأ وتقديس المثل الأعلي, ومراقبة العمل, ونقد الأوضاع القائمة, فالفصل بين النشاطين لا يمنع الحوار بينهما, لأن رجال الفكر يسعون إلي تحويل أفكارهم إلي واقع, ولأن رجال السياسة يسعون لعرض برامجهم علي الناس, ومناقشتهم فيها, وإقناعهم بها. ولن يتحقق هذا إلا بوعي كاف وثقافة مشتركة. وهكذا يتقاطع الطريقان, طريق السياسي وطريق المثقف, يتقاطعان إذا ارتبط الفكر بالواقع, وأصاخت السياسة سمعها لصوت الضمير!