تري كيف قامت الجماعات الدينية في بلادنا بتنشئة أبنائها عبر تاريخنا المصري منذ الفتح العربي عبورا بسقوط الخلافة الاسلامية وكارثة يونيو1967 وماتلاها؟ وهل العنصر الثابت في تلك التنشئة هو رفض الآخر أم القبول بوجوده؟ وهل طرأ تغير جوهري علي أساليب تلك التنشئة في الحقبة الأخيرة؟ أم أن مايبدو لنا من تغيرات إيجابية أو سلبية لايعدو أن تكون نوعا من المواءمة لأحداث مستجدة فرضت ضروراتها؟ أعرف أن الاجابة عن تلك الأسئلة عبء ثقيل ينوء به كاهل الفرد ويحتاج الي عصبة من أولي العزم من العلماء الوطنيين المتخصصين في علوم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والاقتصاد, فضلا عن المتخصصين في تاريخ الكنيسة والأزهر, وقبل كل ذلك أن تتاح لتلك العصبة مفاتيح الملفات القديمة والجديدة التي يغلفها الصمت بحجة عدم فتح الجراح حرصا علي الوحدة الوطنية. إنني أقرب الي الاعتقاد من خلال استقراء تاريخنا القديم والمعاصر, أن الامل بعيد في تحقيق تلك الأمنية وأنه حتي اذا ماتوافرت تلك العصبة من أولي العزم, فإن الأبواب ستظل مغلقة علي ملفات المعلومات, ولقد فكرت حقيقة في إغلاق الملف ونفض يدي من تلك القضية, لكني آثرت أن أكمل إبراء ذمتي بطرح تصور شخصي لمنهج الاجابة عن تلك التساؤلات أعرف يقينا أن محاولة الاقتراب من الموضوع دون توافر معلومات موثقة كافية يكون محفوفا بمخاطر الخطأ والتحيز, ولكني أثرت المخاطرة بطرح مايمكن أن يكون ورقة خلفية قد تصلح كمدخل لخطة عمل تناقشها تلك العصبة من أولي العزم من العلماء الوطنيين المتخصصين اذا ماأذن المولي سبحانه وتعالي وهو القادر علي كل شيء بفتح الابواب المعلوماتية الموصدة. تري هل المرء ملزم بالدفاع عن تاريخ جماعته التي ينتمي اليها وتنقية صفحتها مهما شهد ذلك التاريخ من مظالم؟ هل علينا لكي ندافع مثلا عن تاريخنا الفرعوني ونفخر به أن يقتصر حديثنا علي مايحفل به التاريخ الفرعوني من منجزات علمية وحضارية باهرة دون أن نشير الي تأليه أجدادنا لحكامهم وممارستهم للاستعباد وهل انتماؤنا للتاريخ الاسلامي أو المسيحي يفرض علينا ان نركز علي روحانية الدين وسمو القيم التي نادت بها الاديان وأن نطمس علي تلك الدماء التي سالت في معارك بين بشر يحملون رايات دينية ويزعمون ان قتالهم انما هو دفاع عن التفسير الصحيح للعقيدة ؟ بعبارة أخري هل ثمة مايبرر تنزيه بشر عن الخطأ بل والخطيئة؟ تشير الحقائق الموضوعية التاريخية إلي أنه يندر أن توجد جماعة بشرية لها تاريخ ممتد يخلو تاريخها من ممارسة الظلم وسفك الدماء وذلك بصرف النظر عن سمو ونقاء القيم الفكرية التي ترفع شعارتها تستوي في ذلك مذابح ستالين الشهيرة, ومذابح الخمير الحمر في كمبوديا ومذابح العديد من الديكتاتوريات عبر التاريخ وماشهدته البشرية من حروب دامية تحمل أطهر الرايات الدينية الداعية للسلام والمحبة والتسامح. لقد مارس المسلمون والمسيحيون كغيرهم من الجماعات عبر التاريخ العديد من المذابح سواء حيال المختلفين في المذهب أو في الدين او حتي حيال من يحيط الشك بسلامة عقيدتهم, ولعلنا لسنا في حاجة للخوض تفصيلا في وقائع الفتنة الكبري أو عصر الشهداء أو وقائع محاكم التفتيش في العصور الوسطي, أو حروب الفرنجة التي عرفت باسم الحروب الصليبية او حروب الثلاثين عاما. لقد تفنن الجميع في ابتكار أساليب القتل والتعذيب من السيف الي دفن المرء حيا الي الحرق علي مرأي ومسمع من الناس الي الشواء في التنور الي قطع اليدين والرجلين واللسان والاذان وجدع الانف وسمل العينين والسلخ والكي, وحرق الاقدام بالفحم المشتعل, والتجويع التدريجي, فضلا عن التمثيل بجثة المقتول. المباديء إذن شيء وأفعال البشر شيء آخر, فالبشر ليسوا أوفياء دائما لمبادئ دياناتهم وعقائدهم, وتتباين الجماعات بعد ذلك ونتيجة لعوامل شتي من حيث موقفها مما يحمله تاريخها من مخاز أقدم عليها الاسلاف وأسلاف الأسلاف. من الجماعات وأخشي أن نكون منهم من يحجم عن الاعتراف بتلك المخازي باعتباره يتيح الفرصة للأعداء لنهش الجماعة والتهجم عليها وإذلالها, ومن ثم فلا سبيل سوي الانكار التام, فاذا ماتعذر ذلك فلنلتمس الاعذار للطغاة والجلادين والظلمة والمعتدين مبررين ماأقدموا عليه من جرائم بأنهم كانوا مضطرين او لم يكونوا البادئين, أو أنه لم يكن بد من وقوع تلك الجرائم التي تعد هينة اذا ماقورنت بما تحقق من انجازات حضارية وإنسانية كبري, أو أن تلك الجرائم كانت سمة العصر ولم تكن مقصورة علي أسلافنا وحدهم. ومن الجماعات من لايري بأسا في الاعتراف بما ارتكبه الاسلاف القدامي من جرائم, معلنين للجميع أنهم براء من جرائمهم دون إنكار انتسابهم لهم. لقد ارتكب اسلاف الامريكيين المعاصرين جرائم الإبادة العنصرية حيال السكان الاصليين وخاض الشماليون حربا ضروسا ضد الجنوبيين, ومارس الجدود المباشرون وليس الاسلاف القدامي جريمة التمييز العنصري ضد السود, ومارس جدود الالمان جرائم الابادة الجماعية, ومارس اسلاف الاوروبيين, كما اشرنا العديد من المذابح التي رفعت راية الصليب والتي مزقت اوروبا واشعلت أوار التعصب الديني والقومي, لم يتنكر أي من هؤلاء لتاريخه ولم ينكره, ولم يسع لتبريره بل صارحوا أنفسهم قبل غيرهم بما ارتكبه اجدادهم واسلافهم وأسلاف الاسلاف من مخاز وتبرأوا بملء أفواههم من تلك المخازي وكان إنجاز تلك المصارحة شرط ضروري للوصول الي ماتحقق من مصالحة مع النفس ومع الآخرين وعلي اساس من هذه المصالحة تضاءل الاحساس بالتهديد وأمكن بناء الثقة المتبادلة بين المواطنين واستطاعوا بناء الوحدة الوطنية دون خوف من تذويب او ابتلاع. تري لماذا تباينت مواقف الجماعات من حدود الدفاع عن التاريخ؟ لا يتسع المقام لتفصيل, ولكن أيا كانت الاجابة فإنه لابد لنا قبل الحديث عن الوحدة الوطنية أن ننجز مصارحة تاريخية متبادلة تكون بداية لمصالحة توحد الجميع في ظل دولة مدنية حقيقية.