لماذا يشوب عملية التحول الديني في بلادنا ذلك القدر الهائل من التوتر والانفعال والعنف؟ تري هل ينطلق ذلك العنف من الدفاع عن العقيدة الدينية أو عن الجماعة الدينية؟ أترانا حين نتحدث عن الانتماء الإسلامي أو الانتماء المسيحي أو اليهودي إلي آخره نقصد الحديث عن التزام المرء بما تتطلبه عقيدته من مسلمات فكرية وممارسات سلوكية؟ أم أننا نقصد انتماءه لجماعة المسلمين أو المسيحيين أو اليهود؟ وهل ثمة اختلاف بين الأمرين؟ بعبارة أخري هل ينتمي المرء إلي الدين أو إلي جماعة من البشر تجمعها عقيدة دينية معينة؟ ان المعتقدات جميعا سواء كانت رسالات سماوية, أو صياغات بشرية كالماركسية والوجودية والبوذية إلي آخره. إنما تبدأ بفكرة ينقلها رسول أو يدعو لها فرد. ولكن تري ما الذي يحكم انتشار فكرة بعينها لتتحول إلي تيار تاريخي عالمي أو عقيدة دينية يؤمن بها مليارات البشر, في حين يقتصر انتشار بعضها بحيث لا يتجاوز نطاق جماعة بشرية ضيقة تعد علي الأصابع؟ تري هل تظل ملامح الفكرة في عقول معتنقيها ثابتة علي ما هي عليه منذ نشأتها الأولي, أو أنهم يؤولونها ويختلفون في التأويل بدرجة تزيد أو تقل؟ إن انتشار الفكرة أو العقيدة يعني حرفيا انتقال ملكيتها من صاحبها لتصبح ملكا مشاعا للجماعة, خاصة يعد رحيل صاحبها, وللجماعة أن تأولها وفقا لما تراه صوابا ومناسبا, وقد يختلف أفراد الجماعة حول تلك التأويلات اختلافا يصل احيانا إلي حد التقاتل بالسلاح بل وانشقاق كل جماعة فرعية بتأويلها الذي تراه الأقرب للصواب. إن تلك الرحلة الطويلة للفكرة من عقل وفم صاحبها الي أن تتحول الي تيار فكري ممتد ومتشعب, لا تمضي بعيدا عن الظروف الاجتماعية التاريخية المصاحبة لنشأتها, والتي تصاحب تطورها, ولعل ما يعنينا من ملامح الدور الذي تلعبه تلك الظروف يمكن إيجازه في النقاط التالية: أولا: تحدد مرحلة التطور التي يمر بها مجتمع معين نوع المشكلات التي تواجهه في ذلك العصر, وبالتالي فإنها تحدد المجال الذي يحظي بانتشار الافكار التي تحمل حلولا لتلك المشكلات, سواء كانت مشكلات تقنية تكنولوجية, أو مشكلات اجتماعية, أو اقتصادية أو سياسية. ثانيا: تفرض مرحلة التطور التي يجتازها المجتمع نوعا من الحظر علي الترويج لأفكار بعينها محبذة الترويج لأفكار أخري, وتختلف درجة صرامة الحظر كما يتباين حجم التحبيذ من مجتمع لآخر ومن مرحلة تاريخية لأخري. ويسري ذلك الموقف الاجتماعي علي الأفكار العلمية والسياسية والدينية علي حد سواء. وتظل حياة الجماعة واستمرارها وقوتها, وكذلك ضعفها وذبولها بل واندثارها, متوقفا علي ما يعرف بانتماء أعضاء الجماعة لجماعتهم, والانتماء حاجة نفسية طبيعية لدي الفرد ولكنها بشأن غيرها من الحاجات النفسية الطبيعة. لا تتحقق تلقائيا وفي كل الظروف. كما أنها لا تتخذ نمطا سلوكيا واحدا للتعبيرعن نفسها, بل تتعدد تلك الأنماط اتساعا وضيقا, وكذلك تنافرا وتكاملا, والانتماء الذي يعنينا في هذا المقام هو الانتماء للجماعة الدينية. أن أحدا مهما بلغت مثاليته لا يمكن أن يتصور أن الفرد يبدأ انتماءه للجماعة الدينية بالمقارنة بين العقائد الدينية المختلفة والمفاضلة بينها إلي أن تطمئن نفسه ويرتضي عقله عقيدة معينة فينتمي إلي جماعتها, فشهادة ميلاد الطفل في بلادنا تحمل بيانا بديانته وفقا لديانة والديه, وبصرف النظر عن تسجيل ذلك البيان أو عدم تسجيله, فإن الطقوس الاجتماعية الدينية لتكريس انتماء الطفل للجماعة الدينية تبدأ قبل أن يشب علي الطوق, وتبدأ الأسرة منذ سنواته الأولي في تزويده بما يرسخ لديه أنه ينتمي لجماعة اسرته الدينية, ثم قد يبدأ أخيرا في التعرف علي المبادئ الفكرية للعقيدة الدينية التي انتمي اليها بالفعل, وقد يداخله الشك في سلامة معتقده, بل وقد لا يكون ملتزما بأداء الشعائر الدينية, ولكنه يظل رغم ذلك ملتزما بالدفاع عن جماعة انتمائه الديني نظرا لما يتيحه له هذا الانتماء من أمان وطمأنينه وما يثيره الانشقاق عليها من قلق نفسي ومعاناة اجتماعية. وقد أتيح لي خلال خبرات الحياة اليومية, فضلا عن سنوات طوال من ممارسة العمل في عدد من مجالات علم النفس التطبيقية ان التقي بالعديد من يحملون هويات تفصح عن ديانتهم سواء كانوا من المسلمين أو المسيحين أو اليهود, وألحظ رغم ذلك أنهم لا يلتزمون في سلوكهم الظاهر بما تفرضه تلك الديانات من التزامات تتعلق بالملبس والطعام والشراب فضلا عن الأخلاق, بل إن بعضهم قد يسخر في جلساته الخاصة من رموز العقيدة التي ينتمي إليها موجها لتلك الرموز العديد من أوجه النقد الساخرة والقاسية, ومع ذلك أجدهم يتشنجون غضبا إذا ما صدر عن آخر ولو تلميحا ما يبدو إهانة لأصحاب تلك العقيدة أو مساسا برموزها المقدسة, حتي لو استخدم ذلك الآخر نفس الألفاظ التي يستخدمونها قيما بينهم, خلاصة القول إذن ان الانتماء يكون بالدرجة الأولي لجماعة من البشر وليس لعقيدة مجردة, وأنه من خلال تدريب الجماعة لأبنائها علي الانتماء تتحدد نظرتهم للآخر المختلف ويتشكل سلوكهم نحوه. تري كيف قامت الجماعات الدينية في بلادنا بتنشئة أبنائها عبر تاريخنا المصري مند الفتح العربي عبورا بسقوط الخلافة الإسلامية وكارثة يونيو1967 وما تلاها؟ وهل العنصر الثابت في تلك التنشئة هو رفض الآخر أو القبول بوجوده أو هل طرأ تغير جوهري علي اساليب تلك التنشئة في الحقبة الأخيرة؟ أو أن ما يبدو لنا من تغيرات إيجابية أو سلبية لا تعدو أن تكون نوعا من المواءمة لأحداث مستجدة فرضت ضرورتها؟ إن الإجابة عن تلك الأسئلة عبء ثقيل ينوء به كاهل الفرد ويحتاج إلي عصبة من أولي العزم من العلماء الوطنيين المتخصصين في علوم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والاقتصاد فضلا عن المتخصصين في تاريخ الكنيسة, والأزهر, وقبل كل ذلك أن تتاح لتلك العصبة مفاتيح الملفات القديمة والجديدة التي يغلفها الصمت بحجة عدم فتح الجراح حرصا علي الوحدة الوطنية