من حقائق علم النفس ان تماسك الجماعات محكوم بقوانين علمية ثابتة لعل اهمها درجة ثقة الجماعة بنفسها ثمة قصة من قصص التراث العربي تروي ان زرقاء اليمامة قد استشرفت خطرا يهدد جماعتها فحذرت منه ولكن تحذيرها النخبوي تبدد ادراج الرياح ولم يتحول إلي ادراك جماعي لذلك الخطر, فلما وصل الاعداء إلي قومها انتصروا عليهم, وقلعوا عين زرقاء اليمامة, ولعل تلك الرواية التراثية تتفق مع حقيقة تؤكدها دراسات علم النفس السياسي فضلا عن تجارب علم النفس الاجتماعي مؤداها اننا نتصرف افرادا وجماعات وفقا لادراكنا للواقع الذي قد يختلف عن حقيقة ذلك الواقع. ثمة حقيقة اخري من حقائق علم النفس الاجتماعي مؤداها باختصار ان تماسك الجماعات محكوم بقوانين علمية ثابتة لعل اهمها درجة ثقة الجماعة بنفسها والتي تتباين وفقا لمدي ادراك ابناء الجماعة لما تتمتع به جماعتهم من قوة وقدرة علي كسب حب واقتناع المحيطين بهم ومن ثم يزايد احساسها بالأمان, وفي هذه الحالة تكون الجماعة أكثر تسامحا حتي حيال تجاوزات الآخرين, موقنة بان تلك التجاوزات لاتهدد وجودها الثابت والمستقر, وتري ان التسامح والشفافية, والقبول بالاختفلاف وتشجيع الحوار يؤدي إلي زيادة جاذبيتها لاعضائها بل, واكتسابها لاصدقاء جدد, ومن ثم فإنها تربي ابناءها علي دفع السيئة بالحسنة, والاحسان حتي لم يسيئون إليهم, وان خيرهم اعذرهم للآخرين, وان عبارة ربنا يسامحك لاتعني الضعف بل القوة وحسن الخلق فضلا عن انها قد تخجل الآخر وتحوله إلي صديق.. إلي آخره. وتتلاشي مثل تلك العبارات اذا ما ساد الجماعة احساس بأنها الاضعف وانها مهددة بالافناء والتذويب, وانها محاطة بعالم يكرهها ويستقوي عليها ويترصدها, ومن ثم يتملكها الذعر, وتتبني نوعا مختلفا من آليات التماسك مثل التعصب, والعنف حيال المارقين, وتضخيم دلالة اي حدث عابر يمكن الايهام بانه يمثل انتصارا علي الآخر أو هزيمة له, والخوف من الاعتراف بأية سلبيات مهما كانت خوفا من ان يستغلها ذلك الآخر المتربص ولاتجد مثل تلك الجماعة سبيلا سوي احاطة نفسها باسوار سميكة حتي لايخترقها الآخرون, واذا استحالت اقامة تلك الاسوار ماديا أو تشريعيا, فلتكن اسوارا نفسية شاهقة الارتفاع تحول دون التواصل مع ذلك الآخر المعادي المتربص, واذا حتمت ظروف الحياة الواقعية نوعا من التواصل فليكن تواصلا مخططا محسوبا عبر نخب واعية, يصعب استمالتها أو احتواءها, فاذا ما حدث المحظور فلتتصاعد الصرخات بالويل والثبور وعظائم الامور, واغلب الظن ان الجماعات الفرعية في بلادنا سواء كانت جماعات دينية أو سياسية أو حتي رياضية اقرب الاحساس بالتهديد. ولكن لعلنا مازلنا نذكر وحدة الامة حين استشعرت خطرا يهدد وجودها حيث اندمجت جماعاتنا الفرعية وانصهرت في كيان واحد, كما حدث علي سبيل المثال لا الحصر خلال حقبة حروب الفرنجة واحداث ثورة1919 ونكسة1967 حتي انتصار اكتوبر.1973 والسؤال هو: ألا بد من كارثة تهدد الوطن ليتوحد ابناءه؟ هل لابد من ان يدرك ابناء الجماعات الفرعية ان الخطر علي الابواب يهددهم جميعا ليصدقوا نبوءة زرقاء اليمامة؟ صحيح ان وحدة الجماعة يمكن ان تتحقق دون وجود مثل ذلك الخطر المادي الداهم, بتوافر الوعي بأن ثمة تحد يواجه الامة, ولكن يظل لادراك الجماعة ان ثمة خطرا داهما علي أبوابها بمثابة الاداة الفعالة لتوحيدها, ولذلك فان الدول تقوم احيانا باصطناع ذلك الخطر وتضخيمه لكي يزداد تماسكها في مواجهته, والامثلة القريبة منا غنية عن البيان. ولكن تري لماذا لم تنجح الاخطار المحيطة بنا في صهرنا بالدرجة المرجوة المتناسبة مع تلك المخاطر رغم اعلان الجميع عن وجودها وان اختلفوا في ترتيبها من حيث الشدة والاسبقية من مياه النيل إلي انتاج القمح إلي الممارسات الإسرائيلية إلي الهيمنة الأمريكية إلي التذويب في العالم العربي أو الإسلامي أو الغربي إلي آخره؟ لعل التفسير يكمن فيما اشرنا إليه من وجود تلك الفجوة بين الواقع المادي ودرجة الوعي به او ادراكه وليس مجرد التصريح اللفظي بوجوده, ان خطرا داهما مهما بلغت خطورته لايؤدي إلي وحدة الامة تلقائيا, فتحول ذلك الواقع إلي وعي اصبحت تتحكم فيه في عالم اليوم اجهزة اعلامية عالية الكفاءة باهظة التكاليف يقوم عليها من يمكن ان نطلق عليهم صناع المزاج القومي وعن طريق هؤلاء تتشكل ملامح عملية التنشئة الاجتماعية. سوف يجد المرء دوما من يهمس في اذنه إن الخطر المقبل يهددهم ولا يهددنا, فدعهم يواجهونه وحدهم لعله يخلصنا منهم أو علي الاقل يكسر شوكتهم او تجد من يردد انه خطر موهوم اصطنعوه لاخافتنا ودفعنا إلي فقدان هويتنا والذوبان فيهم وابتلاعنا, أو انه خطر داهم حقا ويهدد الجميع حقا ولكن لا سبيل لمواجهته مجتمعين أو فرادي فإذا ما اصروا هم علي مواجهته فليواجهوه وحدهم فلعلهم اذا انكسروا وجدنا لنا مكانا في ركاب المنتصرين أو انهم يزعمون انه خطر ولكنه في الواقع نصرة لنا عليهم وتمكين لانتمائنا لجماعتنا الاكبر التي تتجاوز حدود الوطن الضيقة. وهكذا تتوالي دعاوي تحريف الانظار عن الخطر وتتعدد تأويلاته الادراكية, ومن ثم تتعدد بل تتناقض المواقف حياله بين مستهين ومشكك ويائس ومرحب. ان قوم زرقاء اليمامة اجمعوا علي تكذيبها فحاقت بهم الهزيمة جميعا وقلع الاعداء عيون زرقاء اليمامة, ولكن القصة التراثية لم تنبئنا بمصير تلك الجماعة بعد ان حاقت بهم الهزيمة, هل استعادوا قوتهم وقهروا اعداءهم ام كان مصيرهم الفناء؟ علي اي حال فقد كانت صناعة المزاج القومي انذاك صناعة بدائية ولعل جماعة زرقاء اليمامة كانت قبيلة صغيرة يصعب تفتيتها إلي جماعات فرعية اصغر, اما فيما يتعلق بنا فالأمر اعقد بكثير, اجهزة صناعة المزاج القومي الداخلية والخارجية أكثر حنكة وتمويلا وقدرة علي التبرير بل والتشويش والمخاطر المحيطة بنا متعددة الرايات والالوان بحيث لم يعد ميسورا تبين صوت زرقاء اليمامة وسط اجهزة التشويش الحديثة.