لم يكن صباح يوم السبت( التاسع من يناير الحالي) صباحا عاديا, بل كان, عن حق, صباح عزة وحرية وكرامة, في هذا اليوم كنا, وجمع غفير من شيوخ وشباب وفتيان من أغلب محافظات مصر. نقف باحترام وإجلال أمام حسد مصر العالي الذي كان قد أتم في هذا اليوم عيده الخمسيني, وكانت المفاجأة أننا وجدناه, بعد كل هذه السنين, كما وصفه المهندس إبراهيم أبو زيد رئيس هيئة السد العالي, وكما تحدث عنه منذ أيام قليلة: السد العالي ليس له عمر افتراضي فكل الأرصاد والمتابعات الدورية التي تدرس تأثير عوامل الزمن عليه منذ إنشائه وحتي الآن تؤكد أنه بني كما لو كان بالأمس, وأنه في كامل قوته. ما رأيته من حال السد وكل ما حوله من الجسم الهائل للسد وللأنفاق والبوابات والتوربينات والبحيرة, وما قرأته من توصيف لحال السد الآن من الرجل المسئول عنه بقدر ما أسعدني وأعاد تجديد مشاعر عزة وحرية وكرامة عاشها جيلي مع كل يوم من معارك السد منذ إعلان مشروعه حتي إتمام إنشاءاته, بقدر ما وضعني وجها لوجه أمام معادلة ملحمة تحدي بناء السد وبالتحديد طرفي هذه المعادلة: السد وبناة السد. فإذا كان السد معجزة, واعترف العالم, عن جدارة, بأنه مشروع القرن العشرين, أي أهم المشروعات التنموية التي شهدها القرن العشرون, فإن بناة السد هم أيضا معجزة, لأنهم من شيد معجزة السد, ومن خاضوا معاركه, ولذلك فرض السؤال التالي نفسه: إذا كان حال السد العالي الآن يؤكد أنه كما لو كان بني بالأمس وأنه في كامل قوته, فهل بناة السد هم أيضا علي حالهم الذي كانوا عليه يوم أن خاضوا معاركه وواجهوا تحدياته, مازالوا هم أيضا في كامل فتوتهم وقوتهم وقدرتهم علي التحدي وتحمل مصاعبه ومخاطره, هل مازالوا علي جدارتهم ومكانتهم التي كانوا عليها يوم أن خاطبوا العالم كله بصوت رجل واحد, ورفضوا كل الضغوط, وخاضوا المعارك التي فرضت عليهم وقالوا حنبني السد, أم ماذا حل بهم وماذا جري لهم وماذا أصابهم؟ السؤال كان قد فرض نفسه علي الندوة التي عقدت بنادي المحامين في أسوان ليلة التاسع من يناير الحالي ضمن احتفالات العيد الخمسيني للسد, والاحتفاء ببناة السد وتكريمهم, ولكنه طرح بشكل آخر علي هامش حوار أكثر تشويقا حول السد وأسطورته وحكايته وحكاية شعبه وأيهما أولي بأن يكون الحكاية هل السد هو الحكاية أم الشعب الذي بني السد هو الحكاية؟ إن من يتعرف علي السد كسد سوف يصل إلي يقين بأنه أسطورة وليس فقط حكاية, فهو بناء من رخام الجرانيت والرمال والطمي تتوسطه طبقة صماء من الطين الأسواني يتجاوز حجمه ثلاثة أهرامات مثل هرم خوفو, طوله عند القمة3820 مترا, وأقصي ارتفاع له111 مترا, وعرض قاعدته980 مترا, أما عرضه عند قمته التي هي طريق السد فهو40 مترا, أي أنه هو الآخر يأخذ شكل الهرم, أو هو مجموعة أهرامات متلاصقة. أما بحيرة ناصر( بحيرة السد) فتصل سعتها إلي164 مليار متر مكعب, ويوجد بالسد ستة أنفاق لتمرير المياه والتحكم فيها, أما عدد الوحدات الكهربائية( التوربينات) فيصل إلي12 وحدة قوة كل وحدة175000 كيلووات. هذا السد الضخم والعالي بلغت تكلفته الاجمالية وقت التنفيذ400 مليون جنيه ولو أردنا بناءه اليوم وسيتكلف18 مليار جنيه( حسب تقدير شيخ المهندسين إبراهيم زكي قناوي), أي أن هذا السد العالي الذي أصبح معجزة القرن العشرين لم يكلف مصر أكثر من تكلفة بناء عدد محدد جدا من القري السياحية في الساحل الشمالي التي يزورها أصحابها شهرا أو شهرين علي مدي السنة. قد يصعب علي غير المتخصصين أن يستفيض في الحديث عن معجزة السد في بنائه وفي تأمينه, وفي فوائده, تلك المعجزة التي تجعلها حكاية في ذاته, لكن حتما ستبقي الحكاية ناقصة دون الوعي بالنصف الآخر للمعادلة أي حكاية الكفاح اللي ورا السد و حكاية الشعب اللي بني السد حكايتنا احنا, احنا المصريين الذين بنينا السد والذين حفرنا قناة السويس, والذين أممنا القناة, ودافعنا عنها بدمائنا وأرواحنا كي نبني السد ليس فقط من أجل استخلاص مليون أو مليوني فدان من براثن الصحراء, ولا لمجرد الحصول علي10 ملايين كيلووات من الكهرباء فحسب, رغم الأهمية القصوي لهذا أو ذاك, ولكن أيضا, وهذا هو الأهم, أن نبني سد العزة والحرية والكرامة, من أجل أن نبني الأمل. هذا هو المعني الذي أراد الزعيم جمال عبد الناصر أن يؤكده في خطابه الذي ألقاه في أسوان بمناسبة البدء في بناء السد العالي يوم9 يناير1960 بقوله: إن الأهداف أيها الأخوة التي لا تحققها العزة والكرامة, لا تساوي عناء الكفاح من أجلها, فإن الطريق الذي نسلكه في غايتنا يجب أن يتناسب في جلاله مع هذه الغايات. ولقد كان أعظم ما عزمه شعبنا العربي علي النجاح.. عزمه أن أختار أصعب الطرق, لا لأنه أصعب الطرق, ولكن لأنه أشرفها, وأكثر استقامة, وأكثرها اتساقا مع الهدف الذي نسعي إليه. قيمته الكبري انه إرادة حررها أصحابها, ثم كرموها, ثم صمموا علي أن يسيروا في طريقها, ثم صمموا علي أن يجعلوا هذه الحرية عاملة.. مستمرة, وإنما توجهوا بها وتوجهت بهم ليكتبوا أروع صفحات في تاريخ كفاحهم, يواجهوا عهد البناء ليعيدوا صنع حياتهم علي أساس يرتضونه بعد أن ظلوا طويلا في حياة فرضت عليهم فرضا من السيطرة الداخلية والسيطرة الخارجية. عندما قال جمال عبد الناصر ذلك وأكده كان يضع المعالم الأساسية لأصل حكاية السد وحكاية الكفاح اللي ورا السد منذ أن قررت قيادة الثورة بناء السد ضمن مشروعاتها لتنمية مصر زراعيا وصناعيا, وحتي إتمام بناء السد والمعارك الضارية التي خاضتها من أجل بنائه, ابتداء من استرضاء الغرب للحصول علي دعمه للمشروع وتمويله, إلي سحب الغرب وبالذات الولاياتالمتحدة وبريطانيا والبنك الدولي للإنشاء والتعمير عرض تمويل السد عقابا لمصر التي رفضت أن تنخرط في سياسة الأحلاف وأن تنجر إلي مشروعات التفاهم مع إسرائيل علي حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه, وردا علي توقيع مصر أول اتفاقية لكسر احتكار السلاح مع الاتحاد السوفيتي بعد الرفض الأمريكي لتسليح الجيش المصري ليكون مستعدا للرد علي الاستفزازات والاعتداءات الاسرائيلية بعد الاعتداء الاسرائيلي علي قطاع غزة عام1955. لقد كان قرار سحب تمويل بناء السد العالي أحد الحوافز المهمة لتؤمم مصر قناة السويس في26 يوليو عام1956, وبعدها جاء العدوان الثلاثي( البريطاني الفرنسي الاسرائيلي) المخطط أمريكيا لاستعادة القناة ومعاقبة مصر علي تجرئها ضد السادة الكبار, لكن الشعب المصري صمد ودافع عن قناته واستشهد الآلاف من أجل استعادتها كما استشهد مئات الآلاف في حفرها, وليبني سد العزة والحرية والكرامة بسواعد عشرات الآلاف من الفلاحين والعمال والمهندسين والخبراء الذين استشهد المئات وربما الآلاف منهم خلال سنوات بناء السد ليكون شاهدا علي ملحمة شعب وقصة كفاح أمة ورمزا لإرادة صلبة من نوع نسيج هذا الشعب. تحية إلي هذا الشعب.. إلي فلاحيه وعماله.. وكل بنائيه الشرفاء.. وإلي سدهم العالي الخالد بخلودهم.