العودة مرة أخري إلي المفاوضات المباشرة, لم تكن مناسبة لإعادة إنتاج معطيات المشهد الفلسطيني الداخلي بعلله التقليدية فحسب, حيث الانقسام حول الموقف من الشرعية الدولية, ومن المقاومة المسلحة وكذلك الانقسام حول خيار السلام, ومن ثم الانقسام حول المفاوضات الراهنة. بل يمكن القول أن ثمة انتكاسات جديدة شهدتها الجبهة الفلسطينية الداخلية, بمناسبة موافقة السلطة علي الانخراط من جديد في مفاوضات مباشرة مع الطرف الاسرائيلي, بحيث يبدو أن أي مقاربة عقلانية لمعطيات المشهد الفلسطيني في بعده الداخلي عشية انطلاق المفاوضات, تمثل عملية شاقة علي من يتصدي لها, لأنها ستواجه علي الارجح إما بسوء الفهم من البعض, أو بسوء النية في التأويل من آخرين. نقول هذا بمناسبة الرابط الشرطي الذي أقامه كبير المفاوضين الفلسطينيين الدكتور صائب عريقات, بين مستقبل المفاوضات المباشرة في جولتها الجديدة من جهة, ومستقبل النظام السياسي الفلسطيني في كل من الضفة وغزة من جهة ثانية. فنجاح المفاوضات بحسب تصريحات كبير المفاوضين معناه نجاح السلطة ومن ورائها حركة فتح ومنظمة التحرير وهزيمة حماس. أما فشل المفاوضات فمعناه انتصار حماس وهزيمة السلطة ومن يقف معها أو خلفها. معادلة صفرية وصراع علي التمثيل والمعني الكامن وراء تصريحات كهذه, أنه ليست هناك من طريقة لتعايش قطبي الساحة الفلسطينية معا, وأن هناك متسعا لطرف واحد منهما فقط. فشل المفاوضات سيسقط السلطة والمنظمة, ويراكم النقاط كلها في سلة حماس, ونجاحها سيكون له أثر معاكس. هذه المعادلة الصفرية القائمة علي إما نحن وإما هم بدت هي القاعدة الحاكمة أو القانون الناظم للعلاقة مع الآخر الفلسطيني عشية اطلاق العملية التفاوضية من جديد. وبالمقابل بدت العلاقة مع الآخر الاسرائيلي محكومة بقواعد أخري, لان جوهر العملية السلمية التي ينخرط فيها المفاوض الفلسطيني يقوم علي فكرة الاعتراف و التعايش مع الآخر الاسرائيلي. ومن ناحية أخري, وعلي صعيد الطرف الثاني في المعسكر الفلسطيني, اختارت حماس المكان والزمان المحددين ونفذت عملية الخليل العسكرية مساء الثلاثاء31 أغسطس الماضي أي قبل أقل من48 ساعة من موعد انطلاق المفاوضات في واشنطن بعد توقف استمر لشهور عديدة.!! ومع أن هذه العملية تحمل بغطائها الاعلامي التقليدي, صفة المقاومة ضد الاحتلال, فإن النظر في حيثياتها ومدلولاتها, وخصوصية الظرف الزمني والموضوعي المحيط بها, يوفر القناعة التامة بأنها موجهة ضد السلطة ومن ورائها منظمة التحرير قبل أي شئ آخر ومحاولة لضرب الجهد السياسي الفلسطيني وإسقاطه, دون توافر خطة بديلة واضحة, الأمر الذي يخرجها أي عملية الخليل من سياق المقاومة للاحتلال, ويضعها تلقائيا في خانة الاحتراب الداخلي والانقسام والانفصال. وإذا كانت كتائب القسام التابعة لحماس, قد ادعت أن عملية الخليل جاءت ضمن استراتيجية المقاومة من أجل دحر الاحتلال وإنجاز التحرير والاستقلال, فان تصريحات أحمد يوسف مستشار إسماعيل هنية, تفيد بأن العملية هي بمثابة رسالة سياسية موجهة للخارج عامة, وللولايات المتحدة خاصة( التي حرصت علي التأكيد أن لا دور لحماس في هذه المفاوضات) بأن حماس لا تقبل بتجاوزها في مسائل تتعلق بالمستقبل أو التمثيل الفلسطيني, حتي ولو أدي ذلك إلي إضعاف المفاوض الفلسطيني, وإلحاق الضرر بالمصلحة الوطنية الفلسطينية. أي أن الصراع علي القيادة, والتمثيل, والقرار الفلسطيني, أصاب البعض بالعمي الاستراتيجي بشأن الحسابات والتقديرات والتعاطي السياسي مع المستجدات. إذ ماذا قدمت عملية الخليل, سوي إبراز الاستيطان كملف أمني إسرائيلي, بشكل أضفي قدرا من المصداقية علي مطالب إسرائيل الامنية, وهو ما مكن نيتانياهو من طرح الملف الامني في جلسة الافتتاح في واشنطن, كملف أساسي له الاولوية علي الملفات السياسية المهمة كملف الحدود. وهكذا جهلا أو عجزا عن فهم الواقع أو حتي هروبا منه, أو ربما انصياعا لأطراف إقليمية, وضعت القوي السياسية الفلسطينية المقاومة نفسها في حالة تعارض مع السلام وأدواته, كالمفاوضات والتسوية السياسية, والشرعية الدولية والقانون الدولي, مما أضعف مشروع السلام الفلسطيني والقائلين به, وأضعف أيضا نهج المقاومة والقائلين به, لانها ببساطة حرمت نفسها مما تتيحه خيارات الطرف الآخر. سياسة انعزالية ومن ناحية ثالثة, إذا كانت عملية الخليل قد وفرت غطاء ما لقيام الاجهزة الامنية في الضفة بشن حملة اعتقالات واسعة, طالت المئات من كوادر ومناصري حركة حماس, فإن الطريقة التي اقتحمت بها نفس هذه الاجهزة, قاعدة البروتستانت التي كانت معدة لاحتضان مؤتمر سلمي دعت إليه قوي وطنية فلسطينية ومستقلين, قبل نحو أسبوع من إنطلاق المفاوضات, بدت صادمة للرأي العام الفلسطيني في الضفة. فالمؤتمر كان بهدف الاعلان عن رفض العودة للمفاوضات بدون مرجعية وقبل وقف الاستيطان, والقوي التي دعت إليه هي من داخل بيت الشرعية الفلسطينية, أي ليست حماس أو الجهاد, بل هي في قلب القيادة الفلسطينية ذاتها, حيث إن بعضهم أعضاء في اللجنة التنفيذية للمنظمة. وموقفها الذي أرادت التعبير عنه هو نفس موقف الرئيس أبومازن, عندما أوقف المفاوضات مشترطا هذين الشرطين قبل العودة إليها. ومن هنا فقد انطوت الطريقة التي حالت بها اجهزة السلطة الامنية بين انعقاد المؤتمر علي دلالات خطيرة, منها: أن النظام السلطوي الذي تم بناؤه في الضفة وصل إلي نقطة تحول جديدة, بحيث لم يعد معها يطرد حماس خارجه فقط, بل أصبح علي استعداد لطرد تنظيمات مؤسسية في منظمة التحرير, وتحويلها إلي شلل من الخوارج والملعونين. ومن هنا كانت صدمة جبهتي الديموقراطية والشعبية, ومعهما حزب الشعب. أكثر من هذا, أنه أي نظام السلطة أصبح فيما يبدو مستعدا للتضحية بجمهور فتح وكوادرها, ليحل محلها أجهزته الامنية. وهذا يبدو في التحليل الاخير وكأن النظام في الضفة يعزل نفسه بنفسه عن شركاء الامس, ويقيم قطيعة مع تقاليد منظمة التحرير وتاريخها. والنتيجة المنتظرة جراء كل ذلك, المزيد من الاحتقان السياسي في الضفة, والمزيد من تصدع النسيج الاجتماعي الفلسطيني, سواء بفعل الاعتقالات الجماعية المبالغ فيها, أو بفعل الامعان في عزل الشركاء السياسيين وتهميشهم, قبل المعارضة. وفي ظل أجواء كهذه لا ينتظر أن يفاوض الطرف الفلسطيني من موقع قوة, أو في مناخ موات علي أقل تقدير, يحظي فيه بدعم فلسطيني سياسي وشعبي في داخل وخارج منظمة التحرير, كما هو واقع الحال علي صعيد الطرف الآخر من المعادلة التفاوضية, حيث يقف الجميع في إسرائيل حكومة ومعارضة خلف قيادته. وهكذا تحولت المفاوضات, التي يفترض أنها معركة مع الاحتلال( تستدعي الإعداد الجيد لها) وجزء من استراتيجية مواجهة شاملة معه, تشارك فيها كل القوي الفلسطينية بما فيها المعارضة للسلطة ونهجها, الي عامل إضافي لإذكاء نار المناكفة الفصائلية والخلافات الداخلية, بل وربما الاحتراب الأهلي, وإن بوتيرة منخفضة, الامر الذي يضعف المفاوضين علي الطاولة, ويضعف معارضي المفاوضات علي حد سواء, وبالتالي يتقوي المفاوض الاسرائيلي الذي يوظف الانقسام الفلسطيني, ويوظف كذلك المعارضة الاسرائيلية لتجميد الاستيطان, كأوراق قوة علي طاولة المفاوضات. إذن لقد انزلق النظام السياسي الفلسطيني بعيدا عن أصوله كحركة تحرر وطني, وباتت القضايا الخلافية بين مكوناته, سواء كسلطة أو معارضة, أو حكومة غزة أو حكومة الضفة, أكثر خطورة وإشغالا للشعب الفلسطيني من جوهر القضية وهو النضال ضد الاحتلال.