بعد جمود استمر أكثر من عام كامل, جاءت خطوة المفاوضات غير المباشرة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل برعاية أمريكية, تتمثل في جهود المبعوث الأمريكي الخاص روبرت ميتشل. وهي خطوة تختلف عليها التقديرات, فالمؤيدون يرون أنها أفضل من لا شئ, وانها قد تفضي إلي مفاوضات مباشرة لاحقا, ومن ثم إلي دولة فلسطينية في حدود عام1967 مع تعديلات محدودة, وذلك رغم علمهم أن الولاياتالمتحدة لم تقدم أية ضمانات بشأن مصير هذه المفاوضات, وأن الوعد الأمريكي بإعلان من المتسبب في فشل هذه المفاوضات ليس سوي ذر للرماد في العيون ولن يقدم ولن يؤخر شيئا, بل ربما تنتهي الولاياتالمتحدة إلي اعتبار هذا الفشل المتوقع نتيجة تعنت السلطة الوطنية الفلسطينية ذاتها, وبالتالي تزداد عليها الضغوط بدلا من أن تمارس هي الضغوط باعتبارها صاحبة الحق في الارض وفي الحرية والاستقلال. أما المعارضون فيرون أنها دليل علي تراجع آخر للرئيس محمود عباس, وأنها تضفي شرعية علي الممارسات الاسرائيلية التي تستهدف تهويد القدس والضفة الغربية عبر خطط استيطانية واسعة المدي, في وقت لم تعد فيه خيارات المقاومة الفلسطينية بنفس الحماس والقدرة علي التطبيق. وربما جاز القول هنا إن ثمة مؤشرات علي تدحرج كرة الثلج ممثلة في الاحتجاجات الفلسطينية المتكررة ضد الممارسات الاسرائيلية الاستيطانية والتي تطول مقدسات المسلمين في القدس وفي الخليل وغيرهما, ولكي تتحول إلي انتفاضة شاملة, وإن حدثت فلن يكون للفصائل الموجودة علي الساحة يد فيها, خاصة في ضوء اولويتها النضالية في البقاء في سلطة معيبة او مغتصبة او تحت احتلال مذموم, بل سيكون الفضل للفلسطينيين العزل أنفسهم. هذان الموقفان يجسدان الانقسامات العربية والفلسطينية التي باتت سمة رئيسية في أيامنا هذه, ليس فقط فيما يتعلق بفلسطين ومقدساتها, حاضرها ومستقبلها, بل بكثير من القضايا التي تهم العرب أينما كانوا, حتي إنه من الصعوبة بمكان أن يجد المرء نوعا من الإجماع أو التوافق العربي الذي يحمي المصالح المشتركة وكم هي كثيرة ومتشعبة. والمشكلة هنا ليست في الانقسام وحسب, بل أيضا في ضعف الخيال السياسي الذي يطرح بدائل غير تقليدية من شأنها أن تربك الطرف الآخر وتوفر قوة ضغط سياسية ومعنوية كبري تعوض حالة الخلل في التوازن العام. هذه السمة بدورها ليست مقصورة علي مؤيدي المفاوضات سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة, بل تطول الجميع بمن فيهم هؤلاء الذين يرفضون مبدأ المفاوضات ويعتبرونها شرا يجب تجنبه جملة وتفصيلا, ويرفعون لواء المقاومة في شكلها السلبي عديم المفعول. وبعيدا عن نبرتي التفاؤل الذي لا مقدمات له, أو التشاؤم الذي قد يفت في عضد الأمة في وقت هي بحاجة إلي من يمنحها قدرا من الأمل في الغد, يمكن القول إن قرار المفاوضات غير المباشرة, والذي وافق عليه وزراء خارجية الدول العربية الأعضاء في لجنة المتابعة العربية وصدقت عليه منظمة التحرير الفلسطينية قبل يومين فيه قدر من الجرأة بقدر ما فيه قدر من التنازل, أو لنقل التغاضي عن حقوق أساسية تضمن جدية المفاوضات وليس فقط استهلاك الوقت بلا طائل, كما عودتنا علي ذلك كل حكومات إسرائيل أيا كان رئيسها والأحزاب التي تشكلها. فيما يتعلق بالجرأة فتتمثل في قبول فكرة المفاوضات غير المباشرة مع حكومة إسرائيلية يمينية كل هدفها هو هدم مبدأ الدولة الفلسطينية والاستمرار في اغتصاب الأراضي الفلسطينية عبر خطط الاستيطان الطموحة جدا, وتحت رعاية أمريكية لإدارة أوباما التي ثبت أنها فاقدة الإرادة في الضغط علي إسرائيل, بل وقبولها للمنطق الاسرائيلي بصورة كاملة, رغم علم جميع من في هذه الإدارة الأمريكية أنه منطق سياسي سيدفع المنطقة إلي مزيد من التأزم والتوتر والخراب. وهكذا يتجسد عنصر الجرأة بالدخول في عملية تبدو فاقدة لشروط النجاح. ولعل ما يخفف الأمر نسبيا أن هذه المفاوضات غير المباشرة تبدو كنوع من اختبار نيات الحكومة ونيات إدارة أوباما معا. فالقرار العربي الفلسطيني اشترط أن تكون المفاوضات لمدة أربعة اشهر وحسب, في الوقت الذي يلتزم فيه الاقتراح الامريكي بأن تقتصر هذه المفاوضات علي عنصري الحدود والأمن, باعتبار ان الاتفاق علي هذين البندين من شأنهما أن يحلا مشكلة الاستيطان ويتيحا بالتالي الخوض في القضايا الأخري الأكثر تعقيدا كالقدس والمياه وعودة اللاجئين. بيد أن هذا التخفيف لم تكتمل فاعليته بما يتناسب مع حجم القرار وما ينطوي عليه من تراجع في الموقف الفلسطيني المعلن والذي ربط العودة إلي المفاوضات بوقف كامل للاستيطان الاسرائيلي بما في ذلك القدسالشرقية, وإذا به يقبل العودة إلي هذه المفاوضات غير المباشرة دون الحصول علي ضمانات الجدية في التفاوض لا من قبل الإدارة الامريكية ولا من قبل حكومة نيتانياهو. وحتي ما قيل إنه مع انقضاء مدة الأربعة أشهر دون التوصل إلي نتائج تفضي إلي مفاوضات مباشرة ذات مرجعية واضحة ومدي زمني مناسب لقيام الدولة الفلسطينية, فسوف يتوجه العرب إلي مجلس الأمن ليقوم بدوره في حل القضية باعتبارها تخص الامن والسلم الدوليين, فهي أيضا خطوة للوراء لا تقدم شيئا ملموسا في الضغط لا علي إسرائيل ولا علي الولاياتالمتحدة, ليس فقط لأن مجلس الأمن لن يتحرك في مواجهة أي فيتو امريكي, بل لأن التوجه إلي مجلس الأمن بهذه الطريقة يعني أن العرب ليس لديهم بدائل لمواجهة الموقف, وأنهم عالقون في وسط الطريق بلا بوصلة واضحة. لقد كان من الأجدر هنا أن يعلن العرب أن فرصة الاربعة أشهر هذه هي مجاملة للإدارة الامريكية أولا وأخيرا, أو بمعني آخر ان العرب يمنحون إدارة أوباما فرصة زمنية محددة لكي تثبت التزامها بالسلام والمفاوضات الجادة, وتمارس دورها كقوة عظمي قادرة علي تحويل المعوقات إلي حالة نجاح, ومن ثم فإن فشل هذه الفرصة يعني موت خيار السلام, ويعني أيضا تغييرا أساسيا في استراتيجية التفاوض العربية, ولن نقول تحولا جذريا من السلام إلي خيارات أخري تعلي من شأن الوسائل العنيفة بدرجاتها المختلفة من تعليق السياسة واللجوء إلي استراتيجية مقاومة مفتوحة قد تتدرج إلي مواجهة عسكرية صريحة لاحقا. وفي ظني أنه يكفي هنا تغيير الهدف من النضال الفلسطيني من الالتزام بمبدأ الدولتين إلي مبدأ دولة واحدة علي كل أرض فلسطين, ولكل المقيمين عليها ولكل من لهم حقوق تاريخية فيها. وهو تحول سيعني تهديدا حقيقيا لإسرائيل اليهودية الصهيونية التي تسعي إلي تهويد وصهينة كل أرض فلسطين لحساب المقيمين اليهود دون أدني اعتبار للحقوق الفلسطينية التاريخية. يقينا هنا أن تغيير هدف التفاوض سيكون له ثمن أيضا يجب دفعه, ويتطلب تضحيات كبري, لعل أولاها وأهمها ان يتم التخلي عن بقاء السلطة الوطنية الفلسطينية, ويعلن حلها وبالتالي تتحرر إرادة المنظمات الفلسطينية بكل توجهاتها السياسية والايديولوجية, ويكون حينئذ من واجبها وتحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية التي ستعود كما كانت الكيان المؤسسي الوحيد الذي يتحدث باسم كل الفلسطينيين دون استثناء تعبئة الشارع الفلسطيني من أجل حريته من خلال العيش في دولة لكل مواطنيها بما ينطوي عليه ذلك من تغيير جوهري في بنية دولة إسرائيل الراهنة سواء مؤسسيا أو أيديولوجيا. والمرجح هنا وبشرط الإخراج الجيد الحاذق والمدروس, أن تغييرا في هدف التفاوض الفلسطيني العربي بهذا الحجم من شأنه أن يولد قوة ضغط أكبر علي إسرائيل وعلي الولاياتالمتحدة وعلي الاتحاد الاوروبي وكل المعنيين بأمن وسلام هذه المنطقة, وبحيث يدفعهم إلي التحول من حالة اللامبالاة التي يتمعتون بها ويستمرئونها إلي حالة استنفار لوقف تداعيات هذا التحول حماية لإسرائيل قبل أي شئ آخر, ومن ثم الضغط بشأن ضمان تفاوض جاد ينهي معاناة الفلسطينيين ويعيد لهم حقوقهم ويؤدي إلي دولة فلسطينية حقيقية. إن شيئا من الخيال السياسي والجرأة في طرح البدائل الكبري باتت شرطا لازما للحفاظ علي المصالح العربية, أما البقاء في خانة واحدة والانطلاق منها في كل مرة وبنفس الآليات العقيمة التي ثبت فشلها, فليس له من مآل سوي أمر واحد, وهو تكرار الفشل بل والاعتياد عليه إن لم يكن إدمانه.