ثلاثة أعوام كاملة مرت علي الانقسام الفلسطيني, منذ وقوعه في يونيو2007, فشلت خلالها تسع وساطات فلسطينية وعربية وإقليمية في إنهاء ذلك الانقسام أو الحد من تداعياته السلبية علي الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. وثمة مؤشرات علي أن قوة الدفع التي حظيت بها جهود المصالحة نتيجة أحداث' أسطول الحرية', لن تنجح هي الأخري في وضع حد لهذا الانقسام, بل ثمة ما يؤكد بالمقابل أن العلاقة بين' فتح' و'حماس' ومن ثم بين الضفة وغزة, تبدو في الذكري الثالثة للانقسام وكأنها تتهيأ للدخول في مرحلة جديدة آخذة في التشكل, حيث بدأت الارهاصات الدالة علي ذلك قبل عدة أشهرعلي خلفية الملابسات والترتيبات التي أحاطت بزيارة' نبيل شعث' مفوض العلاقات الخارجية في حركة فتح إلي قطاع غزة, ومن قبله رجل الأعمال الفلسطيني' منيب المصري' في فبراير2010. بدا المشهد الفلسطيني الداخلي منذ تلك الزيارة وكأنه يتدحرج: من حديث عن المصالحة وإنهاء الانقسام, إلي محاولات تجري' للتوافق علي إدارة هذا الانقسام' وليس إنهاؤه, وصولا إلي مجرد الشروع في' تطبيع' العلاقات بين غزة والضفة, ومن ثم التكيف مع واقع الانقسام ومحاولة ترويضه. من إنهاء الانقسام إلي' التوافق علي إدارته كان الحراك الداخلي علي صعيد المصالحة يستهدف إنهاء الانقسام ومن ثم تشكيل حكومة وحدة وطنية أو' حكومة توافق وطني', هذا ما شهدناه خلال جولات الحوار التي بدأت جلساتها التمهيدية منذ يوليو2008, وكان من المتصور أن تفضي في النهاية إلي التوقيع علي ورقة المصالحة التي أعدتها مصر بعد التشاور مع الفصائل, بيد أن عدم حضور وفد' حماس' في نوفمبر2008 للتوقيع علي تلك الورقة, بذريعة عدم توافر المناخ المناسب لإنهاء الانقسام, حال دون الوصول إلي ذلك الهدف. وبعد الحرب علي غزة( ديسمبر2008 يناير2009) توافرت للحوار قوة دفع جديدة, فلسطينيا وعربيا ودوليا, وهو ما أسهم في تجاوز' عقدة بدء الحوار', ومن ثم التأمت جلسات الحوار في القاهرة بعد تشكيل اللجان الست التي تجمع كل قضايا البيت الفلسطيني الداخلي, وهي: المصالحة والحكومة والانتخابات والأجهزة الأمنية ومنظمة التحرير. كانت التوقعات كلها تشير آنذاك إلي أن الحوار لن يفضي في النهاية إلي نتائج ذات طبيعة استراتيجية تغير من الواقع الفلسطيني الراهن, إلي واقع جديد يعكس ويترجم الشراكة السياسية بمعناها المفهوم. لأن الحسابات الموضوعية والمعطيات الواقعية للمشهد الفلسطيني ببعديه الداخلي والخارجي آنذاك( وحتي الآن) كانت تشير إلي صعوبة حدوث اختراقات جوهرية في الملفات المطروحة, أو معالجات حاسمة لكافة القضايا من خلال بسط حلول كاملة لها, إذ إن ثقل وخطورة بعض الملفات, لاسيما ملفي منظمة التحرير والأجهزة الأمنية, اللذين تتنازعهما رؤيتان متناقضتان لكل من' فتح' و'حماس', وتتداخل فيهما مصالح وتدخلات إقليمية ودولية, لم تترك أي هامش حقيقي للتفاؤل بشأن إنجاز جوهري علي صعيد الشراكة والمصالحة. وما توقعه الجميع آنذاك من نتائج لم يكن يتعدي تشكيل حكومة توافق وطني, وتهدئة ميدانية متبادلة بين حركتي فتح وحماس, فيما ستبقي التفاهمات الخاصة بمنظمة التحرير والأجهزة الأمنية غير قادرة علي تجاوز تطبيقات محدودة للبنود والآليات الأولي علي أفضل تقدير. وكانت حكومة التوافق الوطني المأمولة بمثابة نقطة التقاء مصالح جميع الأطراف, وحلا ظرفيا لمأزق الانقسام الداخلي, حتي وإن بدا أنها لن تنهي هذا الانقسام عمليا, كونها كانت ستباشر مهامها وفق آليات التوافق الوطني, ومن ثم لم تكن لتجرؤ علي فتح ملف الأجهزة الأمنية في الضفة, وهو ما سيؤدي بالتبعية إلي طي صفحة إصلاحها أيضا في غزة. في النهاية, حال الفيتو الإسرائيلي الأمريكي دون تشكيل تلك الحكومة, فضلا عن أن منظومات المصالح المتضاربة المتشكلة في الضفة وغزة, ووجود قوي وشخصيات نافذة لا مصلحة لها في تشكيل حكومة التوافق, شكلت هي الأخري عوامل ذاتية حالت دون ظهورها إلي النور, وعندما تبين للراعي المصري أن فرص تجسير الفجوة بين المواقف والبرامج المتناقضة تبدو ضعيفة للغاية, كان اقتراح القاهرة بتشكيل لجنة عليا تتولي مهمة التنسيق بين الضفة وغزة, فتتم من خلالها كل الإجراءات التي تمهد الطريق لإجراء الانتخابات, ومن خلالها أيضا يتسني للجميع مباشرة عملية إعادة الإعمار في غزة. عكس هذا الاقتراح محاولة القاهرة الخروج من المأزق الراهن في الحوار بترحيل حسم الخيارات الأعقد إلي ما بعد الانتخابات الفلسطينية القادمة, والخروج من دوامة الحوارات ذات الطابع الاستراتيجي, التي تجلب إلي طاولة الحوار خلافات لا تحل إلا بتغير معادلات وتوازنات القوي داخل الساحة الفلسطينية, بطرح خيارات تكتيكية تسمح بسير الفرقاء جنبا إلي جنب حتي الوصول إلي مرحلة يحسم فيها الشعب الفلسطيني توازن القوي عبر الانتخابات لا عبر حوارات بين الفصائل. وأيا ما كان الأمر, فالثابت أن أهداف الحراك الفلسطيني الداخلي بشأن المصالحة قد' تقزمت' منذ تلك اللحظة, ولم يعد يستهدف تحقيق المصالحة التي ترتقي إلي مستوي الشراكة السياسية الحقيقية, وإنما باتت أهدافه تتمحور حول' التوافق علي إدارة هذا الانقسام' وليس إنهاؤه. فتشكيل الحكومة يمثل صيغة متقدمة لهذا التوافق, وعدم تشكيلها ومن ثم الاستعاضة عنها باللجنة المشتركة, يمثل الصيغة الأدني لهذا التوافق علي إدارة الانقسام. لم يتوقف الأمر عند تدهور هذا المستوي بل ذهب الي أشواط أبعد, حيث رفضت حركة حماس التوقيع علي النسخة المصرية النهائية لورقة المصالحة, وتم تعليق عملية المصالحة بعد إصرار حركة حماس علي رفض التوقيع, في ذات الوقت الذي رفض فيه المسئولون المصريون إعادة النظر في نص الورقة مرة أخري, لاسيما بعد توقيع حركة فتح عليها. وقد استمر الحال علي هذا المنوال إلي أن جاءت زيارة نبيل شعث إلي غزة لتلقي حجرا في بركة المصالحة الراكدة, ولتبدأ معها إرهاصات المرحلة الجديدة التي نحن علي أبوابها في هذه الآونة. من التوافق علي' إدارة الانقسام' إلي' تطبيع العلاقات' برغم الايجابية التي يمكن النظر بها لزيارة' نبيل شعث' إلي غزة إلا أن هذه الزيارة انطوت علي دلالات ذات مغزي أهمها: انه برغم حرص' شعث' علي تأكيد أن الزيارة غير رسمية' لأن غزة ليست كيانا مستقلا', إلا أنها بدت وكأنها زيارة مسئول من كيان مختلف, لكيان آخر, ولم يكن استقبال أحد مسئولي حركة حماس للزعيم الفتحاوي عند معبر بيت حانون, ثم زيارته في محل إقامته, ثم استقباله بعد ذلك في مقر إسماعيل هنية, إلا تأكيدا لهذا المعني, وهنا مكمن الخطر, خاصة أن الواقع علي الأرض يشهد علي استمرار ممارسات ومفاعيل وعقلية لا تنتمي إلي عالم المصالحة بقدر انتمائها لواقع الانقسام القائم, والذي يتعمق يوما بعد الآخر. وأن كل طرف من قطبي الساحة الفلسطينية يسير في الواقع باتجاه ترتيب أوضاعه داخل حدود سيطرته, دون المغامرة بمحاولة تبديد' رأسماله' أو ما بين يديه, في انتظار ما ستسفر عنه المصالحة. ومن ناحية اخري فقد تركزت زيارة شعث علي البحث في مجموعة من الإجراءات التي من شأنها أن' تطبع' العلاقة بينهما, مثل التوافق علي تشكيل لجنة مشتركة للبحث في القضايا الميدانية, وهي بهذا المعني ستكون جهة وصل حركة فتح بسلطة حماس في غزة, بمعني مكتب ارتباط ينسق شئون ومشاكل' فتح' في قطاع غزة مع القوة الحاكمة فيه. والحاصل أن هذا الأمرقد لايبقي محصورا علي الجانب الأمني التنظيمي, وربما ستشهد الساحة الفلسطينية تعزيزا له في المستقبل, ليشمل القطاعات الخدماتية, مثل تشكيل بعض اللجان علي مستوي القطاع الصحي أو للحج والعمرة, ونفس الأمر قد ينسحب علي المعابر أيضا.. الخ. أي أن ما يحدث هو عملية تأسيس للوضع القائم, والمحصلة النهائية أن كل ما يحدث من حراك فلسطيني بشأن المصالحة يومئ بطرف خفي إلي محاولات تكيف للتعايش مع الواقع, لأن الفلسطينيين غير قادرين علي تغييره, أو أن هذا التغيير يتطلب منهم ما هو فوق رغبة الفصائل أوطاقتها.