مازالت الأوضاع في أفغانستان تتفاقم, ويبدو أنها الآن أخذت منعطفا خطيرا عبرت عنه تصريحات متضاربة في كل من العاصمة الأفغانية والعاصمة الأمريكية, وأهم هذه التصريحات مانقل مؤخرا عن الرئيس باراك أوباما أن الانسحاب من أفغانستان سيبدأ كما هو مخطط له في يوليو من عام2011, غير أنه سارع في نفس الوقت مستدركا بأن وتيرة الانسحاب ستحددها الظروف علي الأرض!! ثم حاول أن يطمئن المعارضين للتورط المستمر في أفغانستان بقوله: إن الانسحاب سيبدأ لأن الحرب ذات النهاية المفتوحة لا تخدم مصالح الشعبين الأفغاني والأمريكي, وبالنظر إلي هذه التصريحات, والتحفظات الواردة فيها, يبدو لي أن تقديرات الموقف الأفغاني بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها يكتنفها الكثير من التعقيدات والشروط, وربما أصبحت حكاية هذا الانسحاب سرابا لايتحقق في المستقبل القريب, ومما يؤكد هذا الاتجاه, تصريحات أخري نقلت عن الرئيس الأفغاني حامد كرزاي, طالب فيها بمراجعة الاستراتيجية الأمريكية في الحرب ضد حركة طالبان, إثر الارتفاع الكبير لخسائر قوات التحالف واستمرار قتل المدنيين الأفغان. وأردف كرزاي قائلا: إن تصريحات الرئيس أوباما عن بدء انسحاب القوات الأمريكية في يوليو2011, أدت إلي رفع معنويات حركة طالبان( بلغ العدد الكلي للقوات الدولية في أفغانستان حوالي130 ألف جندي, منهم87 ألف جندي أمريكي والباقون ينتمون إلي44 دولة). يتضح من ذلك أن الإدارة الأمريكية تريد أن توحي بأن ثمة نهاية تلوح في الأفق لعبور النفق المظلم للأوضاع العسكرية في أفغانستان, بينما أصاب التوتر حكومة الرئيس كرزاي من احتمالات الانسحاب الأمريكي, وما يترتب عليه من انسحاب للقوات الدولية الأخري, وانهيار ما لحكومته من سلطة محدودة علي أرض الواقع, ومن ثم يعود الجميع إلي عهد آخر من سيطرة حركة طالبان, وهنا سيتساءل العالم كله عن جدوي الحرب الأمريكية الأطلسية التي شارفت علي عشر سنوات, وراح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين الأفغان, وأصاب الدمار ماهو أصلا متهالك من بنية تحتية لا تذكر, وموت أكثر من ألفي جندي من قوات التحالف, وبلوغ عدد الجرحي منهم أكثر من سبعة آلاف جندي, وإنفاق مايزيد علي330 مليار دولار بالنسبة للولايات المتحدة وحدها منذ عام2001( يمكن أن يبلغ الرقم إلي ضعف هذه النفقات إذا ما حسبنا نفقات الدول الأخري الداخلة في التحالف ونفقات الأممالمتحدة المرتبطة بأفغانستان والمؤسسات الدولية الأخري) ناهيك عن أن أسامة بن لادن مازال موجودا هناك ولم يتحقق الهدف المعلن للقضاء التام علي حركته التي جعلت من أفغانستان, بل وباكستان مأوي لها. ويظل السؤال الذي يؤرق الجميع قائما: متي تخرج أفغانستان من ذلك النفق المستعر بالحروب والمواجهات المسلحة؟ ومتي يستطيع شعبها ممارسة حياة سلمية هادئة تمكنه من العيش الكريم بعد عقود من المعاناة والضنك وعدم الاستقرار؟ ولعل مايؤسف له, أن أهل أفغانستان وجيرانها وأصدقاءها وأعداءها, كلهم تعودوا علي حال أفغانستان الواقعة في مستنقع الصراع الذي لاينتهي, وكأن ذلك الحال لن يتغير أو تنقضي أسبابه التي أوجدت صورة نمطية موغلة في السلبية لذلك البلد في أذهان الجميع, وحتي لا نرجع كثيرا للوراء فلنتذكر جميعا أن العاصفة الكبري هبت علي أفغانستان في عام1979 بواقعة الغزو السوفيتي, وتلت ذلك حرب ضروس ضد القوات السوفيتية شارك فيها مجاهدو أفغانستان والمجاهدون من المسلمين بدعم غير مسبوق من جانب الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين, مع الاستناد علي التسهيلات اللوجستية الباكستانية, ودعم مادي من عدد من الدول العربية والإسلامية, بهدف دحر السوفيت وإخراجهم من ذلك البلد, وبالطبع فقد كان تحالف القوي المحاربة للسوفيت من أغرب وأعقد التحالفات السياسية في العالم, إذ اجتمع فيه المحارب بدافع من الانتماء الديني, والمقاتل بدافع ليبرالي, والمحارب بغرض الاعتبار الاستراتيجي المرتبط بصراع الحرب الباردة, والجار الذي رأي مصلحته في ابعاد الغزاة السوفيت عن أفغانستان, وغير أولئك من المغامرين الذين اندفعوا لتجربة أسلحتهم وتدريب أجهزة استخباراتهم, ثم استفاد من فوضي تلك الأحوال تجار المخدرات الذين وجدوا في انهيار النظام العام فرصة لازدهار تجارتهم. بعد أن خرج السوفيت مهزومين ومعترفين بعدم جدوي مغامرتهم في عام1989 استمر القتال والصراع في أفغانستان, فيما بين الفرق الأفغانية المتصارعة علي السلطة, ووجد هؤلاء أنفسهم في دوامة من الصراع تغذيها أطراف خارجية من جيران أفغانستان ومن دول من خارج الإقليم, تتسابق علي أن تكون لها اليد الطولي في تركيبة السلطة في أفغانستان, واستمر هذا الحال لبضع سنوات, تمكنت بعدها حركة طالبان من دحر الجماعات الأخري والسيطرة علي معظم أنحاء البلاد في عام1995 ونظرا لممارسات طالبان التي رفضها الكثير من الأفغان والكثير من أصحاب النفوذ كالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي, دخل عهد طالبان في مواجهات مباشرة أو غير مباشرة مع أولئك ومع بعض جيرانهم( إيران والهند علي سبيل المثال) وقد أدي كل ذلك إلي حالة حادة من الاستقطاب والتوتر والعجز عن الخروج من تلك الحال إلي وضع يبعث علي أي قدر من الأمل في انفراج الوضع الداخلي في أفغانستان, وجاءت الطامة الكبري بعد احداث الهجوم علي برجي مركز التجارة في نيويورك في سبتمبر2001, وقررت الإدارة الأمريكية الهجوم الكاسح جوا وبرا علي أفغانستان للإطاحة بنظام الطالبان الذي يأوي قيادة القاعدة التي أعلنت مسئوليتها عن ذلك الحدث والتخلص من أسامة بن لادن وجماعته, وهكذا ومنذ عام2001, لم يهدأ الحال في أفغانستان, وانخرطت حركة طالبان في حرب عصابات شرسة ضد قوات التحالف. تكمن المأساة الحقيقية في أفغانستان, حسب تقديري لواقع الأحداث, أن ذلك البلد لم يكن له إرادة في إزكاء نيران تلك الحروب, كما ليس له إرادة في إنهائها, ومغزي ذلك أن أرض أفغانستان, وللأسف الشديد, لا تعدو كونها ميدانا يصفي فيه الآخرون حساباتهم, سواء كان هؤلاء الآخرون من جيرانها أو من الدول العظمي, كما أن جيران أفغانستان, ظلوا دائما ينظرون إليها بأنها مرتع لقوي مضادة لمصالحهم, فيتسابقون علي تصفية حسابات لهم, ليس من خلال المواجهة فيما بينهم ولكن عن طريق جماعات تحظي بدعم منهم داخل أفغانستان, وتكون محصلة ذلك أن يعاني المواطن الأفغاني من طموحات ومطامع غير الذين يصفون حساباتهم بالوكالة علي أرضه. واستقر الحال علي أن ذلك الميدان يهيئ المجال للذين يبحثون عن ملعب لمواجهتهم, وأرضا مشاعا لأولئك الذين يريدون تجريب أحدث أسلحتهم في معارك حقيقية, ومرتعا خصبا لاسيطرة لدولة فيه لأولئك الذين يودون أن تستمر أفغانستان كأكبر منتج ومصدر للأفيون الخام والهيروين لأوروبا ووسط آسيا وروسيا,( ثلاثة مليارات دولار في العام علي أقل تقدير) تلك كلها قوي هائلة ولها القدرة علي فتح أبواب النار والصراع كلما لاحت فرصة في الأفق لإغلاق تلك الأبواب الجهنمية, وهكذا فإن الحديث عن مخرج في المستقبل القريب من الدوامة الأفغانية, يظل حديثا لفض المجالس والتهرب من مواجهة الحقائق, لأن التركيبة السكانية والإثنية, والنزعات الدينية القوية, والتعقيدات التي تنشأ من طوبوغرافيا ذلك البلد,, كلها تصب في خانة استمرار المأساة الأفغانية هذه, كما أن استخدام القوة والسلاح لحل معضل السلطة في أفغانستان قد أثبت فشله, ولابد من تغيير جذري, قد لا تحبذه قوات حلف الأطلنطي, وفي التعامل مع المعارضين حاملي السلاح من حركة طالبان وأشياعهم, وبرغم أن الرئيس كرزاي حاول فتح هذا الباب, إلا أن فرص ذلك ما زالت غير متاحة, ولعل الكثير من الجهد البراجماتي ينتظر كل الأطراف هناك للوصول إلي نوع من التسوية التي تسمح بإعادة تشكيل جسد السلطة وروحها في أفغانستان. خلاصة القول, إن أفغانستان تجد نفسها مرة أخري في مفترق الطرق بين خيارات لاتشجع علي خروجها من المأزق التاريخي الذي يحيط بها من كل جانب, ويمكن القول أن التعامل مع الوضع الأفغاني يستوجب قراءة للتاريخ لم يلتفت إليها أحد من المنغمسين في بؤرة ذلك الصراع, وتقول هذه القراءة علي الأقل طوال القرنين الماضيين, إن فرض السلطة بالقوة الخارجية لا حظوظ له في النجاح وعلي سبيل المثال لا الحصر, فهناك تجربة الاستعمار البريطاني, وتجربة الغزو السوفيتي, ثم تجربة باكستان وآخرين مع طالبان والآن تجربة الولاياتالمتحدة وقوي التحالف منذ عام2001 كل ذلك يزخر بالدروس والعبر. وفي تقديري ومن وحي تلك العبر فإن مايمكن أن أسميها دبلوماسية الحديد والنار لن تجدي فتيلا لجلب السلم والاستقرار لأفغانستان وعليه فإن دبلوماسية الحوار برغم مايبتلع الكل فيها من بعض المرارات, علي المدي القصير, هي القادرة وحدها للخروج من ذلك المأزق الكبير علي المدي الطويل.