ادعاء الجنون أو المرض النفسي العضال هو حلم يراود جميع الجناة في الجرائم الخطيرة, خاصة جرائم القتل والمذابح الجماعية الوحشية والتي قد تصل عقوبتها للإعدام شنقا. كما انه حيلة ووسيلة قد يلجأ إليها دفاع المتهمين للإفلات من العقاب أو تخفيفه بالتشكيك في السلامة العقلية أو الحالة النفسية للمتهم, حتي اصبح مستشفي الأمراض النفسية والعقلية هو الملاذ والهروب من قفص الاتهام وسيف القانون. والمحكمة غالبا ما تستجيب لإيداع المتهمين تحت الملاحظة الطبية بناء علي طلب المحامين كإحدي ضمانات المحاكمة وحقوق الدفاع, ولكن التقرير النهائي للجنة الفحص الطبية غير ملزم نهائيا لهيئة المحكمة في اصدار حكمها, وان ذلك التقرير ما هو إلا تقرير إرشادي للمحكمة نظرا لأن القاضي له السلطة العليا في إصدار الاحكام حسبما تستقر قناعته وتتشكل عقيدته. وخلال السنوات الماضية تابع الرأي العام عددا من القضايا التي حظيت باهتمام من الرأي العام والتي تم فيها الكشف عن سلامة القوي العقلية للمتهمين لتحديد مدي مسئوليتهم عن أفعالهم وكان آخرهم المذيع إيهاب صلاح المتهم بقتل زوجته, حيث قررت المحكمة إحالته لمستشفي الصحة النفسية للكشف علي سلامة قواه العقلية ووضعه تحت الملاحظة الطبية حتي5 نوفمبر لإعداد التقرير النهائي بحالته النفسية ومدي سلامة قواه العقلية وقت ارتكاب الجريمة, وهل يعاني مرضا نفسيا يؤدي للجنون اللحظي, كما ذكر دفاعه مسترشدا بتقرير خاص من استشاري نفسي أوصي بإيداعه مستشفي الصحة النفسية, فهل يثبت عدم مسئوليته عن الجريمة, أم هذه حيلة للإفلات من العقاب؟ وقبل ذلك كان سائق المقاولون العرب الذي أمطر زملاءه بالأعيرة النارية مما أسفر عن مقتل6 منهم وإصابة6 آخرين وتمت إحالتهم للمحاكمة وطلب دفاعه الكشف علي قواه العقلية واستجابت هيئة المحكمة وقررت ايداعه مستشفي الصحة النفسية ومازال به حتي الآن تحت الملاحظة لوضع التقرير النهائي لتحديد مدي مسئوليته عن ارتكاب الجريمة, وأيضا المتهم عبدالناصر الذي تم تحويله من مركز جهينة بسوهاج للكشف علي مدي سلامة قواه العقلية بعد اتهامه بقتل بناته الخمس والاعتداء عليهن بالسكين لمروره بحالة نفسية سيئة, حيث مكث بالمستشفي تحت الملاحظة لمدة عامين من خلال خمس لجان طبية من خبراء الطب النفسي الشرعي واثبتت التقارير سلامة قواه العقلية والتقرير الأخير أكد مسئوليته المحددة عن الجريمة, ومع ذلك قضت محكمة جنايات سوهاج بإعدامه. ومن بين القضايا الشهيرة دخول سيدة الأعمال مني الشافعي المتهمة بالاستيلاء علي76 مليون جنيه من شركة النصر للاستيراد والتصدير, وتمت إحالتها بناء علي طلب الدفاع من هيئة المحكمة الي مستشفي الصحة النفسية للكشف علي سلامة قواها العقلية, وبعد فحص استمر45 يوما اثبت تقرير لجنة الطب الشرعي سلامة قواها العقلية وتم إرسالها للمحكمة في عام1998. وكذلك قضية المتهم محمد عبداللطيف الشهير بسفاح بني مزار المتهم بقتل عشرة أشخاص اثناء نومهم بإحدي قري مركز بني مزار بالمنيا, وتقرير لجنة الطب الشرعي اثبت سلامة قواه العقلية ومسئوليته الجنائية عن الواقعة فيما يخص حالته النفسية, إلا ان المحكمة قضت ببراءته لعدم ثبوت الأدلة في الاتهام الموجه إليه. وقضية التوربيني( رمضان) عام2007 والمتهم فيها بالاشتراك مع5 آخرين بقتل وهتك عرض11 طفلا دون الثالثة عشرة من اعمارهم وإلقائهم من أعلي القطارات بعد الاعتداء عليهم جنسيا امام القطارات القادمة في الاتجاه المعاكس حتي لا تكتشف جرائمه, وبعد فحص استمر ثلاثة اشهر اكد تقرير لجنة الطب الشرعي سلامة قواه العقلية وقضت المحكمة بإعدامه. وقضية المتهم يحيي ابراهيم شحاتة نقاش البراجيل عام2008 قاتل ابنائه الثلاثة باستعمال سيف اثري بداخل منزله وسيره علي الاقدام في شارع احمد عرابي شاهرا سيفه في وجه أحد ضباط المرور لمنعه من سحب تراخيص السيارات, وبعد القبض عليه بتهمة احراز سلاح ملطخ بالدماء اعلن لضابط المرور انه قام بقتل اولاده ليرحمهم من عذاب الدنيا وتم احالته الي مستشفي العباسية للكشف علي مدي سلامة قواه العقلية, حيث أفادت اللجنة بإصابته بتليف في جزء من المخ مما أفقده القدرة علي الإدراك والتمييز والشعور فقضت المحكمة بأنه لا وجه لإقامة الدعوي لانتفاء الأهلية. يقول الدكتور حاتم ناجي مدير ادارة الطب النفسي الشرعي بالمجلس الإقليمي للصحة النفسية إنه لايوجد مرض اسمه الجنون اللحظي وانما توجد فئة من الامراض تكون الاعراض المرضية بها نشيطة في بعض الوقت وتكون دون ذلك في البعض الآخر من الوقت, بحيث تكون الاعراض المرضية ظاهرة علي المريض نفسه ويلاحظها المحيطون به, وفي اوقات اخري تشعر بأنه سليم تماما ويؤدي عمله علي اكمل وجه, والمثال الشاهد علي ذلك الاضطراب الوجداني ثنائي القطب, حيث بعض منهم يتعرض لضغوط في اثناء المرحلة النشيطة للمرض أو يتعرض لصدمة من موقف لا يتوقعه ينتج عنه تصرف لايحاسب عليه القانون بحكم المرض, وهو ما يطلق عليه في العامية بالجنون اللحظي. ويشير الدكتور حاتم ناجي الي ان الجنون العادي هو ما يسمي بفقدان العقل, وغالبا من الامراض الذهانية وفيها يكون المريض لا يعي تصرفاته تماما وتنتفي فيه المسئولية الجنائية للمتهم بسبب المرض. قرارات غير ملزمة وأشار مدير إدارة الطب النفسي الشرعي إلي ان القاعدة العامة في النظام القضائي أن القاضي هو خبير الخبراء, وان تقرير الاستشاريين هو تقرير ارشادي غير ملزم نظرا لأن القاضي له السلطة العليا في المحكمة, والنظام القضائي وقد لايطمئن قلب القاضي لمحتوي التقرير الطبي.وقد يطلب رد اللجنة كما حدث في العديد من القضايا وتشكيل لجنة مغايرة, ويستوجب في هذا الوقت تشكيل لجنة مغايرة أخري بواسطة إدارة لجنة الطب الشرعي بفحص الحالة من جديد, وتكون هذه اللجنة مستقلة تماما عن اللجنة السابقة, ويؤكد أنه من الممكن ايضا ان تأخذ المحكمة قرارا مغايرا تماما لما يتضمنه التقرير. ويضيف أن هناك الكثير من المحامين الذين يلجأون للطعن بعدم سلامة القوي العقلية لموكليهم اعتقادا منهم أن الطب النفسي قد يكون بوابة خلفية للهروب من العدالة, كما ان هناك الكثير من المتهمين الذين يتوهمون ذلك للتحايل علي القانون, ويؤكد ان ذلك غير وارد تماما حيث ان فحص المتهم يتم بواسطة احدث الأجهزة واكثر الأطباء خبرة ومصداقية. ويشير الي انه بعد قرار هيئة المحكمة الاستجابة لطلب الدفاع يتم إرسال الاوراق والمتهم الي مكتب التعاون الدولي لتبادل ورعاية نزلاء السجون وتنفيذ الاحكام بمكتب النائب العام لاستصدار امر إيداع المتهم بوحدة الطب النفسي باشراف الطب الشرعي لمدة يتم تحديدها من خلال هيئة المحكمة وتشكيل اللجنة الطبية الشرعية, حيث تتم ملاحظة المتهم وكتابة التقارير التي تنتهي الي تقرير واحد بعد الاطلاع علي اوراق القضية وتحقيقاتها وتحرياتها, ويتم ارساله في سرية تامة الي هيئة المحكمة. ويقول المستشار خالد الشباسي رئيس محكمة جنايات شبرا الخيمة إن التقارير الفنية للطب الشرعي وجميع الجهات الفنية الاخري هي تقارير ليست ملزمة قانونا للمحكمة ولها ان تأخذ بها او لا تأخذ بها حسبما يتراءي لها إعمالا للقاعدة القانونية بحرية القاضي الجنائي في تكوين عقيدته وفقا لما يتراءي له لظروف الجريمة وملابساتها. ويؤيد هذا المبدأ القانوني ويدعمه انه في كثير من الاحيان اودعت الجهات الفنية مثل مستشفي الامراض العقلية والطب الشرعي تقارير تشير الي عدم سلامة القوي العقلية للمتهم, ولكن المحكمة طرحتها وقضت بالاعدام والمؤبد بدون النظر الي تلك التقارير. وقال الشباسي ان هناك واقعة شهيرة منذ عدة سنوات اودع فيها مستشفي الامراض العقلية تقريرا يفيد بأن المتهم يعاني مرضا عقليا وغير مسئول عن تصرفاته وتبين للمحكمة قيامه بالبيع والشراء والاتجار في العقارات والسيارات قبل وقوع الجريمة بشهر واحد فقط. كما تبين لها سفره الي الخارج للسياحة قبل وقوع الجريمة يقطع بأن كل التصرفات لشخص سليم و مدرك لأفعاله. كما انه لايوجد في القانون ما يسمي بالجنون اللحظي وانما توجد الحالة الانفعالية النفسية للمتهم وقت ارتكاب الجريمة, وهي التي تراعيها المحكمة عندما يطلب منها تحويله الي الكشف الطبي, فهي تقوم بهذا الاجراء حسبما يتراءي لها من ظروف الجريمة ولايوجد ما يلزمها قانونا بإحالته للكشف علي قواه العقلية فلها ان تستجيب لطلب الدفاع او ترفضه, ولكن قد تلجأ لهذا الاجراء لتتمكن من تحديد مقدار العقوبة علي ضوء ظروف الجريمة كاملة, حيث تأخذ المحكمة ذلك في تقريرها عند تكييفها ووصفها للجريمة. فالامر في النهاية يرجع لعقيدة المحكمة ووجدانها فهي تقضي حسبما يقر في عقيدتها من ظروف الجريمة وملابساتها, فلها ان تقضي بالبراءة او الإدانة, وان اجابة المحكمة لطلب الدفاع تتوقف علي رأي المحكمة واقتناعها الشخصي بظروف الجريمة, فلها ان ترفض او تقبل إحالة المتهم الي المستشفي فليس هناك إلزام عليها بذلك, وان كان قبولها لذلك يعد مؤشرا لان الجريمة ارتكبت في ظروف غير طبيعية سواء للمتهم او للمجني عليه وسواء كان ارتكاب الجريمة دفاعا عن الشرف او النفس او المال.. وفي النهاية قال المستشار الشباسي ان التكييف الصحيح للجريمة وتوقيع العقوبة يخضع لتقرير المحكمة وحدها وفق عقيدتها.