هجمات11 سبتمبر2001 نجحت إلي حد أبعد مما توقع أسامة بن لادن. ليس لمجرد أنها أدت إلي مقتل ما يقرب من3000 شخص, ولا لأنها ضربت قلب القوة المالية والعسكرية الأمريكية, فهذه النتائج كانت فقط الطعم وكان علي الولاياتالمتحدة أن تتجنب السقوط في الفخ, الهدف من أي هجوم ارهابي منظم هو استدراج العدو إلي حد كبير للقيام برد فعل مبالغ فيه وعلي مدي السنوات التسع الماضية والولاياتالمتحدة تتخبط في كمين11 سبتمبر مع ردود فعل مبالغ فيها واحد تلو الآخر. بن لادن يستحق أن يكون هدفا للعداء.. وكان يستحق أن يؤخذ علي محمل الجد كما انه تكتيكي حكيم.. لكن معظم ما حققه قمنا به.. ولوعن غير قصد.. لقد حققنا له الكثير من أحلامه التي لم يكن يتخيلها'. هذا المقتطف من مقال رائع للإعلامي الأمريكي الشهير تيد كابيل في صحيفة' واشنطن بوست' أمس- الجمعة- يلخص حالة التوتر الديني المتصاعدة في المجتمع الأمريكي وابتلاع الجميع' طعم' المتطرفين الإسلاميين والمسيحيين وإندفاعهم للسقوط في فخاخ المواجهات الدينية المباشرة. بين الطعم' و'الفخ' تعثر المجتمع الأمريكي في توفير حماية دستورية لحقوق أقلية دينية, ورسبت القيادات الدينية في الجانبين في تقدير الموقف ليخرج المتشددون منتصرين رغم ما بدا من محاولات لنزع فتيل الأزمة الخطيرة التي وصفها المتحدث باسم وزارة الخارجية ب' اللحظة الخطيرة جدا'. حديث الصفقة تحبس غالبية شعوب العالم أنفاسها انتظارا لقرار تيري جونز القس المتطرف المغمور في كنيسة محدودة الأتباع في مدينة صغيرة بولاية فلوريدا حول دعوته إلي حرق نسخ من القرآن الكريم علي مشهد من كاميرات وسائل الإعلام مساء اليوم.. تراجع القس المغمور عن الخطة الشيطانية بعد مكالمة هاتفية من وزير الدفاع روبرت جيتس, وبيان من الرئيس أوباما أمس الأول الخميس بعد التحذير من خطورة فعلته علي الجنود والمصالح الأمريكية في الخارج, فيما خرج للإعلام في صورة من عقد صفقة لوقف حرق القرآن مقابل وقف بناء مسجد قرب موقع تفجيرات سبتمبر الشهيرة في حي مانهاتن بمدينة نيويورك, مستغلا تباين وجهات النظر بين قيادات الجالية المسلمة بشأن بناء المسجد, وقال إنه سوف يقابل الإمام عبد الرؤوف في نيويورك.. ثم عاد القس المغمور واتهم' إمام فلوريدا' بالكذب وقرر المضي في خطة الحرق! حديث الصفقة- حتي ولولم تكن رسمية أونهائية أولم تحدث- هي بكل وضوح انتصار معنوي لليمين الأمريكي المعادي للتعددية الثقافية الي قامت عليها أمريكا في مواجهة الجالية الإسلامية المغلوبة علي أمرها والتي تفتقر قياداتها الدينية إلي الحنكة برغم أنها تريد نزع فتيل' فتنة عالمية' يتسبب فيها رجل دين جهول قال أنه يريد حرق الكتاب المقدس لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم لأن ذلك أبلغ رد علي المتطرفين الذين يكيدون للولايات المتحدة! في الساعات الأخيرة جري الربط المباشر في الإعلام الأمريكي بين أزمة حرق القرآن وقضية إقامة مركز إسلامي قرب موقع البرجين المنهارين في مانهاتن.. وكانت مقدمات الربط المباشر بين الأزمتين قد تصاعدت بظهور الإمام فيصل عبد الرؤوف مدير مؤسسة قرطبة المالكة للأرض الخاصة بالمسجد حصريا مساء الأربعاء الماضي في برنامج' لاري كينج شو' الشهير علي شبكة' سي إن إن' متحدثا عن تخوفه مما سيحدث وأنه كان سيتراجع عن بناء المركز الإسلامي لوكان يعلم حجم الضجة التي سوف يتسبب فيها. في الوقت نفسه تعالت أصوات في الجالية الإسلامية تحذر من حجم الضرر الذي سيلحق بهم من الإصرار علي بناء المسجد, وهوما ترجم في صورة مبادرة من الإمام محمد المصري رئيس الجمعية الإسلامية بوسط فلوريدا للقس تيري جونز وتأكيده أنه يعارض أيضا بناء المسجد قرب موقع برجي مركز التجارة العالمي. قدم الإمام مخرجا راقيا تمثل في وجود معارضة من القيادات الدينية المسلمة للمشروع, ولو اكتملت الصفقة اليوم فإن ذلك يؤسس لنقاش جديد حول الإسلام في الحياة العامة الأمريكية في ظل تنام واضح لظاهرة' الإسلاموفوبيا' أوالخوف من الإسلام التي يقف ورائها اليمين الديني وجماعات سياسية تبحث عن مكاسب انتخابية. كل هذه الاحداث الساخنة تواكبت مع عيد الفطر المبارك وهوما زاد من الضغوط ودفع تجمعات إسلامية إلي تجنب الاحتفال بالعيد في يوم ذكري حوادث سبتمبر حتي لا تسئ الجماعات المتطرفة للجالية الإسلامية أكثر وتجرها جرا إلي ردود أفعال لا يريدها المسلمون الأمريكيون الذين يرون أنفسهم مواطنين يتمتعون بحقوق مواطنة غير منقوصة.. وهوما يقلق آخرين في أمريكا! وقد توقع مكتب التحقيقات الفيدرالي' إف. بي. أي' حدوث مصادمات علي خلفية حادثة حرق القرآن وخروج مظاهرات لمؤيدي ومعارضي المركز الإسلامي في قلب نيويورك اليوم. حوار الإمام كان الإمام فيصل عبد الرؤوف قد عاد من جولة عربية وشرق أوسطية الأسبوع الماضي ليقدم مادة ثرية وشهية للإعلام الأمريكي علي خلفية الضجة المثارة حول حرق لقرآن ويجيب علي سؤال وحيد منذ رجوعه: لماذا تصر علي إقامة مسجد ومركز إسلامي علي مقربة من موقع حوادث سبتمبر رغم أن70% من الأمريكيين ضد المشروع وكانت إجابة فيصل عبد الرؤوف أن التراجع اليوم سيكون بمثابة إعلان إن الراديكاليين في امريكا سيطروا علي النقاش العام, ويفرضون أجندتهم الخاصة في مواجهة الآخرين- بمن فيهم المسلمون المعتدلون. كما أن التراجع سيترجم في العالم الإسلامي في صورة أن الإسلام يتعرض لهجوم جائر في أمريكا. من وجهة نظر أسماء بارزة من الكتاب الأمريكيين المسلمين' العلمانيين' مثل فريد زكريا ورضا أصلان وأخرين القضية تتعلق باحترام الدستور الأمريكي الذي يحمي حرية العقيدة, وقضية المسجد تتفاعل علي خلفية موجة معادية للإسلام والمسلمين ليخرج النقاش من الحديث عما هو يليق بناؤه أولا يليق بنائه قرب موقع11 سبتمبر إلي مواجهة رمزية دفاعا عن حقوق دستورية لأقلية دينية وضد حملة' أوقفوا أسلمة أمريكا' التي تهدد المسلمين من كل الإتجاهات وهوما دفع الكتاب السابق الإشارة إليهم إلي الدفاع عن حقوق المسلمين بقوة. والأمر الثاني أن التيار الرئيسي' المعتدل' بين المسلمين-الأمريكيين يري أن الولاياتالمتحدة تقدم نفسها نموذجا عالميا للتسامح الديني والمساواة ولا يجب أن تتخلي عن تلك المكانة ولا يجب أن تنزلق إلي مواجهات خطيرة علي غرار ما حدث في أوروبا ومناطق اخري بعد نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة في الدانمارك. لقد تحول الصراع بين أنصار وخصوم بناء المركز الإسلامي إلي' معادلة صفرية' بين فريقين يري كل واحد منهما أنه يملك الحق والحقيقة في القضية. حجة الإمام أن المسلمين لهم حقوق مثل غيرهم من المواطنين في أمريكا, ولا يعقل أن يفرض عليهم التخلي عن موقع البناء المقترح بسبب مجموعة من المتطرفين الإسلاميين أقدموا علي عمل إرهابي, وهو ما يعني في عرف تلك الجماعات المسيحية المتشددة أن كل المسلمين مسئولون عما حدث وأن العقاب الجماعي يجب أن يطول كل أتباع تلك العقيدة. ويعتقد الإمام عبد الرؤوف أن معارضة إقامة المسجد هي ورقة انتخابية قبل ذهاب الأمريكيين إلي صناديق الإقتراع في نوفمبر لانتخاب مجلس النواب بالكامل والتجديد النصفي لمجلس الشيوخ وما سوف يستتبع التغيير- في حال فقد الديمقراطيين الأغلبية- من سياسات جديدة أكثر تشددا. في المقابل يقول المعارضون إن مكان المركز الإسلامي الذي سيطلق عليه' بيت قرطبة' يجب أن يكون في قلب الشرق الأوسط, وهو المكان الذي خرجت منه الأيديولوجيات الداعية إلي العنف وليس الأرض الأمريكية أوأن يعلن الإمام اليوم عن تحويل الموقع المثير للجدل إلي مركز لحوار الأديان يضم كنيسة وكنيسا ومسجدا! فخ المتطرفين من الناحية السياسية تقف إدارة الرئيس باراك اوباما والمؤسسة العسكرية ضد جريمة حرق القرآن من منطلقات عديدة أهمها أن القوي الليبرالية تؤيد حرية الاعتقاد ولكنها ضد تجريح العقائد ووضع طائفة من الأمريكيين في اختبار الإختيار ما بين العقيدة والوطن مثلما يسعي المتشددون اليمينيون إلي سحب المسلمين إلي تلك المنطقة الخطيرة. والأمر الثاني يتصل بالأمن القومي الأمريكي حيث رفضت المؤسسة العسكرية- علي لسان ديفيد بترايوس قائد القوات الأمريكية في أفغانستان- هذا العمل المشين لأنه يعرض حياة الجنود الأمريكيين في الخارج لخطر محقق. من زاوية أخري هذه الأزمة وضعت العلاقة بين غالبية المسلمين والحزب الجمهوري الأمريكي في خطر, وفي تعليق علي موقف الحزب الجمهوري من محاولات منع القس المتطرف من تنفيذ فكرته علي الملأ يقول جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأمريكي ل الأهرام إن' رد فعل الجمهوريين غير كاف ويحتاج إلي تفسير خاصة أن الأزمة يمكن أن تتفاقم في الأيام المقبلة'. وقبل شهرين من إنتخابات الكونجرس يلعب الجناح المتشدد وتيار' حفل الشاي' اليميني علي نموالصورة السلبية للإسلام في المجتمع الأمريكي لأعلي معدلاتها منذ حوادث سبتمبر وفقا لأخر استطلاع لمؤسسة' بيو' لبحوث الرأي العام, والذي وجد أن49% من الأمريكيين لديهم تصورات سلبية مقابل39% في عام2002, كما أن ثلث الأمريكيين يرون التيار الرئيسي في الإسلام يدعوإلي ممارسة العنف ضد اتباع الأديان الأخري بينما54% يعتبرون العقيدة الإسلامية مسالمة ولا تدعوللعنف. كما يتغذي هذا التيار علي عدم وجود روابط وثيقة بين الكنيسة الأنجليكانية التي ينتمي إليها قس فلوريدا والطائفة الإسلامية في البلاد. والمفارقة أن المنظمات اليهودية هي الأكثر قلقا من الحوار الدائر حاليا حول الحريات الدينية في الولاياتالمتحدة بحكم التجارب التاريخية برغم أن بعض تلك المنظمات يلعب أدوارا مهمة في تصاعد موجة الخوف من الإسلام, وقد ساندت قيادات يهودية مشروع المركز الثقافي الإسلامي عندما تم الإعلان عنه في ديسمبر الماضي. ما حذر الإمام فيصل عبدالرؤوف منه حدث.. فقد سقط الكل في فخ المتطرفين.. كسب بن لادن وأنصاره جولة في معركة نشر بذور الكراهية الدينية.. وكسب اليمين الأمريكي المتشدد إملاء إرادته علي المعتدلين المسلمين وغير المسلمين وجرهم إلي منطقة التعصب التي يحاربونها بضراوة! بعد منتصف الليل.. سنعرف ما إذا كان جونز سيذهب بالعالم إلي فتنة دينية كبري أم سيحصل علي ما يريد بعد أن وضع المسجد في مقابل الإمتناع عن حرق القرآن الكريم!