العملية الإرهابية الأخيرة التي قام بها انتحاري علي متن سيارة مفخخة واستهدفت افراد احدي الوحدات العسكرية في بويناقسك غربي داغستان في شمال القوقاز تاكيد جديد علي القصور الشديد في ادارة السلطة الفيدرالية. وكذلك والقيادات الاقليمية لأزمات المنطقة فالعملية لم تكن الاولي من نوعها بل وقعت في اعقاب سلسلة صاخبة من العمليات الانتحارية والتخريبية, في اشارة لا لبس فيها الي تفاقم الصراعات القومية وتصفية الحسابات مع السلطات المحلية وإن كان مدبروها يستهدفون الثأر والتخريب والانتقام من موسكووليس مثلما كان الحال في الامس القريب تحت شعارات انفصالية. وقد يكون من الغريب والمثير معا ان يعتقد البعض في ان تكون هذه العملية الاخيرة باغتت من عهدت الدولة اليهم حماية استقرارها والسهر علي امن مواطنيها في ظل التسيب الامني وتفشي الفساد الذي استشري ايضا بين صفوف الاجهزة المعنية بتأمين هذه المهام. من هذا المنظور لم يكن غريبا ان يصل الانتحاري علي متن سيارته حتي مدخل القاعدة العسكرية دون عقبات تذكر ووفق سيناريو صار محفوظا للعامة قبل الخاصة. فالانفجار الكبير يلحقه آخر مستهدفا افراد الشرطة والنيابة والاسعاف ممن يهرعون الي موقع الحادث لانقاذ المصابين وتفقد آثار العملية الانتحارية ما سبق وسجلته عشرات العمليات الانتحارية داخل القوقاز وخارجه دون استخلاص العبر والدروس اللازمة.وكانت المصادر الامنية اعترفت بانفجار عبوة ناسفة أخري كان الارهابيون زرعوها علي مقربة من مخيمات اقامة العسكريين علي الطريق الذي كان يتوقع الارهابيون ان تسلكه مجموعة النيابة العامة ولجنة التحقيق في اتجاه موقع الانفجار الاول. اما مصادر الكرملين فقد اعلنت عن اهتمام الرئيس دميتري ميدفيديف بمتابعة الامر وتكليفه لوزير الدفاع اناتولي سيريدنيكوف بسرعة اتخاذ الاجراءات العاجلة لانقاذ المصابين وتدعيم حراسة المنشآت العسكرية في داغستان وهي تصريحات طالما صدر مثلها الكثير بعد كل عملية ارهابية وتتسق في' نمطيتها المفرطة' مع تفسيرات البعض ومنهم محمد سلام محمدوف رئيس داغستان حول ان العملية الانتحارية جاءت انتقاما لمصرع محمد علي وهابوف' امير داغستان' واحد ابرز قيادات المجموعات الارهابية في المنطقة وكأنه لم يكن يعرف ان' الثأر' من سمات أهل الجبال في داغستان التي تعني' بلد الجبال' وهو ما سبق وحدث في العديد من جمهوريات شمال القوقاز قبل وبعد مصرع وهابوف. ومن اللافت ان معظم العمليات الارهابية التي شهدتها وتشهدها داغستان والمناطق المجاورة في شمال القوقاز طالما استهدفت العسكريين وممثلي اجهزة الامن والمخابرات والنيابة العامة والذين كان منهم رئيس انغوشيتيا يونس بك يفكوروف والعديد من الوزراء وكبار المسئولين ممن تعرضوا للكثير من محاولات الاغتيال في الشيشان وداغستان وانغوشيتيا وقبرطية بلقاريا وهو ما يعني الكثير من الدلالات التي لم تكن لتغيب عن الكرملين. وكان الرئيس الروسي ميدفيديف سبق وحرص علي السفر الي داغستان فيما عقد اجتماعا طارئا لمجلس الامن القومي لبحث الاجراءات اللازمة لوقف تواصل مسلسل الارهاب واستعادة الاستقرار والامن الي المنطقة.وقال ان سياسة الدولة تجاه تصفية الارهابيين لم تتغير مؤكدا ضرورة الاستمرار في هذه السياسات بكل القوة وبشكل دوري بعيدا عن الارقام والبيانات المكذوبة فيما طالب بضرورة الكف عن تداول الارقام التي تبدو بعيدة عن الواقع في اشارة الي تكرار صدور البيانات الرسمية التي طالما اعلنت عن نجاح الاجهزة الامنية في تصفية عشرات الارهابيين وزعمائهم في شمال القوقاز في الوقت الذي لا تتوقف فيه عملياتهم ضد المواقع الحيوية والقيادات السياسية والامنية لجمهوريات شمال القوقاز والتي وصلت غير مرة الي قلب العاصمة الروسية مثلما حدث في مارس الماضي يوم نجحت ارهابيتان من فرق' الارامل الانتحاريات' قدمتا ايضا من داغستان في تفجير مترو الانفاق في موسكو. ويذكر المراقبون ان الرئيس دميتري ميدفيديف ورئيس حكومته فلاديمير بوتين اعترفا في اكثر من مناسبة بان تدهور الاوضاع المعيشية في المنطقة وعدم استقرار الاوضاع الاجتماعية وتفشي البطالة بنسب تقترب من خمسين في المائة في بعض جمهوريات القوقاز تقف في صدارة اسباب تفشي ظاهرة الارهاب هناك. ويذكرون ايضا ان ميدفيديف اكد غير مرة علي اهمية تحسين الاوضاع المعيشية وتوفير فرص العمل للشباب في مختلف مناطق القوقاز والاهتمام بتوجيه المشاريع الاستثمارية وبناء مختلف مواقع الانتاج في المنطقة وهو ما اكده ايضا بوتين خلال اجتماعه الاخير مع ممثلي قيادات القوقاز في مقاطعة ستافروبول. غير ان كل هذه الاستنتاجات المنطقية والوعود الرنانة لم تتعد المساجلات اللفظية ما يدفع الكثيرين الي التساؤل: وماذا بعد يرددونها علي استحياء احيانا بصوت خافت ومن خلال عمليات ارهابية تتعالي اصداؤها لتمزق صمت الداخل والخارج تجاه تفاقم مشاكل من لا صوت له احيانا أكثر. يقولونها احتجاجا علي اغراق الكرملين للشيشان بالاموال والمشاريع الاستثمارية واعادة بناء ما دمرته الحربان الاولي والثانية وكأنه يريد شراء الهدوء النسبي هناك متناسيا اهل الجوار ممن كان لهم الفضل الاول في نجاح الحملة التي قادها بوتين في نهاية1999 وما قدموه من دعم للسلطة الفيدرالية في حملة القضاء علي فلول الارهابيين الهاربين من الشيشان وبما يجعل البعض يجنح نحو الاتجاه المعاكس من خلال دعم اعداء السلطة الرسمية ممن يتدثرون بشعارات دينية وقومية ويتزاوجون مع السلطة والثروة والجريمة المنظمة. واضافة الي مثل هذا الاحتجاج الصاخب ثمة شواهد تشير الي ان الفساد الذي يضرب باطنابه في انساق السلطة يقف علي مقربة في ظل احتدام الخلافات بين كبار القيادات الدينية ممن يتنازعون السيطرة والتأثير علي ممثلي السلطة التنفيذية الي جانب استمرار تعثر السياسات القومية وتفجر الخلافات بين ممثلي ما يزيد عن35 قومية منها ما لا يتعدي عدد ممثليها الخمسة الاف نسمة في بلد لا يزيد تعداد سكانه عن مليونين ونصف المليون احتجاجا علي اقتسام قوميات بعينها ومنها الافارية والقوميق والدراجين للثروة والسلطة. ومن هذا المنظور يمكن تفسير اغتيال وزيري شئون القوميات السابقين في داغستان ومحاولة اغتيال خلفهما بيكمورزايف من خلال تفجير سيارته يوم الجمعة الماضي والتي عزاها البعض الي مثل هذه السياسات الخاطئة. واذا اضفنا الي ذلك انتشار التطرف بين مختلف الطوائف وسقوط الكثيرين من الشباب في شرك الجماعات الدينية الراديكالية ونجاح الارهابيين في استقطاب الكثيرين منهم الي مجموعاتهم الانتحارية فان الصورة تكون قد بلغت حدا من القتامة ثمة من يقول ان وعود وتصريحات الكرملين وممثليه لن تكون وحدها كافية من اجل تجميلها او التخفيف من قتامتها.