ولا ننسي فضل وأثر النار علي الإنسان كمصدر إضاءة كان الوحيد القادر علي هزيمة الليالي حالكة الظلمة, والتي بدورها كانت عدوا شرسا للإنسان الأول.... ومن هنا كانت النار هي أول مصدر إضاءة لأجدادنا الأوائل وبعدها بملايين السنين عرف الإنسان طريقه إلي شحوم الحيوانات وزيوتها كمصدر إضاءة وحماية من وحشة الظلام. ثم كبرت وصغرت المسارج وتعددت أشكالها, ونقوشها, بل والمواد التي صنعت منها, وكان أكثرها شيوعا هي المسارج الفخارية, وكان الزيت يوضع بها, ويغمس فيه فتيل يتم إشعاله للإضاءة, وعلي ضوء هذه المسارج أستطاع الفنانون المصريون في عصر الفراعنة تزيين المقابر الملكية, وغير الملكية بأجمل الرسومات والنقوش الملونة البديعة التي تظن عندما تراها, كما لو كانت قد رسمت بالأمس القريب, وليس من آلاف السنين... واحتار علماء المصريات في معرفة الكيفية التي تمكن بها الفنان المصري القديم من استخدام هذه المسارج دون أن يؤثر صناجها علي رسوماته وألوانه, ونحن نعرف أن الضوء المنبعث من فتيل الزيت لابد, وأن يخرج معه دخان أسود نتيجة الاحتراق, فكيف وبأي وسيلة تغلب المصري القديم علي هذا الصناج؟ نكاد نتفق أن المصري قد أستخدم ملح النطرون, وإضافه إلي الزيت لك يمتص الصناج الأسود.. ولكن حتي هذا لا يمنع تماما من خروجه, ولذلك فلابد أنه كانت هناك طريقة ما عرفها المصري القديم, واستخدمها لمنع هذا الصناج من الانبعاث من المسارج! وظلت المسارج تستخدم وأصبحت قاسما مشتركا في حياة الإنسان, ومع دخول مصر العصر الإسلامي بدأ تخطيط المدينة الإسلامية في الظهور, وبدلا من التخطيط الدائري للمدينة في مصر القديمة صار التخطيط المربع أو المستطيل هو المستخدم والشوارع الضيقة المتقاطعة, وكانت تضاء بقناديل زجاجية يصرف عليها من بيت المال أو يتكفل سكان كل شارع بإنارة شارعهم ونظافته. وجاءت الطفرة الكبيرة بدخول الفاطميين إلي مصر واليهم مازلنا ننسب كل شيء جديد أو يسميه البعض بدعة وأنا لا أحبذ أستخدام الكلمة الأخيرة نظرا لمردودها الديني غير المستحب, فمعرفة أنواع الحلوي كالكنافة والقطايف نسب إلي الفاطميين... وكذلك ظهور الفانوس في شهر رمضان نسب إليهم, وبروايات متعددة فقيل ان وصول الخليفة الفاطمي الأول المعز لدين الله توافق مع أول أيام رمضان, وكان وصوله ليلا فخرج الناس لاستقباله, وهم يحملون الفوانيس المختلفة الأشكال لإنارة الطريق, وتحية للخليفة ومقدمه. كذلك قيل عن ظهور فانوس رمضان ان مدينة القاهرة قسمت إلي خطط أي أحياء يعين لكل حي شخص يقوم بإيقاظ الناس ليلا لتناول سحورهم, وهو ما عرف بعد ذلك بالمسحراتي وكان يسير في آخر الليل لينادي علي الناس يتبعه غلام صغير يحمل فانوسا للإضاءة... أما عن أغرب ما قيل عن سبب ظهور فانوس رمضان, فهو أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله كان قد منع النساء من الخروج ليلا, واستثني شهر رمضان من ذلك الأمر لكي يسمح لهن بالخروج للصلاة أو التزاور, ولكي يسعدن بالشهر الكريم.. إلا أنه اشترط وجود غلام يحمل فانوسا لينير الطريق, ويعلم المارة بأن هناك امرأة تمر بالطريق, فيفسحون لها, ويغضون أبصارهم. أما أدق الروايات وأصدقها من وجهة نظري أن الناس في العصر الفاطمي كانوا يولون الاحتفالات والأعياد اهتماما عظيما, ويتفننون في الإعداد لها, وكان قدوم شهر رمضان مناسبة عظيمة يقوم الناس بتنظيف المدينة وشوارعها... والتجار يقومون بترتيب بضائعم وتزيين حوانيتهم لاستقبال الشهر, ومن ضمن هذه الاستعدادات كانت فوانيس الإضاءة الجميلة تستخدم في الشوارع والمساجد والحوانيت الأمر الذي جعل الفانوس يرتبط بمقدم رمضان... وليس هناك بالضبط تأريخ دقيق للوقت الذي أصبح فيه الفانوس هدية الآباء لأبنائهم في رمضان... ولكن الثابت أنها موروث شعبي أصيل في مصر علينا أن نحافظ عليه, ونأصله في نفوس الأجيال القديمة ولننتبه إلي غزو صيني قد يؤدي في النهاية إلي القضاء علي هذا الموروث الجميل! كانت بداية الفانوس, كما نعرفها جميعا ونتذكرها من الصاج والزجاج الملون, وكانت توضع بداخله شمعة لتضيئه, وجاء زمن أصبح فيه الفانوس لزاما علي كل أب نحو أبنائه في رمضان, وليس مجرد هدية قد يشتريها الأب أو الجد لأبنائه أو أحفاده, وإنما واجبا ملزما يعرف كل طفل أنه يقتني فانوسا في رمضان والجميل أن الفانوس لم يكن هدية طرف واحد, وإنما هو هدية للبنت والولد علي حد سواء. وكانت أجمل الأوقات التي نجتمع فيها نحن أطفال القرية, ومعنا الفوانيس المختلفة الألوان والأشكال نعلب ونغني, وبعدها نذهب إلي حارة الجامع ليكبر الجمع وتكثر الحكايات والروايات التي نحكيها, ولايضيء ظلام المكان سوي فوانيس رمضان.. وكنت أحرص علي هذه الفوانيس بعد أن ننتهي من اللعب بها, حيث أجمعها وأعيد تنظيفها وإصلاح ما يعطب منها بعد الانتهاء من دروسي في كتاب القرية... وكانت الدراسة لا تخضع للروتين الحالي, ولكن كان التعليم يعتمد علي إدراك ووعي الطفل, حتي انني التحقت بالمرحلة الابتدائية, وأنا مازلت في سن الرابعة... ودخلت الجامعة وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وخلال هذه الفترة من العمر ظل فانوس رمضان مرتبطا بنا في القرية إلي سن العاشرة... وبعد ذلك كنت أقف في الحارة وأشاهد الاطفال, وهم ينطلقون مع أغنية وحوي... يا وحوي... ويدور بندول الزمن ويظهر لدينا الفانوس المصنوع من البلاستيك ويضاء بلمبة صغيرة عن طريق البطاريات الجافة, ولم يقض ظهور هذا النوع من الفوانيس علي النوع الآخر, وإنما ظل الاثنان موجودين جنبا إلي جنب, بل إن شكل الفانوس البلاستيك كان في مجمله تقليدا للفانوس العتيق. وظل الفانوس متمسكا بتقاليده ومكانته في نفوسنا إلي أن دهمنا الغزو الصيني, فاختلف شكل الفانوس, بل انقلب حاله, ولم يعد فانوسا, بل مسخا يتخذ أشكالا آدمية وحيوانية أو أشكال طيور, وينطق ويغني بأشكال مختلفة... وأصبح الفانوس كأي دمية يشتريها الوالد لأبنائه والأسوأ أن أصبح هناك أشكالا من الفوانيس للولد, وأخري للبنت بعد أن كانا يقتنيان فانوسا واحدا! ومع ظهور الصيني انحسر الفانوس التقليدي إلي حد وصل إلي الاختفاء في السنوات الماضية... إلي أن وجدناه يعود مرة أخري في هذا العام, وكنت أسعد الناس بظهوره, وإقبال الناس علي شرائه مرة أخري, وكان منظر الفانوس التقليدي سببا في استعادة ذكريات الزمن الجميل... أيام الطفولة عندما كنا نخرج بعد إفطار يوم رمضان إلي شوارع القرية في مجموعات تتباهي بفوانيسها نغني وننطق بكلمات لا نعرف معناها, وإنما تحفظها قلوبنا والسنتنا وكانت وحوي يا وحوي هي أغنية الفانوس.... أغنية الطفل المصري في القرية والمدينة, والمدهش أن هذه الكلمات تعود أصولها الأولي إلي الفراعنة وأحتفالهم بالقمر وكلمة وحوي واليوحة هي كلمات تشير إلي أسم القمر عند المصري القديم, ولذلك ليس من المستبعد أن تكون أصول أغنية الفانوس فرعونية خالصة.. هذا ما يؤكد تفرد الشعب المصري بأصالة, وحفظ الموروث رغم تباعد الزمن. يجب أن نسجل هذا التراث, خاصة أنه جزء من تراث الطفل المصري علي مر العصور منذ زمن الفراعنة... وإلي اليوم.. وأعتقد أن لوزارة الثقافة مسئولية ودورا للحفاظ علي هذا الموروث الشعبي, وحمايته من هجمات فوانيس كرومبو وهيفاء ونانسي والتوك توك... وكل سنة وأنتم طيبون.