ما بين الاستمرار في الدعم العيني بكل عيوبه, والانتقال إلي دعم نقدي للفئات الفقيرة أو المستحقة. يعكس النقاش العام الجاري حاليا حول إصلاح منظومة الدعم حالة من الصراع المجتمعي الخفي تؤثر علي اتخاذ القرار الاقتصادي السليم لحل هذه المشكلة. والصراع الحالي تختلط فيه مخاوف الفئات الأقل دخلا من احتمال حدوث فوضي في الأسعار بالأسواق حال الانتقال إلي الدعم النقدي عن طريق زيادة في الأجور يمكن أن تلتهمها نيران الأسعار, وعلي الطرف الآخر هناك جماعات من أصحاب المصالح والمستفيدين من استمرار المنظومة الحالية للدعم بعد أن تشعبت وضمت الدعم غير المباشر خاصة للمنتجات البترولية, التي تستحوذ لوحدها علي نحو58% من إجمالي الدعم الذي يتوقع أن يصل إلي نحو116 مليار جنيه في الميزانية الحالية للدولة. وإذا كانت منظومة الدعم السلعي, منذ ستينيات القرن الماضي حتي عام2005 قد خلقت عبر سنوات طويلة جهازا إداريا يسترزق من وراء الدعم ممثلا في وزارة التموين إلا أن تمدد الدعم إلي أصحاب المصانع بما فيها المصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة التي تبيع منتجاتها بالأسعار العالمية, وكذلك الموردون للسلع الغذائية الأساسية المستوردة مثل القمح والزيوت والسكر, قد تكاتفوا للتصدي لإي اصلاح لمنظومة الدعم الحالية, وحصر النقاش العام لاصلاح منظومة الدعم حول المفاضلة بين الاستمرار في جنة الدعم العيني ونعيمه وجهنم الدعم النقدي ولهيب أسعاره.. فهل يمكن إفساح المرور لطريق ثالث يسمح بحل اقتصادي وانتقال سليم يضمن بالفعل دعم الفئات المستحقة دون الاطاحة بدخول الفئات المتوسطة واشباه الفقراء إلي هاوية الفقراء والمعدومين, خاصة أنه لا يوجد نظام مثالي للدعم يمكن لكل الدول اتباعه, فكل دولة تطبق ما تراه مناسبا في صور أو أشكال للدعم حسب ظروفها واختيار الوقت المناسب للتطبيق, وهو ما انتهت إليه دراسة للبنك الدولي حول تجارب29 دولة تطبق أنظمة مختلفة للدعم. وأشارت هذه الدراسات إلي أن المفاضلة بين الدعم النقدي والعيني تبدو من الناحية النظرية لمصلحة الدعم النقدي, لأنها تؤثر علي اختيارات المستهلكين والمنتجين للسلع, كما أن تكلفة تطبيق الدعم النقدي أقل من العيني, إلا أن تطبيق نظام للدعم النقدي يحتاج إلي توافر قاعدة بيانات دقيقة ومرنة عن الدخول, والتحديد الدقيق للفئات المستحقة للدعم. ولكن أيضا من الناحية النظرية فإنه حالة تشوه الأسعار وقيام التجار بالمبالغة في تحديد هامش لأرباحهم, سيؤدي ذلك إلي تضخم في الأسعار غير مأمون العواقب علي الدخول, وعلي استقرار الأسواق, خاصة إذا ما كانت نسبة الفقراء وأشباه الفقراء في مصر تصل لنحو35% من السكان حسب تقرير البنك الدولي لعام2009, فكيف تبدو الصورة الحقيقية للدعم في مصر, وإمكان المفاضلة بين الدعم العيني والنقدي للمصريين؟ الدكتور صلاح الجندي أستاذ الاقتصاد بجامعة المنصورة يري أن الدعم في مصر يأخذ شكلين مباشرا وآخر غير مباشر, والدعم المباشر يأخذ أيضا صورتين: دعم موجه لحماية المستهلك, وآخر لتحفيز المنتج, وهو ما يظهر بصراحة في ميزانية الدولة, ومنه دعم السلع التموينية والخبز والأدوية وألبان الأطفال وقروض الإسكان الشعبي, ونقل الركاب والتصدير والتأمين الصحي للطلاب, أما الدعم غير المباشر, ويقصد به الفرق بين تكلفة إنتاج السلعة وسعر بيعها للمستهلك, ويشمل جميع المنتجات البترولية والكهرباء ومياه الشرب, ومساهمة الدولة في صناديق التأمينات الاجتماعية, وهنا يجب عدم الخلط بين هذا الدعم والدور الاجتماعي للدولة بالانفاق علي التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية, لأنه أحد الأدوار الأساسية للدولة. دعم الصادرات المتجاوز من ناحية اخري يري د. الجندي أن استمرار دعم الصادرات البالغ4 مليارات جنيه في الميزانية الجديدة تستأثر به مجموعة من المصدرين وأصحاب النفوذ السياسي وبعض المحتكرين, في الوقت الذي بلغ فيه دعم تنمية الصعيد نحو200 مليون جنيه فقط يمثل نحو5% من دعم الصادرات, كما أن دعم الأدوية والتأمين الصحي يبلغ نحو421 مليون جنيه, ودعم المزارعين والحاصلات الزراعية نحو2.2 مليار جنيه, وبالتالي فإن دعم حفنة من المصدرين يفوق إجمالي دعم الأدوية والتأمين الصحي والمزارعين وتنمية الصعيد وإسكان محدودي الدخل الذي لا يتجاوز مليار جنيه بالميزانية الحالية, ولذلك يبدو من الطبيعي أن تصارع هذه الفئات الرأسمالية علي استمرار الوضع الحالي للدعم. وبرغم انتقاد الدكتور الجندي لتجاوزات الدعم الحالية, إلا أن هناك سلبيات ظاهرة ومرصودة للدعم العيني من أبرزها تسرب جزء منه لغير مستحقيه مثل استفادة من يملكون أكثر من سيارة من البنزين المدعم وكذلك أنابيب البوتاجاز, واتساع الاتجار في السلع المدعومة, كما أن عدم الاهتمام بإنتاجها بالجودة المناسبة مثل الخبز يتسبب في زيادة الفاقد والتالف. حكاية دعم الوقود وتضيف الدكتورة هنادي عبدالراضي أستاذ الاقتصاد الزراعي بالإسكندرية أن تطبيق الدعم النقدي يستلزم توفير قاعدة بيانات دقيقة وصحيحة وبحوث اجتماعية مرنة, لتحديد الفئات والأفراد المستحقة للدعم وفق معايير واضحة يتم من خلالها تنقية بطاقات التموين من غير المستحقين, وفي هذه الحالة فإن هناك ضرورة لمراعاة ضبط الأسواق, وتفعيل الرقابة الشديدة عليها خاصة في السلع الأساسية. وبالنسبة لدعم الوقود, والبالغ7,67 مليار جنيه في الميزانية الجديدة أو بنسبة58.4% من إجمالي الدعم فإن35% منه يتجه للصناعة, و30% للمرافق العامة والجهات الحكومية و35% للأسر علي شكل كهرباء وغاز, أي أن نصيب القطاع الأسري يمثل نحو الثلث. وإزالة دعم المنتجات البترولية من قطاع الصناعة سيؤثر علي نمو القطاع الصناعي, وعلي أسعار المنتجات الصناعية الاستهلاكية, لذلك لابد من وضع استراتيجية تحفيزية للاستثمار الصناعي, وأن يتم إلغاء دعم الصناعة تدريجيا. أما بالنسبة لدعم وقود السيارات, فتري أنه ليس جميع مستهلكي السيارات من الأثرياء, حيث إن معظم الشعب المصري يعتمد في تنقلاته علي الميكروباص والتاكسي, وإلغاء دعم الوقود سيرفع بدوره أسعار الأجرة التي يدفعها المواطن الغلبان في تنقلاته بحثا عن رزقه مما سيشكل عبئا عليه. وحول فكرة تطبيق كوبونات صرف البوتاجاز, فإن البعض قد يلجأ إلي بيع هذه الكوبونات لشراء الطعام أو الأدوية في ظل عدم توافر نظام للتأمين الصحي شامل, لذلك يراعي تغيير شكل الكوبونات من محافظة أو منطقة إلي أخري لمنع الاتجار فيها أو تزويرها. الحسم في اتجاه النقدي وعلي الطرف النقيض الآخر, فإن هناك من يري أن هناك ضرورة لحسم قضية الدعم والاتجاه إلي الدعم النقدي, ومنهم الدكتور محمود عبدالحي مدير معهد التخطيط السابق, الذي يقول إننا نتحدث عن ضرورة ترشيد الدعم منذ30 سنة, ولم يتم حتي الآن اتخاذ إجراء حاسم ضد سلبيات الدعم العيني, الذي أوجد فئات أصبحت لها مصالح في استمراره بالشكل الحالي, فطوال هذه الفترة الطويلة أوجد الدعم العيني هيكلا وظيفيا متضخما تسترزق من وزارة التموين, ومهمتها تأمين السلع الغذائية الأساسية أو الاستراتيجية كما يطلقون عليها. وقد أوجد هذا النوع من الدعم فئات من أصحاب المخابز وغيرها من البقالين التموينين تتربح من واء هذا الدعم, لذلك الأفضل تطبيق الدعم النقدي بزيادة المرتبات والأجور لمستوي يقابل تكلفة المعيشة الحقيقية بشرط توافر مناخ اقتصادي صحي وسيلم. ويري أن ارتفاع الأسعار بالسوق المصرية يعود إلي تنظيمات استيراد احتكارية يسيطر عليها عدد محدود من الأفراد, كذلك يمكن السيطرة علي ارتفاع أسعار المنتجات البترولية إذا ما تم حساب التكلفة الحقيقية للإنتاج ورفض عناصر وطريقة حساب التكلفة التي تفرضها شركات البترول متعددة الجنسيات, والتي تحدد حساب تكلفة النقل علي ما تطلق عليه تسليم امستردام لمنتجات بترولية يتم انتاجها في مصر وتنقل من السويس إلي القاهرة وليس من امستردام أو نيويورك إلي مصر. وقال إن قيام الدولة بتقديم دعم يعني بالضرورة أن يكون لديها ملكية عامة من مرافق ومزارع وغيرها, وأن تصحيح النظام الضريبي بتطبيق الضريبة التصاعدية يمكن أن يسهم بشكل كبير في حل مشكلة الخلل أو العجز الحالي والمتفاقم في ميزانية الدولة, وبالتالي لن تكون الدولة تحت ضغوط خفض مخصصات الدعم السلعي أو تقليل الانفاق علي الخدمات الاجتماعية. كما يجب ألا تتردد الحكومة في فرض الانضباط بالأسواق وعدم الخضوع لأصحاب المصالح الاحتكارية, وبالتالي فإنه في حال توفير حد أدني معقول للدخل يمكن للدولة أن تنسحب بالتدريج من الدعم وأن تبقي علي دعم سلعة أو اثنتين ضروريتين يتفق عليهما. فالطريق إلي الانسحاب التدريجي المشروط إن صح التعبير يمثل الطريق الثالث, بين العيني والنقدي المقترح حاليا, الذي يسمح بمرور عملية إصلاح كبيرة في الاقتصاد والسوق, وهو ما أشارت إليه بوضوح بعض الدراسات التي أعدت في مجلس الوزراء نفسه, فقد أشارت إحدي هذه الدراسات إلي أنه لا يوجد نظام أمثل للدعم يصلح للتطبيق في جميع الدول, حيث تختار كل دولة ما يناسبها من نظم الدعم, كما أن هناك دولا قامت باستخدام مزيج من الدعم العيني والنقدي كمرحلة انتقالية نحو إلغاء الدعم العيني, بهدف تعويض الفئات المتضررة, كما أكدت دراسات أخري أن عملية التحول يجب ألا تكون فجائية, حتي يتقبل المواطن التجربة الجديدة, فالدعم النقدي يستلزم دقة الرقابة, وإطلاق الأسعار في مناخ منافسة جيد لا يسوده الاحتكار بإفساح المجال لزيادة أعداد التجار, والمتاجر, خاصة الهايبر ماركت والتجزئة, التي تساعد علي زيادة عوامل المنافسة, وبالتالي خفض الأسعار, لضمان كفاءة التنفيذ لنظام الدعم النقدي.