طلب مناقشة أمام «الشيوخ» بشأن جودة التعليم العالي | الإثنين المقبل    تعزيز التعاون الاقتصادى وحرب غزة تتصدر مباحثات السيسي ورئيس البوسنة والهرسك بالاتحادية    بدء جلسة الشيوخ لمناقشة سياسة الحكومة بشأن تحقيق جودة التعليم العالي    ورشة عمل حول القصص الصحفية عن الأحداث العربية ب "إعلام بني سويف"    محافظ المنوفية يستقبل رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية    وزارة العمل تنظم ورشة لمناقشة أحكام قانون العمل بأسوان    ضوابط تحويل الإجازات المرضية ل سنوية وفقا للقانون    غدا.. انتهاء مهلة تقديم الإقرارات الضريبية إلكترونيا للممولين من الأشخاص الاعتباريين    أسعار الريال السعودي في البنوك اليوم الإثنين    "المؤتمر": كلمة السيسي بافتتاح مركز الحوسبة السحابية رسمت صورة متكاملة للمستقبل الرقمي    وزير الإسكان يتابع مشروعات الخدمات ورفع الكفاءة والتطوير بالمدن الجديدة    بعد بيان الضرائب.. صعود جماعي لمؤشرات البورصة في مستهل التعاملات    «معلومات الوزراء» يصدر تقريراً حول الإطار العام لتخضير النظام المالي العالمي    إعلام إسرائيلي: مطلب انسحاب حزب الله شمال الليطاني حذف من مقترح فرنسا للتسوية    رئيس الوزراء الأردني: على إسرائيل تمكين النظام الأممي من ممارسة مهامه لإدخال مزيد من المساعدات    مدبولي: يجب بذل أقصى الجهود لتفادي أي اعتداء على رفح الفلسطينية    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    شوبير عن احتفال مصطفى شلبي أمام دريمز: كل تصرفاتك محسوبة عليك    برشلونة يسعى لاستعادة نغمة الانتصارات أمام فالنسيا بالدوري الإسباني    الخطيب غاضب من السولية والشحات" ويطالب خالد بيبو بأمر عاجل    الداخلية تضبط عنصرًا إجراميًا بحوزته «ترسانة أسلحة» بالجيزة    «جثة في جزيرة مطيرة».. كواليس جريمة راح ضحيتها شاب بقنا    انطلاق اختبارات المواد غير المضافة للمجموع لصفوف النقل بالقاهرة    احالة 373 محضرًا حررتها الرقابة على المخابز والأسواق للنيابة العامة بالدقهلية    مصرع شخض مجهول الهوية دهسا أسفل عجلات القطار بالمنيا    ضبط شخصين لقيامهما بإضرام النيران عمدا بإحدى الصيدليات بالقاهرة    قنوات ART تنعي المخرج والسيناريست عصام الشماع: أعماله ستظل خالدة في وجدان المشاهد العربي    «الرعاية الصحية» تشارك بمؤتمر هيمس 2024 في دبي    ختام فعاليات الدورة التدريبية لإعداد المثقفين الصحيين بدمياط    طلب من حسام حسن.. عامر حسين يكشف موعد توقف الدوري المصري    خسائر جديدة في عيار 21 الآن.. تراجع سعر الذهب اليوم الإثنين 29-4-2024 محليًا وعالميًا    رمضان السيد: الأهلي قادر على التتويج بدوري أبطال إفريقيا.. وهؤلاء اللاعبين يستحقوا الإشادة    احتفاء بفوز باسم خندقجي بالبوكر: فلسطين ملء العين والسماء دائما    تعرف على الجناح المصري في معرض أبو ظبي للكتاب    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    مجموعة الصعود.. بتروجت يستضيف وادي دجلة بدوري المحترفين    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    لأول مرة.. تدشين سينما المكفوفين في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    مدبولي: أكثر من 85% من المساعدات الإنسانية لغزة كانت من مصر    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    رئيس كوريا الجنوبية يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    مفاوضات الاستعداد للجوائح العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    أموك: 1.3 مليار جنيه صافي الربح خلال 9 أشهر    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    أول رد رسمي من الزمالك على تصرف مصطفي شلبي أمام دريمز    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من بوسطن
حوارات بوسطونية عن العالم‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 07 - 2010

كانت المناسبة هذه المرة اجتماعية محضة‏,‏ وكان مفترضا فيها قدر غير قليل من الاسترخاء‏,‏ فما بين الخضرة النضرة والمنعشة برائحة المطر‏,‏ والبحر المحيط الأطلنطي حيث تمتد الزرقة إلي ما لا نهاية بعد التحامها بسماء صافية‏. كان الجمع القادم من بوسطن آتيا من مهن وحرف وأصول ومذاهب شتي‏.‏ ومن يعرف الولايات المتحدة جيدا سوف يكتشف بسهولة أن الدنيا علي اختلافها واتساع بقاعها يمكنها بالفعل أن تجتمع معا في مكان واحد‏,‏ حتي لو كان علي ظهر زورق‏.‏ وبالطبع لم يكن الأكاديميون غائبين‏,‏ وإلا لما كنا في حاضرة نيو إنجلند أو إنجلترا الجديدة‏,‏ حيث أرقي الجامعات والمعاهد‏,‏ ولكن معهم كان هناك جراح التجميل الشهير‏,‏ ورجل الأعمال الذي يعمل بالمليارات في مجال العقارات‏,‏ وآخرون يعملون في الصناعة والبورصة وأسواق المال‏,‏ مع مهن أخري متعددة لم يكن بينها موظف حكومي واحد‏.‏ وبعد ذلك كانت كل ألوان الطيف حاضرة‏,‏ ومعها ديانات متنوعة‏,‏ وبالتأكيد رؤي وأصول فكرية ذهبت كل مذهب واتجاه‏.‏
المناسبة الاجتماعية جمعت الجميع يوما وليلة‏,‏ وبعد كسر الحواجز الأولي بين الناس‏,‏ جاء الحديث متدفقا حول العالم الذي نعيشه وما يجري فيه من تغيرات‏,‏ وكما كنت أسمع كثيرا عن الأحوال في مصر‏,‏ فقد كان السؤال العالق والملح إلي أين ؟ وهو سؤال عادة ما يحمل في طياته حيرة ويقينا غائبا عن سير الأمور سيرة طيبة‏,‏ أو حتي معلومة الاتجاه والمقصد‏.‏ ولا يخلو الأمر أحيانا من توجس بين المتشائمين أن لا شيء يأتي حسنا بعد أن ذهبت الأيام السعيدة‏,‏ وما بعدها دائما مقلق بتكهنات ثقيلة علي القلب‏.‏ وكانت نقطة البداية غامضة للغاية حينما دار النقاش بين عالم السياسة وجراح التجميل حول ما يحدث من تطورات في تكنولوجيا إعادة تشكيل الأجساد‏,‏ ومنها جاءت أسئلة أخري استدعت الفلسفة أحيانا والدين أحيانا أخري حول نماذج الجمال وعما إذا كان مقبولا تعديل ما خلقه الله وأحسن صورته؟‏.‏ الأمر الواضح كان هو أن التكنولوجيا دخلت مجالات جديدة خلال الأعوام الأخيرة لم يعرفها العالم من قبل‏,‏ أو حتي كان يتخيلها‏,‏ وما كان مقصده هو معالجة تشوهات ناجمة عن حروب أو حرائق أو أحداث عربات مسرعة‏,‏ تحول في النهاية إلي إعادة بناء الأجساد والوجوه وفق مواصفات جمال عصر‏.‏ ما يفعله الجراح لا يزيد علي ميكانيكا استخدام آلات متقنة‏,‏ وسريعة تتعامل مع التصميم واللدائن التخليقية التي يستطيع الجسم الإنساني التعايش معها‏,‏ ثم بعد ذلك إطلاق الحالة إلي الدنيا مرة أخري بعد ساعات أحيانا‏,‏ وأيام قليلة أحيانا أخري‏.‏
وبالتأكيد كان الموضوع أكثر إثارة من ذلك‏,‏ وكانت فيه دروب وفروع بعيدة عن الأصل‏,‏ ولكن قضية التكنولوجيا والعصر بات من الممل وصفها بالثورة غير المسبوقة‏,‏ وفي أوراقي القديمة من التسعينيات من القرن الماضي كان وصف الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة بأنها آنذاك تعيش مرحلة بدائية ومتخلفة‏,‏ وبعد قرابة عقدين فإنه يكفي أن تنظر إلي ما جري لكي تدرك أن التحول من البدائية إلي النضج‏,‏ أو من الطفولة إلي الشباب‏,‏ لم يعد يصلح كنوع من الاستعارة اللفظية لوصف تغيير لم تعد هناك كلمات كافية لوصفه وتحديد معالمه‏.‏ وما عليك إلا مراقبة أفلام سينمائية قرب نهاية القرن الماضي حتي تجد أن ما فيها من أجهزة للكمبيوتر تشبة العربات التي تجرها الأحصنة مقارنة بعربات اليوم المزودة بأجهزة ذكية تدير حركتك عن طريق الأقمار الصناعية‏,‏ وتجعلك حذرا من تجاوز السرعات المطلوبة‏,‏ وفيها من قرون الاستشعار ما يجعلك حساسا لكل ما يدور حولك أو يقترب منك‏.‏
وبالطبع فإن التكنولوجيا موضوع مثير‏,‏ وكلما فتح الحديث فيه فإن أصحاب المجالات المتعددة لا بد لهم من الإدلاء بآخر تطورات العصر في كل مجال‏,‏ وعندما كنت أنظر إلي التليفزيون في الصباح كان فيه من المعلومات علي شاشة واحدة ما كان مستحيلا الحصول عليه من قبل بهذه السرعة والكفاءة‏.‏ فما هو مطروح أمامك ليس فقط أخبار اليوم والدنيا وهي تتغير بعد كل ساعة وثانية‏,‏ ولكن درجات الحرارة وهي في بلاد غيرنا تتغير أيضا كل وقت ولحظة‏,‏ ومع هذا وتلك يوجد دائما أسعار البورصة في صعودها وهبوطها مع دقات القلب‏,‏ في نفس الوقت الذي تقدم فيه طائرة هليكوبتر في زاوية صورة لحالة الازدحام في الشوارع مع وصف دقيق لمعدلات السرعة‏.‏ كل ذلك لم يكن فيه تكنولوجيا بالمعني الذي نعرفه عنها من اختراعات واكتشافات جديدة تحل محل الجلد‏,‏ أو تنقل الإنسان من عالم إلي آخر‏,‏ وإنما بمعني القدرة علي إدارة عمليات متنوعة في نفس الوقت‏,‏ وبنفس الكفاءة‏,‏ وكلها تجهز الإنسان لكي يعمل وينتج بكفاءة أكبر‏.‏
الأفكار كثيرة ومتدفقة بالمعلومات والأفكار المفيدة لمن يعرف‏,‏ والطريفة لمن لا يزال طريقه طويلا للمعرفة‏,‏ ولكن ما كان يهمني معرفته هو كيف يؤثر ذلك علي مكانة الولايات المتحدة في العالم؟ كانت صراحتي مؤلمة دون قصد‏,‏ فصورة أمريكا اللامعة التي خرجت منتصرة من الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي والعالم الاشتراكي لكي تقود العولمة لا تزال قريبة ولم يمض عليها عقد من الزمان‏;‏ أما الآن فقد بدا النجم منطفئا كما هي حال النجوم التي يفصلها عن زماننا ملايين السنوات الضوئية‏.‏ ولم تكن المسألة أن التجديد التكنولوجي قد توقف‏,‏ فما زالت الأرض الأمريكية هي أكثر الأراضي غزارة في إنتاج التكنولوجيا‏,‏ ولكن كل ذلك لم يفلح في التعامل مع الأزمة الاقتصادية في أمريكا وأوروبا‏,‏ وما كان له أثر في حربين العراق وأفغانستان لا يزال البيت الأبيض لا يعرف كيف يخرج منهما‏,‏ وببساطة فإنه بعد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فإن الموضوع ليس فقط قدرة واشنطن علي القيادة‏,‏ وإنما الاتجاه الذي تريد قيادة العالم إليه‏.‏ ومنذ عامين تقريبا بدا أن باراك أوباما يحمل رياحا طيبة جديدة يمكن للعالم كله الالتفاف حولها‏,‏ ولكن سرعان ما ظهر أن عظمة الأفكار العظمي لا تكفي لكي تخلق منها واقعا‏,‏ وفي قضية واحدة ظهر الرجل صريحا للغاية حينما قال إن الصراع العربي الإسرائيلي كان أكثر تعقيدا مما توقعت إدارته‏,‏ وكان هذا التعقيد تحديدا هو الذي جاء واعدا بحله سواء في الشرق الأوسط أو في الدنيا بأكملها‏;‏ وعلي أي حال أليس ذلك هو ما يأتي الرؤساء والعظماء من أجله؟‏!.‏
المعضلة الكبري هي أن الولايات المتحدة لديها فارق هائل بين ما لديها من عناصر القوة‏,‏ ورؤيتها حول استخدامات هذه القوة في اتجاهات متحضرة‏.‏ وعندما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي عام‏2009‏ لبلد‏14.256‏ تريليون دولار‏,‏ أو قرابة‏26%‏ من الناتج الإجمالي العالمي البالغ‏54‏ تريليون دولار‏,‏ أو ما يساوي الناتج المحلي الإجمالي لليابان وألمانيا والصين وبريطانيا مجتمعة‏;‏ فإن إمكانية قيادة النظام الاقتصادي العالمي في اتجاهات مفيدة للبشرية يصبح متوقعا‏.‏ ولكن ما حدث فعلا هو أن الثقل الرهيب للاقتصاد الأمريكي كاد يأخذ الاقتصاد العالمي كله إلي قاع المحيط عندما ظهرت فوضي العلاقة بين النظام المالي والاقتصادي في الدولة الأمريكية‏,‏ لولا أن العولمة كانت من القوة بحيث أعادت التوازن مرة أخري مصحوبا ببعض التواضع الأمريكي‏.‏ وكان جورج فريدمان وهو غير توماس فريدمان الصحفي بالنيويورك تايمز قد لخص حالة القوة الأمريكية في كتابه المائة عام القادمة حينما قال إن الأسطول الأمريكي يتحكم في كل محيطات العالم‏.‏ وسواء كانت هناك ناقلة بضائع في جنوب بحر الصين‏,‏ أو سفينة علي الساحل الأفريقي‏,‏ أو ناقلة بترول في الخليج الفارسي‏,‏ أو عبارة سياحية في البحر الكاريبي‏,‏ فإن كل سفن العالم تتحرك تحت عين الأقمار الصناعية الأمريكية في الفضاء‏,‏ وحركتها يمكن قبولها أو منعها حسب إرادة الأسطول الأمريكي‏.‏ إن مجموع القوة البحرية في بقية العالم لا تقترب من قوة الأسطول الأمريكي‏.‏
وبغض النظر عن الغرور الموجود في العبارة السابقة‏,‏ فإن المعضلة لا تزال باقية‏,‏ وهي أن وجود القوة الأمريكية لا يعني فاعليتها وقدرتها علي التأثير سواء في مجالات إستراتيجية أو ثقافية‏.‏ وببساطة فإن عناصر القوة المختلفة لم تعد قادرة وحدها دون تفكير أو شرعية أن تحدث التغيير المطلوب‏,‏ وأحيانا كان التغيير وكفي من العجلة والسرعة بحيث قاد إلي حالة من الفوضي تدوس الفقير والضعيف وغير القادر تحت أقدامها‏.‏ وعندما ركزت السلطات الأمريكية في العراق وأفغانستان علي الآليات الديمقراطية دون اهتمام بعمليات التحديث والتصنيع وبناء الطبقة الوسطي ومخاطبة العقول والقلوب فإنها في الحقيقة كانت تضع الأساس لتدمير مجتمعات ودول كانت تتعايش بدرجة أو أخري مع انقساماتها القبلية والمذهبية والعرقية‏.‏
كان النقاش عميقا‏,‏ وفي النهاية لم يكن هناك الكثير الذي يمكن عمله سوي مشاهدة مناظر أخاذة وساحرة‏,‏ ومن بعدها تنطلق أفكار كان أخطرها‏,‏ وهل يوجد بديل آخر سائر في الكون الآن غير ما قدمته أمريكا وسعت إلي تطبيقه خلال العقدين الماضيين بالكلام مرة‏,‏ وبالتجارة مرة أخري‏,‏ وبالحرب إذا استدعي الأمر مرة ثالثة؟ ولوهلة طرحت الصين كنموذج تنموي يغزو العالم الآن ببضائعه حتي لم تعد هناك مدينة أو قرية لا يطرق أبوابها زائر صيني‏,‏ ويرفع ملايين الناس من دوائر الفقر والحاجة إلي مشارف الستر وحتي الغني‏,‏ وبطريقة أو بأخري فإن خلاص العالم الثالث‏,‏ أو غالبية البشرية في الحقيقة‏,‏ قد يتم علي الطريقة الصينية القائمة علي قدر هائل من الانضباط السياسي‏,‏ مع قدر كبير من الانفتاح الاقتصادي‏.‏ وبشكل من الأشكال فإن الصين تبدو حلم الرأسمالية التي تنتج لأسواق متسعة دون أن يقض مضاجعها نقابات عمال أو إضرابات طلبة‏,‏ وبعد مذبحة ميدان تين مين الشهيرة عام‏1989‏ فإن النموذج الصيني بدا ملهما دون إزعاج لأنه يقوم علي أن الخروج من الفقر والإملاق هو أقصر الطرق للوصول إلي الحرية حتي لو كان زمن قطع الطريق بضعة عقود‏.‏
وفي الحقيقة كان النقاش ساخنا‏,‏ حتي بعد أن تم استبدال النموذج الصيني بالآخر الهندي لكي تقترن الديمقراطية بالنمو الاقتصادي‏,‏ وما بين هذا وذاك كان هناك من أصر علي عدم استبعاد روسيا أو جعل البرازيل حاضرة بطريقة أو أخري‏,‏ ولمرة واحدة ورد الحديث عن النموذج الإسلامي‏.‏ ومع كل مرة ذكر فيها واحد من النماذج‏,‏ كانت ترد الأرقام والمعلومات‏,‏ ولكن الطلقة الأمريكية الأولي كانت دائما هل ذلك النموذج أو ذاك قادر علي إنتاج جوجل‏;‏ والمعني هنا الأفكار الكبيرة والخلاقة التي تكاد تربط الكون وتجعله وحدة واحدة‏.‏ جوجل هنا هو الممثل للقوة الصلبة والناعمة الأمريكية بالقدرة علي الانطلاق إلي عوالم غير مسبوقة من الفكر والاتصال‏.‏ والحقيقة أن ما جاء عن الصين كان مدهشا أيضا‏,‏ وربما كانت الصين تصدر للعالم كله‏,‏ وهي الآن قادرة علي صناعة الإبرة والصاروخ معا‏,‏ ولكن‏600‏ مليون من الصينيين يعيشون معا علي دخل أقل من‏1000‏ دولار في العام‏;‏ وبعدهم هناك‏400‏ مليون نسمة دخلهم‏2000‏ دولار‏.‏ وإذا كانت الحال كذلك فمن الذي يعيش علي الثروة الصينية المتنامية‏,‏ والإجابة هي أن هناك‏60‏ مليون نسمة يعيشون علي أكثر من‏20‏ ألف دولار في العام‏.‏ ولكن كل ذلك قد يكون أمرا مفهوما في بلد لا يزال في المراحل الأولي للتراكم الرأسمالي‏,‏ ولكن القنبلة التي جاءت خلال هذا النقاش هي أن مصانع الإقليم الساحلي في الصين لا ترتبط بالصين نفسها‏,‏ وإنما هي أكثر ارتباطا بالولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا‏;‏ وهي عندما تبيع داخل الصين لا يختلف الأمر عن البيع والتجارة مع إفريقيا جنوب الصحراء‏.‏
تذكرت أن هذه الأرقام قد قرأتها من قبل في كتاب جورج فريدمان المشار إليه من قبل‏,‏ وهو الذي وصف الصين بأنها نمر من ورق وتنبأ لها بثورة ثقافية واجتماعية في‏2020‏ ولم يكن صعبا لدي بعض المتحدثين أن يشيدوا بالهنود الذين يساهمون في الثورة العلمية والرقمية المعاصرة‏,‏ ولكن طريق الهند لا يزال طويلا نحو التنمية غير المتركزة علي ولايتين فقط من بين‏26‏ ولاية هندية‏,‏ بل إن ديمقراطيتها يصعب تجاهل ما فيها من تعايش مع الطائفية والهرمية الاجتماعية التي تجعل مواطنين هنودا ينتمون إلي جماعة المنبوذين‏.‏ وجرت الحجج الواحدة بعد الأخري لكي تجعل طريق روسيا طويلا للتخلص من تراث الماضي وواقعية الحاضر القائم علي تحالف الأمن والمخابرات وخليط من المافيا ورجال الأعمال الذين كانوا أعضاء بارزين في الحزب الشيوعي السوفيتي سابقا‏.‏ ولم يأخذ النموذج الإسلامي كثيرا من النقاش‏,‏ ليس لأن سيرة أسامة بن لادن كانت حاضرة‏,‏ أو أن حالة الاقتصاد الإيراني كانت تعيسة‏,‏ وإنما لأن النموذج لا يتحدث كثيرا عن المستقبل إلا بمعني أنه إعادة خلق لماض بعيد‏.‏ وما بين جماعة من الأمريكيين فإن الحديث عن ماض بعيد لا معني له كثيرا‏.‏
كان منتصف الليل يقترب‏,‏ وبدا النقاش ذاهبا إلي اتجاهين كلاهما مر وعلقم‏,‏ الأول أن الولايات المتحدة رغم كل ما يؤخذ عليها ليست فقط هي التي تقود العالم بل إنها أيضا وسط غيرها من النماذج المطروحة لا تزال هي النموذج الأفضل‏.‏ والثاني‏,‏ أخذا بما نعرفه عن أحوال أمريكا هذه الأيام‏,‏ وما نعرفه عن النماذج الأخري في العالم‏,‏ فإن ما لدينا هو محاولات ناقصة للتعامل مع عالم لم يعد بقدرتنا التوصل إلي كل أبعاده بعد‏.‏ وبشكل من الأشكال فإننا‏,‏ أي المفكرين في أمور الكون‏,‏ بتنا نشبه ذلك الأعمي الذي يحاول معرفة أبعاد وقياسات مكعب الثلج بينما المكعب يذوب بين أصابعه‏.‏ وبالتأكيد فإن الاستنتاج مخيف‏,‏ وبالنسبة لي بدت معضلة صانع القرار سواء كان في دولة أو مؤسسة مخيفة‏;‏ فكيف يمكن التغيير ضمن بيئة باتت تتغير بأسرع من سرعة الضوء‏;‏ إذا جاز التعبير بالطبع حيث لا يوجد بعد سرعة الضوء سرعات أخري؟‏!.‏
وفي النهاية هل كان في حوارات بوسطون ما يصل إلي مصر ويتحدث عنها‏;‏ والإجابة هي بالتأكيد نعم‏,‏ وهل يمكن لحوار يضم مصريا واحدا إلا أن تكون مصر في القلب منه‏.‏ وموعدنا الأسبوع القادم‏.‏
[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.