ليست حكاية السد العالي مجرد حكاية حرب وتار بينا وبين الاستعمار, كما ردد جيلنا في أغنية عبد الحليم حافظ ذائعة الصيت: قلنا حنبني.. وأدي إحنا بنينا السد العالي', وإن كان هذا الفصل من الحكاية جديرا بالزهو دون ريب. وإنما كان بناء السد العالي ذروة دراما التاريخ الحضاري المصري برمته وعلي طوله, وتاريخ الصراع الملحمي بين المصري والنيل, كما لخص جمال حمدان. فقد وصلت مصر بضبط النيل إلي قمته ببناء السد العالي, فتحررت مرة واحدة وإلي الأبد من خطر الفيضان العاجز أو الجامح, رعب مصر القديمة ولعنة مصر الوسيطة, وانتهت ببنائه تراجيديا الفيضان السنوية. اكتمل تعميم الري الدائم بمصر, وهو الإنجاز التاريخي الذي بدأه محمد علي, ثم تقدم وتطور بالتدريج عبر قرن كامل بعده, وتبلور واستكمل معناه التام وبلغ ذروته القمية ببناء السد العالي. وتبدأ قراءة أول فصول حكاية السد العالي من سجلات مصر الفرعونية, حين بدأ الإنسان المصري في عصر ما قبل الأسرات الفرعونية يستعمر الوادي ذاته ودلتاه في الشمال, ويضبط جريان مياه الفيضان, بل ويحكم ضبط مجري النهر ذاته ويحصره بين الجسور والشطوط الجانبية, وبكفاحه الدءوب المتصل والمنظم في صورة تعاونية متكاملة, تمثلت في إقامة كومات التراب للقري, وحفر القنوات وإقامة الجسور حول الحيضان, وعلي جانبي المجري الأصلي للنهر... وبدأ الإنسان المصري بكل ذلك يقيم أسباب الحياة المستقرة والحضارة الزراعية التي نعرفها ولولا أن الإنسان المصري كبح جماح النهر, بل وألجمه كما تلجم الفرس العاتية.. لولا ذلك لما قامت مصر بصورتها التي مهدت لقيام الحضارة, كما لخص سليمان حزين في مؤلفه الرائد' حضارة مصر'. ونقرأ في موسوعة سليم حسن مصر القديمة أنه لسد حاجات سيل السكان الذين كانوا يتدفقون من الصحراء القاحلة إلي شواطئ النيل, تحتمت الحاجة الملحة علي إنسان هذا العصر أن ينظم ماء الفيضان نفسه, حتي يمكنه أن ينتفع به وقت التحاريق. فقام بإنشاء الترع والسدود التي كانت بمثابة الخزانات الآن ليصرف منها الماء عند الحاجة حتي لا يحدث قحط. وهذا العمل العظيم يعد أكبر فتح قام به الإنسان في وادي النيل أمام الطبيعة العاتية. ونجد عند بداية الدلتا أرضا كانت مغمورة في الأزمان السالفة بمياه النيل ولكن استردت من النهر بإقامة سد ضخم, فعلي هذه البقعة يقال إن' مينا' أسس المدينة المسماة( الجدار الأبيض)' انب حز' وهي التي أصبحت فيما بعد' منف' أو' من نفر'. ورغم هذا تبين سجلات مصر الفرعونية أخطار الفيضان الجامح أو الضعيف, ومعها قصص المجاعات ابتداء من زوسر الدولة القديمة فيما يسمي بنصوص المجاعة حتي عصر سيدنا يوسف في الدولة الحديثة. بل يري البعض أن أول ثورة اجتماعية في التاريخ, وهي الثورة التي أنهت حياة الدولة القديمة بعد أن عاشت ألف عام متصلة, في بعض مقدماتها الجوهرية, نتيجة لفشل النيل وعجز الفيضان, وما ترتب علي ذلك من مجاعة وهلاك ثم فوضي ضاربة. كما ترجع حكاية السد العالي ما سجله لنا المؤرخون العرب في العصور الوسطي بأمانة يؤلف وثيقة مفصلة لنقطة ضعف متأصلة في الزراعة الفيضية يمكن أن تصل إلي حد النقطة السوداء. ففي أوائل العصر العربي مثلا كان منسوب16 ذراعا لارتفاع الفيضان عند المقياس هو الحد بين الكفاية والحاجة حتي سميت' ملائكة الموت' فإذا ما ارتفع إلي18 ذراعا كان فيضانا' سلطانيا وعم الرخاء. فإذا ما تعدي علامة العشرين كان' الاستبحار' أي الغرق للأرض والزرع. وقد يصل إلي24 ذراعا فتكون' اللجة الكبري' أي الطوفان الكاسح, وهذا يعني غالبا' الطاعون' أي الوباء حيث يتحول الوادي إلي مستنقع ملاري كبير. أما إذا هبط النهر عن الحد الفاصل16 ذراعا, فهي' الشدة' التي قد تصل إلي حد' المجاعة'. وإذا كان الفيضان المغرق يعني الطاعون, فإن المجاعة كانت تعني' الموتان' الذي قد يصل إلي حد ينشر معه الطاعون بدوره بعد ذلك فيصبح الموتان موتانين فيكون تناقص السكان مخيفا حجما ومعدلا. ولقد كانت المجاعة ملمحا تعسا يبرز في تاريخ مصر الوسيط بشكل ملح, وسجل من هذه المجاعات في خمسة قرون من القرن14 إلي القرن18 نحو50 وباء ومجاعة, أي بمعدل مرة كل11 سنة, وليس للفيضان سلوك محدد فلقد يبدأ غالبا مبشرا وواعدا ولكنه ما يلبث أن ينخفض بسرعة وبشدة, وقد يحدث العكس فيبدأ شحيحا ينذر بالقحط فإذا به يرتفع فجأة إلي الذروة. وهنا فإن العبرة مع ذلك ليست بالذروة وحدها ولكن بطول مكثها ومداها الزمني. ولكن رب دفعة متصلة من سني القحط تتوالي بلا فاصل أو انقطاع كالسبع العجاف فتقطع دورة الحياة قطعا إذ تزامن المجاعة والموت وفناء السكان إلي حد يقرب من الإقفار. ولعل أشهر وأبشع المجاعات ما سجله البغدادي أثناء' الشدة المستنصرية' التي استمرت بضع سنين متصلة في أخريات الفاطمية. والواقع أن مصر الزراعية الكثيفة الغنية كانت تعيش بطبيعتها في أغلب تاريخها في حالة إفراط سكاني أو علي الأقل في حالة تشبع سكاني كامل. ولهذا فإن أدني هزة في موارد المياه والزراعة ما أسرع ما كانت تترك أثرها في السكان برجة تخريبية وتناقص نكبائي خطير. ولعل هذا كله أن يفسر لماذا كانت العرب تقول: إن مصر أسرع الأرض خرابا كما كتب المقريزي في الجزء الأول من خططه, ويقول المقدسي في أحسن التقاسيم:' هذا الإقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه, وإذا أجدب فنعوذ بالله من قحطه'! والواقع أن فاعلية النهر لم تكن يوما وظيفة مباشرة للنهر نفسه, للفيضان وحده, وإنما لضبط النهر كذلك, لدور الإنسان كعامل ترشيدي تثبيتي له. ومع ذلك فإن ذبذبات النهر تبدي معدل تفاوت مرتفعا للغاية كثيرا ما سخر من جهود السكان وهزم أغراضهم, ومن هنا كانت قراءة مقياس النيل في مصر, التي تنفرد بتسجيله وسجلاته السنوية الكاملة فضلا عن الاحتفال بفيضانه ووفائه منذ فجر التاريخ, هي المقابل الطبيعي للأرصاد الجوية الحديثة في البلاد المطيرة. وليس من السهل بعد هذا أن نحدد بدقة من كان الأخطر والأكثر تخريبا: الفيضان العالي جدا أم المنخفض جدا, علي أن المثل الشعبي يحسم لنا الموقف, فإنه' الغرق ولا الشرق' فالغرق, إن أهلك المحصول والحياة في الأراضي المنخفضة والعادية المنسوب, قد تنجو منه الأراضي العالية( النباري), أو علي أية حال فإنه بما يترك من غشاء غريني كثيف في كل مكان كفيل بمحصول مضاعف في العام التالي, أما الشرق فمعناه الوحيد هلاك الزراعة كلها هذا العام, دونما تعويض في العام التالي, وعلي الحالين فإن تاريخ مصر ليس كفاحا من أجل الماء فقط, ولكنه أيضا كفاح ضد الماء. وفي عهد محمد علي بدأت طفرة حقيقية, حين أضاف الري الصيفي وحقق بذلك الري الدائم, والواقع أن الإنسان المصري بالاستصلاح ومد نطاق الري إلي أقصي مدي كان دائما أو كلما أمكن يوسع حدود' وادي' النهر, ولعله قد وصل إلي قمة هذه العملية في العصر الحديث وخاصة بعد السد العالي. وإذا قال قائل إن الوفرة لا تنطبق علي الموارد المائية الشتوية الواردة الي مصر, فان السد العالي بقدرته علي التخزين قد أنهي المشكلة, بعد أن حسم القرار الاستراتيجي المصري في المفاضلة بينه وبين مشروعات تخزين المياه اللازمة لمصر في أعالي النيل. وبتوفيره للمياه طوال العام بل طوال السنوات العجاف التالية للسنوات السمان في دوراتها المتعاقبة منذ شق النيل طريقه إلي مصر بطولها. ولقد ألغي السد العالي ببساطة الفيضان والتحاريق كذلك, فحمي مصر من أهواء الفيضان. ومنذ تم السد نهائيا في1970 بل جزئيا في1967, حمي مصر من أكثر من فيضان عال وأكثر من فيضان ضعيف. ففي1972 كان الفيضان ضعيفا يهدد بالقحط, وفي1964 و1975 وكذلك في عامي1976 1977, وفي79 1980 كان علي العكس عاليا يهدد بالغرق, ثم جاءت سنوات الثمانينيات العجاف! ولكن هذه الأخطار, التي جاءت في مرحلة حرجة من تاريخ مصر سياسيا واقتصاديا, مرت دون أن يشعر بها أحد تقريبا. والمقدر أن ما وفره السد علي مصر فيها من خسائر تتجاوز قيمتها أضعاف تكاليف بنائه!