تعد فترة الستينيات أهم مراحل الأغنية الوطنية فى مصر والعالم العربى، لأنها سجلت اكتمال المضمون الاجتماعى للثورة، واستطاعت أن تنقل سيادة السلطة على الكلمات من المثقف المتعالى إلى المثقف العضوى/ المنتمى للناس/ البسطاء/ الشعب ففى (تترات) مسلسل الضحية خاطب الأبنودى بطل الطبقة المستغلة والمهشمة بقوله: اكتم بكاك.. جواك.. ياللى السنين فى وشها واخداك..!! بكرة السنين تمشى وراك..!! وتميزت أغنية الستينيات بكثافة درامية تعكس اكتمال ملامح ثورة الشعب الذى صار قادرا على ممارسة دوره السياسى والاجتماعى الفاعل، وصارت الأغنية الوطنية (مسرحا) سياسيا موازيا ومتفاعلا مع الساحة السياسية الحقيقية وإن أخذ ذلك شكلا فنيا... فخطب عبدالناصر كانت طويلة حافلة بالتفاصيل التى تتفاعل معها الجماهير بالاستحسان والهتاف، لكن الأغنية الوطنية تختزل المعانى الإجمالية للخطاب السياسى مع الحرص على إحياء معانى القوة والتأثير بجماليات الشعر وما يصحبها من معادل موسيقى يرفع درجة انتشاء الروح الجمعية ويوقظها، ففى (حكاية شعب) يقاطع العامل/ المثقف/ الراوى زملاءه وهم ينشدون: قلنا حنبنى وآدى إحنا بنينا السد العالى يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالى ليقوم بإنعاش الذاكرة الجمعية بقوله: الحكاية موش حكاية السد .. حكاية الكفاح اللى ورا السد. فيأخذ فى استدعاء ملحمة دنشواى والعدوان الثلاثى 1956 وإذ تنتعش ذاكرة الجماعة بالأحداث العظيمة،يردون على زميلهم بلهجة ملأها التشفى فى هزيمة المحتل: هوه مين لأ ده بعده هوه اللى اتلقى وعده ولا ينسى الراوى فى غمرة الشعور بالبهجة أن يذكر فضل مساندة الشعوب الصديقة: والعروبة فى كل دار وقفت معانا والشعوب الحرة جت على اللى عدانا!! وفى أغنية (صورة) يحمل الشاعر الكاميرا ليستعرض بتحريكها جميع الفئات الاجتماعية ليجسد تحالف قوى الشعب العاملة، بدءا من الفلاح أبوخير وجمايل.. وحتى الأساتذة والعلماء والمعامل ودكاترة من الشعب العامل.. ورجال سكر على مكاتبها تخدم بالروح لما تعامل!! وتتوقف كاميرا صلاح جاهين طويلا عند «المدخنة»التى ترتفع إلى السماء لا تدير المصانع فقط وإنما لتشعل غيظ الأعداء «مدخنة قايدة قلوب حسادنا.. تحتها صلب كأنه عنادنا..!!» ثم يتراجع المصور للخلف ليتأكد بحركة «الزووم» أنه قد أدخل إلى الكادر جميع فئات الشعب التى تصطف لالتقاط الصورة الرائعة وهى تدعو «ناصر» إلى موقعه فى قلب الصورة. ناصر وإحنا كلنا حواليه.. ناصر.. وعيون الدنيا عليه.. والشعب دليله وإلهامه..! وينبه المصور/ المثقف/ الشاعر الجماهير إلى أن الاقتراب فى الصورة من الزعيم ليس فى «الكادر» وإنما فى الفكر: «قربوا» من فكره وأحلامه يا اللى عليكم كل كلامه، فى الصورة طالبكم قدامه!! وفى أغنية يا «أهلا بالمعارك» يقوم الشاعر/ الراوى/ المطرب باستحضار واحد من اللقاءات التاريخية شديدة الحميمية بين الزعيم ناصر والجماهير اللذين يتكاملان، فقرارات الزعيم تتطابق وتستجيب لأمانى الجماهير، والشاعر يبدأ القصيدة بالتحضير «لاجتماع سياسى مفيش على قده كراسى من كتر ما فيه ملايين...» والجماهير تحتشد وفى عيونها «أيام ستة وخمسين». والقائد يبدأ باللحظات الصعبة/ المجيدة من الأجندة التاريخية: «الله أكبر ويوم الأزهر فى وجدانى يا شعب قمنا لقهر الصعب من تانى» ويسود الصمت المترقب الذى يسبق سيد الكلمات: «وعود ما عنديش مفيش إلا النضال عندى وشقا ومعارك كتير يا إخوانى..» وترد الجماهير على صراحة الزعيم وثقته بالهتاف «أطلب تلاقى 30مليون فدائى..» ويبدأ الزعيم بتفاصيل خطة النضال الهادفة» للأفراح والرفاهية حنمد طريق على النيل». وقد تمتعت أغنية الستينيات بتوفر بنية درامية ذات محاور أساسية تدور حولها موضوعات الأغنية الوطنية منها على سبيل المثال: 1 الوطن: الذى يتحول إلى ملامح جغرافية واضحة فهو: خضرة ومية وشمس عفية.. وقبة سما زرقاء مصفية.. وهو المصانع والمزارع والميداين والجناين وهو قناة السويس والسد العالى وهو الأهرام والذهب الأسود والنيل والقرآن والإنجيل وهو مصر الشعب وليس مصر الخالدة فقط. 2 الزعيم: وتناديه الأغنية بألقاب عديدة منها «بطل الثورة» و«حبيب الملايين» و«ناصر» «وأبو خالد» وهو «البطل» الذى انتظرته روح الجماعة المصرية: «من قبل الثورة كنا عارفينك.. من عهد جدودنا كنا مواعدينك.. كان اسمك عايش فى قلوبنا وملامحك ساكنة فى عيونا علشان كده لما اتقابلنا شاورنا عليك يومها وقلنا.. جيت فى معادك بعد ما طال وإحنا جينالك من أجيال وعن أفعال الزعيم تقول الأغنية: خلى اليأس حماس وأمل.. خلى الضعف كفاح وعمل وهو «المعلم» الذى جعلت ضربته الاستعمار يسلم، وهو «ريسنا ملاح ومعدينا عامل وفلاح من أهالينا» وهو الذى «هندسها جمال وحنبنيها وحنطلع فوق فى السما بيها» وهو الذى أطلق «الصرخة القوية فى الميدان فى إسكندرية». أما عن موقع الزعيم فى الأغنية الوطنية فهو فى «القلب» تلتف حوله الجماهير وتزف ظهوره بالطبل والمزمار البلدى، وتستمع إلى كل حرف فى خطابه بانتباه وترقب، ويصل التوحد بالزعيم إلى أقصى درجة فى المقطع التالى: الشعب يريدك يا حياته يا موصل موكبه لغاياته.. ناصر وحياة المصحف وآياته اسمك فى قلوبنا أغنية يا حرية يا وطنية يا روح الأمة العربية يا ناصر...!! 3 القيم: فقيمة العمل والإنجاز تسود الأغنية الوطنية: «الصورة ما فيهاش الخامل والهامل واجبه نعسان» والمطلوب باستمرار من المواطن : «إدى لعملك جهد زيادة خللى لمصر عملنا عبادة.. فكر.. ابحث.. ازرع.. صنع.!!». «يا إيدينا العاملة ازرعى اخلاص واحصدى والرب يعين!!» وتبرز قيمة الجماعية فى الأغنية «متقولشى أنا من المنزلة ولا سنديون ولا من الباجور ولا من تلا.. شيلنى شيل وله.. علشان بلدنا يا وله وجمال بلدنا يا وله كله يهون..! 4 الحلم: وهو الأمل النبيل فى الغد الذى تتحقق فيه الصناعة «كبرى وتماثيل رخام على الترعة وأوبرا فى كل قرية عربية»، وهو حلم للوطن العربى الممتد: «الشعب العربى رمى قيوده وخرج من الطوق.. طالع للقمة وبيزرع فيها الراية».