ليست إعادة قراءة تاريخ مصر هروبا من مناقشة ما يثيره حراك المصريين الراهن من قضايا ساخنة, وإنما مساهمة واجبة في بيان ما تقود اليه مخاطر تفكك المجتمع وتهديد الاستقرار وفقدان الاتجاه وهدر الثقة بالذات وتراجع الولاء والإنتماء! وإذا كنت في مقالي السابق قد بينت كيف تمتعت مصر بالاستقلال طوال نحو70% من تاريخها وكانت بذلك الأكثر استقلالا في تاريخ الإنسانية المكتوب, فقد آن أوان التعلم من دروس تعرض مصر لأول غزو استعماري في تاريخها, وخوضها أول حركة تحرر وطني في التاريخ, وتأسيسها لأول إمبراطورية في التاريخ دفاعا عن أمنها القومي! والواقع, كما يجمع علماء المصريات, أي الدارسون المتخصصون في تاريخ مصر والمصريين في العصور الفرعونية, أن عصر الدولة الوسطي- ما بين الدولة القديمة والدولة الحديثة- كان عهد حضارة وثقافة وفن عظيم, قطعت فيه مصر شوطا بعيدا صاعدة في معارج الرقي الإنساني من جميع نواحيه. ولكن ما لبث هذا العهد أن انقضي, وخلفه عهد مظلم حالك علي إثر سقوط الأسرة الثانية عشرة, حين أخذت بوادر الانحلال تظهر, حين انقطع تدوين مقاييس النيل وتسجيل قوائم التعداد, فكان تدهور أحوال الزراعة والاقتصاد وإهدار مباديء عدالة التوزيع, وتسارع الانحطاط سريعا; حين صار ملوك مصر لا يكاد يستقر أحدهم في عرشه حتي تتزلزل قواعده, ويهوي في سرعة خاطفة مدهشة! حتي أن ثلاثة من الملوك الذين تربعوا علي عرش البلاد لا يعرف لواحد منهم اسم تتويج, مما يدل علي أنهم قد خلعوا عن العرش علي إثر توليتهم قبل أن يتاح لهم التتويج رسميا! فقد صار كبار الموظفين, وبخاصة الضباط منهم يغتصبون العرش, فكان يحل الواحد منهم مكان الآخر, دون أن يضمن مغتصب لنفسه مركزا ثابتا أو يفلح في تأسيس حكم قوي الأركان, وكان كبار رجال الدولة يبيعون وظائفهم وصار العرش يباع ويشتري لمن في يده قوة وجاه! وحينها ظهر علي مسرح مصر قوم من الأجانب, كانوا علي ما يظهر خليطا من أجناس متباينة, ملكوا أمر البلاد, وتحكموا في أقدارها. وقد تسرب هؤلاء المغتصبون ببطء وعلي مهل من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط الي الدلتا, وشجعوا علي استمرار المنازعات علي مواقع السلطة والثروة بزج مدع جديد للعرش يشدون أزره! وفي الصعيد حيث كان وجود ونفوذ الهكسوس أضعف تكونت إمارات مستقلة بقوة الأمر الواقع أو بادعاء الحق الشرعي! ومع انحلال وحدة الدولة المصرية, وكانت قد وضحت أمام الهكسوس سبل مصر وشعابها, انقضوا عليها بجيش جرار, سيطروا به علي الدلتا في بادئ الأمر, ثم زحفوا نحو الصعيد حتي مصر الوسطي. وظهرت أول أسرة أسسها' الهكسوس' في مصر وهي الأسرة الخامسة عشرة. وقد سمي المصريون هؤلاء الغزاة' الهمج' و'الهكسوس'( الرعاة) و'الطاعون'. ونعلم حسب تفسير عالم المصريات الألماني' زيته' للوحة' أربعمائة السنة' أن الهكسوس كانوا قد أصبحوا أصحاب السلطان في أرض الدلتا حوالي عام1730 ق.م. وأما تاريخ طرد' الهكسوس' من أرض الكنانة فقد كان حوالي عام1580 ق.م, وعلي ذلك فقد حكم الهكسوس مصر بين مد وجزر نحو قرن ونصف قرن من الزمان! عانت مصر خلالها ولأول مرة في تاريخها لا ومهانة وسيطرة ونهب الحكم الأجنبي الغاصب, حتي عاد الوعي الوطني للمصريين, فهبوا إلي ساحة القتال لتخليص البلاد من النير الأجنبي. وتماما كما جاء النصر النهائي لمصر المعاصرة علي العدوان الاسرائيلي وإنهاء كل أثر له بفضل كفاح المصريين من أجل تحرير سيناء بالحرب والسياسة تحت قيادة رؤسائهم الوطنيين, عبد الناصر والسادات ومبارك, فقد خاض المصريون حروب الاستقلال, التي كانت أمجد صحيفة في التاريخ المصري القديم, تحت قيادة ملوكهم الوطنيين إلي أن قيض الله لمصر النصر النهائي, وتحررت مصر منهم علي يد الفرعون العظيم' أحمس الأول', الذي طارد العدو المستعمر حتي خارج حدود مصر. وإذ كانت مصر العليا تدفع جزية فادحة للهكسوس أصحاب السيادة في الدلتا, فقد تمرد أهل الصعيد علي دفع الجزية, وبقدر ما أخذت قوتهم تزداد هبوا في وجه الغزاة, وبدأت الحروب الحقيقية لخلاص مصر من نير الهكسوس في عهد الملك' كامس', وهو من ملوك طيبة الذين حكموا. مصر العليا. وبعد أن هزم الملك كامس الهكسوس وأرجعهم إلي الدلتا حرر النوبة المصرية من حكم مملكة كوش السودانية ثم تولي' أحمس الأول' عرش مصر, وأسس الأسرة الثامنة عشرة باعتباره طارد الهكسوس من بر مصر, وفقا للكاهن المصري' مانيتون', الذي اعتمد علماء المصريات تأريخه لعصور الأسرات الفرعونية! ولقد قام ملوك إقليم' طيبة' بقيادة مصر بأسرها لطرد الهكسوس حتي هزموا وطردوا من مصر كلها. وفي عهد تحتمس الأول, أخمد في الحال كل عصيان عند الحدود, وخلع علي أثره كل أمير معاد لمصر, وكان من حقه' أن يفتخر بسيادته علي العالم كما جاء علي نقش تركه لنا في' العرابة المدفونة' كتب فيه:' لقد جعلت مصر سيدة كل الأراضي'. ولم تحدث حروب تستحق الذكر في عهد خلفائه, الملك' تحتمس الثاني' والملكة' حتشبسوت', رغم أن الهكسوس كانوا لا يزالون في' فلسطين' و'سوريا'. ثم ألفت فلول أمراء الهكسوس والولايات الأخري حلفا لنزع السيطرة المصرية حين اعتلي' تحتمس الثالث' عرش مصر, فكتب في نقوش تاريخ حروبه التي دونها علي جدران معبد الكرنك: تأمل! أنهم قد بدءوا بالعصيان علي جلالته! وكان أن ضربهم' تحتمس الثالث' ضربة قاصمة قضت علي أطماعهم في فلسطين وقوضت نفوذهم في سوريا! وأسس الإمبراطورية المصرية, التي امتد سلطانها من أعالي نهر' دجلة والفرات' شمالا حتي الشلال الرابع جنوبا في أواخر عهده, فكانت مواقع السيطرة بحد السيف وحسن السياسة خطوط دفاع أمامية عن أمن مصر القومي, بعد أن ذاقت مصر ويلات تجاهل مصادر التهديد الإقليمي! وكان تأسيس الامبراطورية المصرية نقطة تحول فيها الشعب المصري للمرة الثانية بعد حرب الاستقلال إلي شعب محارب ساد العالم, بعد أن كان سيده ومعلمه في الفنون والصناعات والعلوم قبل ذلك النهوض الحربي. ثم أخذ في تنظيم حكومة البلاد وإصلاح ما تخرب فيها خلال حرب الاستقلال مما استنفد الجزء الأكبر من مدة حكمه. وقد نال' تحتمس الثالث' وبحق من جانب المؤرخين الغربيين لقب' نابليون الشرق' واعتبروه' أول بطل عالمي في التاريخ'! وللحديث بقية.