هجر الشيء أي تركه وتخلي عنه, ويقال هجر المكان أي رحل عنه إلي غيره إما عن رغبة وإما عن إذعان لظرف قهري. ومن هنا جاء التهجير لجماعة من الناس إما مخططا عبر المؤسسات الرسمية أو بلا تخطيط ووفق إمكانات الناس وظروفهم. وفي الأزمات والحروب تعرف ظاهرتا اللاجئين والمرحلين . اللاجئون هم هؤلاء الذين تركوا الوطن كله إلي غيره, ولدينا في اللاجئين الفلسطينيين نموذج. أما المرحلون فهم الذين انتقلوا من مكان محدد في الوطن إلي مكان آخر داخله. وفي السودان أمثلة كثيرة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. فالمهم أنهم يظلون في الوطن الكبير, ولكنهم في الآن نفسه بعيدون عن الوطن الصغير, أي القرية أو المدينة أو الحي. ومن هنا تأتي اللوعة والحزن والمعاناة, ويأتي أيضا الاحتكاك الانساني والاجتماعي وربما أيضا الحضاري. في سنوات ما بعد النكسة كانت مصر الكبيرة مسرحا لتغيرات اجتماعية واسعة المدي, وكانت مجالا لاحتكاكات إنسانية مهمة, وكانت مجالا لتبادل خبرات اجتماعية غير مسبوقة. كانت ظاهرة الهجرة الداخلية جزءا رئيسيا من هذه التحولات. فقد هاجر أو بالأحري تم تهجير كل سكان مدن القناة إلي عمق مصر. كان قرار التهجير إحدي تبعات النكسة العسكرية من جانب, وأحد عناصر إعداد جبهة القتال علي طول قناة السويس من جانب آخر. حين انتقل سكان القناة إلي مدن الدلتا والصعيد والقاهرة حدثت واحدة من اكبر حالات الاحتكاك الإنساني, فسكان مدن القناة الثلاث وما حولها من قري ومراكز كانوا آنذاك في حدود تفوق المليون نسمة بقليل, وحين انتقلوا إلي مدن أخري حملوا معهم أسلوبهم في الحياة الأكثر انفتاحا إلي قري ونجوع ومدن كانت أكثر محافظة. ومن هنا كان لابد للطرفين, هؤلاء المهجرون وهؤلاء المرحبون بهم أن يتكيفوا مع بعضهم البعض قليلا, وأن يتدافعوا فيما بينهم كثيرا. ولما عاش بعض هؤلاء المهجرين في المدارس وفي الأماكن العامة التي وفرتها الدولة لهم, بدا أن نمط الحياة الخاص الذي اعتادوا عليه قبل النكسة ليس سوي ذكري. أما الذين توافرت لهم بعض موارد ساعدتهم علي تأجير سكن خاص في منزل في قرية أو في مدينة فلم يعدموا أيضا خبرات المعاناة وضرورة التضحية والتكيف مع بيئة جديدة بكل ما فيها من ملابسات غريبة احيانا وذات قيمة عالية أحيانا أخري. في بعض البيوت التي وفرتها الدولة للمهجرين جرت قصص وحكايات تكشف عن طبيعة أهل مصر التضامنية في ذلك الزمان. وكثير منها نفتقده الآن بل نتحسر عليه. إحدي هذه الحكايات بدأت أطرافها في منزل في مدينة بنهاالجديدة آنذاك وفرته الدولة لأحد الموظفين الكبار, والذي يبخل بما لديه علي أصدقاء وأقارب جمعتهم المحنة والنكسة والمعاناة. كانت بنهاالجديدة عبارة عن حي جديد تماما قررت الدولة منحه للمهجرين من مدينتي الاسماعيليةوالسويس. وفي هذا المنزل ذي الحجرات الأربع تجمعت أربع اسر, لكل منها حجرة خاصة بها تحفظ فيها ما تيسر من أغراضها الخاصة, أما الصالة فكانت مشاعا للجميع الذين اقترب عددهم من خمس وعشرين فردا بين كبير وصغير وبين رجل مسن وزوجات فضليات وأبناء في أعمار مختلفة ورجال حملوا هم الهجرة وتبعاتها. وفي المساء كان يتم ترتيب الأمر بصورة تضامنية, فالرجال والشباب ينامون في الصالة, وتنام النساء والبنات في الحجرات. وفي الصباح يتم تنظيم الدخول إلي دورات المياه, والاولوية دائما للصغار. كان من عادة الرجال أن يتجمعوا مساء أمام المنزل ليقرأوا الجرائد ويستمعوا إلي أخر الاخبار ويتبادلوا الاحاديث عن مصير البلد وما يمكن أن يحدث لاسيما متي سيعودون إلي بيوتهم ومدنهم وأعمالهم. وفي يوم الجمعة تحديدا كان مقال بصراحة المنشور في الأهرام لرئيس تحريرها محمد حسنين هيكل مثارا لمناقشات عديدة, الكل يجتهد ويصرح باجتهاده فيما أدرك من معان كامنة أو ظاهرة في المقال. في هذه الآونة بدأ الجميع يدرك حقه في معرفة ما الذي يجري هناك في أعلي قمم القيادة. وكانت أغنية عبد الحليم حافظ التي انتشرت آنذاك ومطلعها' اللي شبكنا يخلصنا', وحسب تفسير أحد هؤلاء الرجال, بمثابة رسالة من المواطن البسيط إلي الزعيم الكبير بأن عليه أن يعيد للبلاد اعتبارها وأن ينهي هذه المأساة. فهو في نظر الناس المسئول الأول عما جري, والمسئول الأول أيضا عن الخروج من النفق المظلم الذي وضعت فيه مصر. وحين جاءت أسرة خامسة لتلحق بالركب لم تجد لها مكانا في داخل المنزل المكدس بضيوفه, وكان الحل التضامني والعبقري أن تضع الأسرة الوافدة حديثا متاعها في أعلي السطح إلي حين تتيسر الأمور, أو بالأحري إلي حين تستطيع أن تدبر لها مكانا مستقلا, علي أن تشارك أهل الدار المأكل والمشرب. ونظرا لضيق المكان في الداخل, فلم يكن هناك مفر من أن ينام أبناء الأسرة الجديدة أعلي السطح. لم يطل الامر كثيرا, فقد حدث ما لم يكن في الحسبان, ففي إحدي ليالي شهر اكتوبر حملت السماء أمطارا غزيرة لم تكن معتادة في هذه البقعة من أرض مصر. وإذا كان المطر علامة خير ونماء, ففي هذه الليلة كان عبئا ثقيلا. مر الليل وجاء الصباح ليكشف عن مأساة, فقد خسرت الأسرة متاعها كله, لم يعد هناك لا سرير ولا دولاب ولا ملابس ولا أي شئ. شعر أفراد الأسرة بأنهم يولدون من جديد, ويبدأون من العدم. كان الحزن عارما وشديدا. ولكن كان القرار أيضا سريعا; لابد من البحث عن منزل بأي صورة كانت. بدأ البحث في قائمة الاصدقاء الذين يمكنهم تقديم المساعدة, كان الأسم الأول في القائمة هي السيدة فوزية وعم نجيب, ومعهما الوالدة العجوز. هم أصلا من أبناء الاسماعيلية. كانوا أصدقاء حميمين لكل الجيران. كان الأولاد يدعونها أبلة فوزية لانها لم تبخل علي أحد منهم بعلمها في اللغة العربية والنحو والحساب والتاريخ ومادة القومية العربية, وكل ذلك مجانا وبلا مقابل. كان الدرس الخاص عندها متعة مليئة بالعلم وقطع الفاكهة والحلوي. وقبل كل ذلك بالحب والمشاعر الرفيعة. كانت تتعامل مع الاولاد باعتبارهم أبناءها الأعزاء. وكان الأولاد يحبونها بشدة ويرونها بمثابة أم ثانية لهم. كان لأبلة فوزية ابنة عم في بنها, تعيش هناك منذ زمن طويل, ولديها ابنة وابن يدعي ميشيل, كنا نقول له ميشو. وكان زوجها الاستاذ جرجس صاحب عمارة من أربعة طوابق, في كل طابق شقتان. كان رجلا ضحوكا ودائم الابتسام. وفي أسفل العمارة محلان, أحدهما لبقال يدعي' عم حسين', والآخر محل تصوير. وفرت ابنة العم' أم ميشو' شقة للسيدة فوزية ولعم نجيب وللوالدة العجوز, في عمارة زوجها. وبعد واقعة المطر قررت' أم ميشو' أن تقدم العون السريع للأسرة المنكوبة صديقة أبلة فوزية. وكان القرار أن يتم بناء شقة جديدة في أعلي العمارة, وأن تساعد الأسرة المهاجرة ببعض المال إن توافر لديها علي أن يحسب ذلك من الايجار بعد اكتمال البناء. وبالفعل بدأ العمل سريعا. وبين أكوام الرمل وأكياس الأسمنت وأسياخ الحديد والطوب الاحمر, ولم يكن البناء قد اكتمل بعد, قررت الاسرة المنكوبة ان تنتقل إلي الشقة. مرت الأسرة بتجربة عجيبة, يذهب الأولاد إلي المدارس في الصباح, ويأتي العمال ليكملوا جزءا من العمل, وفي المساء يذاكر الأولاد علي نور مصباح' الجاز' وينامون علي أكوام الرمال وما يتوافر من أكياس الأسمنت بعد ترتيبها في صورة مناسبة. كان منظر السماء وما فيها من نجوم يأتي عبر ألواح الاخشاب التي تسند أعمدة الاسقف, وكانت الريح تمر لتذكر النائمين بأنهم تقريبا ينامون في العراء. بعد أسابيع قليلة صار الامر أفضل كثيرا, فقد اكتمل البناء وصار للأسرة المهاجرة شقة ذات أبواب. كانت واحدة من متع الفتي الصغير أن يلعب لعبة الطائرات الورقية. تعلم تصميمها وصنعها حين استقر لمدة شهر في مطلع رحلة البحث عن مكان للهجرة إليه, في قرية قريبة من السنبلاوين. كان شباب القرية يتبارون في تصميم أكبر الطائرات الورقية وأكثرها ألوانا وأفضلها قدرة علي الطيران. تعلم الفتي مهارة صنع طائرة ورقية كبيرة الحجم, ووفر من مصروفه الضئيل ما يشتري به خيطا طويلا جدا. صارت الطائرة الملونة جاهزة للطيران. تحين الفتي وقت العصر وصعد إلي سطح العمارة العالية, وأطلق العنان للطائرة الكبيرة. كلما ارتفعت الطائرة وجد الفتي الصغير أنه يرتفع معها, كانت أقدامه تلامس الأرض بالكاد. ووقف بجانب السور ليستعين به حتي لا يطير مع طائرته الورقية. في هذه اللحظة ظهرت أم ميشو علي السطح, وأسرعت إلي الفتي وضمته إلي صدرها وأخذت الخيط من يد الفتي الصغير واطلقت العنان للطائرة لتذهب الي مصيرها المحتوم. شعر الفتي بالحزن قليلا علي ضياع الطائرة, وبالأمان كثيرا لأنه وجد من ينقذه من الطيران إلي أعلي. في ذلك الزمن لم يكن هناك فرق بين حسن وميشيل, ولا بين عم حسين البقال والاستاذ جرجس صاحب العمارة.