مازلنا نقلب في أوراق السادات ونتجول بين صفحات كتاب حمل عنوانه اسم الرئيس الراحل أنور السادات ومؤلفه الكاتب الكبير أنيس منصور.. وقد استوقفني هذا الجمع بين الأسمين علي غلاف الكتاب. فلا شك أن الكاتب الكبير ارتبط بالرئيس الراحل أنور السادات, بل كان شاهدا علي أحداث لم تغير فقط وجه الحياة في مصر, بل في الشرق الأوسط كله. وكان من المنطقي أن يجمع غلاف الكتاب بين اسميهما معا, وقد تحدث أنيس منصور وكتب كثيرا من المقالات عن الرئيس الراحل أنور السادات سواء في حياته أو بعد رحيله, وجميعها كتابات نابعة عن اقتناع عميق بأن السادات لم يكن رئيس دولة حديثة العهد بانقلاب ثوري فحسب, بل إنه أيضا دبلوماسيا وسياسيا وإنسانيا فوق العادة. وهذه المذكرات التي كانت تنشر في حياة الرئيس وتأخر جمعها في كتاب سنوات وسنوات ليس المقصود منها منافقة أحد, وإنما حفظ لجزء من ذاكرة هذه الأمة... كانت عبقرية السادات في حاجة الي قلم أنيس منصور الذي استطاع بأسلوبه السهل الممتع أن يحملنا معه لنعيش أحداث ومواقف غيرت وجه الحياة في مصر.. قبل أن تغير وجه التاريخ.. ولازلت أذكر وأنا طالب بجامعة بنسلفانيا حضور امرأتين من إسرائيل الي الجامعة, وكان المسيطر علي تفكيرهما هو شيء واحد لا غيره, وهو أن السادات ليس شخصا سهلا بل إنه سياسي خطير, وأن هدفه الأساسي هو استعادة أرضه, وبعد ذلك يترك الندم لإسرائيل, وهو يستخدم لغة دخلت قلب الناس في كل مكان حتي اليهود أنفسهم الذين انفعلوا مع السادات وصدقوا أنه رجل السلام وأن إسرائيل من الممكن أن تعيش مع العرب دون حروب. ولقد قامتا خلال إقامتهما في أمريكا بزيارة أكثر من40 ولاية أمريكية ونظمتا أكثر من مؤتمر ولقاء بهيئات علمية وسياسية لكي يهاجما السادات ويقلبا موازين الأمور ويجعلا الشعب الأمريكي يصدق أن السادات سوف يعيد الأرض ولن تأخذ إسرائيل أي شيء في المقابل..! والمدهش أن عبقرية السادات قد ظهرت في اختراقه لنفسية عدوه وجعله يصدق أن مصر لن تحارب إطلاقا, وأن الأمور في بلده صعبة للغاية لأن الشعب يقف ضد الحكومة ولا يصدقها, لقد وصل الحال بأن السادات كان يسرب أخبارا مضللة عن قدرة مصر وجيشها علي حرب مفتوحة مع إسرائيل, وكان يؤكد أن هذه الحرب سوف تكون كارثية النتائج علي الشعب المصري.. وجاء يوم السادس من أكتوبر عام1973, ولم يكن قد مضي من شهر الصيام سوي تسعة أيام لتفاجأ إسرائيل بأن هناك جيشا يخترق مواقعه ويتقدم بثبات وبتكتيك عسكري محكم.. وبعد أن تحقق النصر وارتفعت هامة الجندي المصري جاء السادات نفسه الرجل العسكري الذي حارب الإسرائيليين وانتصر عليهم يدعوهم الي السلام ويتحدث عن السلام بين الشعوب, والغريب أن حديثه كان مقنعا ربما لأن السادات نفسه كان لا يقول كلمة هو غير مقتنع بها, فكان حديثه يستند الي إيمان عميق برجل عرك الحياة. وأذكر أنني كنت مسافرا الي أمريكا وكان الي جواري أحد الأشخاص الذي عرف نفسه لي بأنه عضو في الكنيست الإسرائيلي, وفي هذه اللحظة تجهمت ووقع في نفسي الحزن كيف أجلس بجوار عضو في الكنيست الإسرائيلي.. ولم أرغب في إظهار هذا الشعور لمحدثي.. وبدأت أفكر في هذا الجدار النفسي بيننا وبين إسرائيل حتي أننا أصبحنا نتجنب مجرد الحوار معه أو اقتناء كتاب لأنه يحمل اسم إسرائيل في عنوانه, بينما الإسرائيليون قرأوا عنا ودرسونا جيدا حتي عرفوا عنا كل شيء.. فاجأني عضو الكنيست بقوله أن السادات استطاع أن يخدع إسرائيل بالعديد من أساليب الخداع التي جعلتهم يصدقون أن الجندي المصري غير قادر علي تحرير الأرض, ولذلك كان عبور الجندي المصري للقناة صدمة لكل إسرائيلي.. بصراحة لم أتمكن من عبور هذا الجدار النفسي بيني وبين محديثي فتحججت بالذهاب الي دورة المياه, ولكني لم أعد مرة أخري الي جوار هذا الرجل.. هكذا تعلمنا.. وهكذا كنا نخاف..! لقد كان الرئيس السادات حريصا علي التذكير بمصر وحضارتها وآثارها في كل مقابلاته مع ضيوفه الكبار.. حتي أنه كان يستضيفهم في استراحة الآثار بهضبة الأهرام ليلتقي معهم وهم ينظرون الي أهرامات مصر العظيمة, وكان ممن جلس في هذه الاستراحة هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكية خلال رحلاته المكوكية الي مصر, وكان السادات يعقد المؤتمرات الصحفية من خارج هذه الاستراحة, ومن أمام الهرم الأكبر, وأذكر أنه كان دائما يحضر الي منطقة الهرم وهو يقود عربة سيات خضراء بنفسه, ومن خلفه عربات وأفراد الحراسة يسرعون للحاق به.. ولازلت أذكر زيارة ديفيد روكفيلر رجل البنوك الشهير ومن أهم وأغني عائلات أمريكا.. وقد جاء لزيارة منطقة آثار الهرم وهو وعائلته, وكنت أنا المرافق له خلال الزيارة.. وبعد أن دخلنا هرم الملك خوفو واتجهنا الي الناحية الشرقية من الهرم لزيارة أهرامات الملكات وبقايا المعبد الجنائزي الخاص بالملك خوفو, ثم توجهنا الي زيارة مركب الملك خوفو. وكانت هذه الزيارة بعد أشهر قليلة من تولي الرئيس السادات الحكم, وفجأة وأنا أشرح لروكفيلر وعائلته المعلومات الأثرية الخاصة بالكشف عن مركب خوفو وجدت أمامي فجأة الرئيس السادات, وهنا لم أصدق نفسي لأنني لم أتخيل أن شيئا مثل ذلك يمكن أن يحدث.. ووجدت السادات يحيي روكفيلر ويتحدث معه قائلا: كنت في زيارة الهرم وعرفت أنك موجود فجئت لأرحب بك وأقول لك أن أعظم شيء فعلته هو أنك جئت لزيارة الهرم قبل إن تقابلني, وبعد أن حياه مودعا قام بتحيتي, كل هذا وأنا واقف فاغر الفم من الدهشة غير مصدق ما حدث.. أما سبب الدهشة فهو أنني لم أكن أتخيل أن هناك رئيس جمهورية يفعل ذلك. وقد وضح لي منذ البداية أننا أمام طراز آخر من الرؤساء.. رجل يضع مصلحة البلد قبل كل شيء ومستعد لفعل كل شيء لتحقيق أهداف محددة.. فلم يجد غضاضة من أن يأتي بنفسه ويحيي الرجل لمعرفته أن هذا الرجل من الممكن يوما أن يفيد مصر.. وفي عام2007 تم دعوتي علي الغداء في حفل عام بمدينة نيويورك, أقامته إحدي المؤسسات الخيرية الكبيرة لجمع تبرعات للمشروعات الثقافية, وبالمصادفة وجدت نفسي علي نفس منضدة الغداء مع دايفيد روكفيلر, ورغم أن الرجل وصل الي عمر لا تتخيل معه أنه يمكن أن يتذكر هذا الحادث إلا أنني وجدته يتذكر مقابلة الرئيس السادات, بل ويقول أنه لا يمكن أن ينسي هذا اللقاء, لأنه أثر كثيرا في مفهومه للشخصية العربية ووجد في الرئيس السادات مثالا لرجل يمكن أن تصادقه بعد خمس دقائق من الحديث معه. كان اللقاء الآخر المهم مع الرئيس السادات, والذي يجب أن يعرف به العامة والخاصة في أثناء حضور الرئيس السادات ومعه جيمي كارتر رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية في ذلك الوقت الي منطقة اثار الهرم.. وأخذ المرحوم ناصف حسن مدير آثار الهرم بالشرح للرئيسين وأنا أقف بجواره لكي أقوم بالشرح الي حرم الرئيس, وعندما قال المرحوم ناصف أن أحجار هرم الملك خوفو تصل الي2.300.000 حجر, وجدت الرئيس السادات يقول وبطلاقة باللغة الإنجليزية وبصوت جهوري يصل الي أذن كارتر: حقيقة أن أحجار الهرم تصل الي2.300.000 حجر وأن حضارة مصر عظيمة أنارت شعلة الحضارة لشعوب الأرض كلها.. إنني أعتبر نفسي دائما من المحظوظين بصداقتي للكاتب الكبير أنيس منصور, فمن خلال هذه الصداقة قابلت كثيرا من الأدباء والمفكرين, وعرفت الكثير عن الرؤساء والملوك, وكنت أقابله علي الأقل مرة في الأسبوع في صالونه الذي جمع الأدباء والمفكرين, وكان أنيس منصور ممن يحبون الحديث عن السادات وجوانب شخصيته المختلفة.. وللعلم فلقد كانت اعتقالات سبتمبر هي أقصي و أصعب قرارات السادات, وكان وضع الكتاب والمثقفين المعارضين لفكرة السلام مع إسرائيل خلف أسوار السجون هي أكثر القرارات التي اختلف عليها الكثيرون ما بين مؤيد لها ومعارض.. وقد نال السادات الكثير والكثير من الهجوم عليه وقد سمعت من أنيس منصور أن بيجن لم يكن يمل من الشكوي دائما من هجوم المثقفين والسياسيين المصريين علي إسرائيل وأنه أي بيجن أصبح يتشكك في إمكان إحلال سلام بمنطق السادات بين مصر وإسرائيل, لأن هذا السلام وعلي حد زعمه لايوجد إلا في رأس السادات وحده. ولذلك اراد السادات أن يقطع كل طريق علي ادارة إسرائيل في اخذ خطوات تلغي أو تؤجل عودة سيناء فكانت اعتقالانت سبتمبر اعتقالات مؤقتة.. كان السادانت قد اخذ قرارا بالإفراج عن المعتقلين بمجرد عودة سيناء.. فلم يمهله القدر الذي منحه الشهادة في اليوم الذي كان من أجمل أيام ليس حياته فقط بل تاريخ مصر كلها.. أعتقد أن أوراق السادات لأنيس منصور يحتاج لقراءتها أبناءنا وأبناء الذين لم يشهدوا هذه الفترة من تاريخ بلدهم.. قبل احتياجنا نحن الي قرائتها لنستعيد ذكريات أيام السادات.. إننا حق محظوظين بوجود كاتب عظيم من طراز أنيس منصور لم يحصل عي نوبل لكنه حصل عي حب واحترام كل قرائه ومحبيه.. وأنا أولهم.