عادة ماكان يأتي عيد العمال في الأول من كل شهر مايو في كل عام ونراقب فيه حركات الاحتفالات أو المظاهرات السلمية أو مسيرات التضامن العمالية والنقابية في هذا البلد أو ذاك وفي هذه العاصمة أو تلك. في العادة كنا نراقبه كيوم مليء بالمهرجانات وبالخطب وبالنداءات وأحيانا كثيرة, بالزهور وبالبالونات. وعادة ماكانت تنظمه النقابات وتبرز فيه كفاعل رئيسي وكأكبر قيادة تنظيمية ينخرط في عضويتها ملايين الأجراء.. فالنقابات والاتحادات العمالية كانت سيدة الموقف في هذا اليوم. وهو بالشيء الطبيعي لأن هذا العيد كان نتاجا لأحداث قهر وقعت علي عدد من العمال الأمريكيين في مدينة شيكاغو عاصمة ولاية ايلانوي ثم لقرار اتخذته النقابات الأوروبية في القرن التاسع عشر بعد عشر سنوات من وقوع تلك الأحداث الأمريكية. وقد تراجعت مظاهر الاحتفال بأعياد أول مايو منذ سقوط حائط برلين, ولم تعد تتخذ اشكالها الرسمية إلا في حدود الإجازة المدفوعة الأجر التي يحصل عليها الأجراء. ولكن في عام2010 جاء احتفال أول مايو مرتديا ثيابا مختلفة, كما أن احداثه لم تتوقف عند اليوم الأول من مايو. راقبناه وكأن أحداثه تمتد بجانب كونها تختلف, وفي الأغلب والأعم تحت قيادات جديدة لم تعد كلها نقابية. ولاشك أن السبب في ذلك يعود الي ذلك التأثير الواضح والممتد لتبعات الأزمة المالية العالمية علي سوق العمل وماصاحبها من انكماش في الوظائف وفي فرص العمل وماتبع ذلك من ارتفاع معدلات البطالة وتراجع في قيمة الأجور الحقيقية وتدهور ظروف وشروط العمل مما انعكس علي القدرات القديمة علي النقابات. الجديد في احتفالات هذا العام هو صعود قضية العمالة المهاجرة الي سطح الأحداث. لقد أثبتت التحركات العمالية التي جرت في أول مايو عام2010 أن الاقتصاديات الكبيرة, وإن كانت قد حققت بعض خطوات لتجاوز الأزمة المالية التي بدأت مع نهاية فترة ولاية جورج دبليو بوش في الولاياتالمتحدة عام2008 إلا أن هذا التجاوز لم ينعكس علي الأجراء. فالتجاوز الذي حدث لايزال يتخذ حالة من النمو في الاقتصاد ولكنه لم يتحول بعد الي فرص عمل كافية وأجور لائقة تطور من حياة الشعوب عامة والأجراء خاصة, وهم اي الشعوب وأجراؤها الذين, من مدخراتهم وضرائبهم, قدموا الحوافز للرأسمالية المالية وساعدوها علي تجاوز أزمتها. وفي محاولتنا للدخول الي التفاصيل علينا البحث عن العواصم التي نشطت فيها الحركات العمالية في احتفالات أول مايو.. وأي منها اتسم بالعنف وأي منها اتسم بالسلمية.. ثم من قاد غالبيتها. هل كانت النقابات البيت الطبيعي للأجراء أم كانت الأحزاب التي لم تكن تتدخل كثيرا في احتفالات الماضي.. أم أن الأحداث قد نظمت بعيدا عن المؤسستين مجتمعتين.. ثم ماذا كانت مطالبها التي تبلورت في الشعارات التي رفعها المتظاهرون والهتافات التي حملتها حناجرهم؟. وقعت اكبر التظاهرات الاحتجاجية السلمية في لوس أنجليس في ولاية كاليفورنيا في الولاياتالمتحدة وفي كاتمندو في نيبال وفي كوريا الجنوبية. أما الاحتفالات الجماهيرية فجرت في تركيا وفي العراق وفي موسكو. وجرت الاشباكات الحادة في برلين وفي أثينا, حيث استمرت في هذه الأخيرة, لأيام بعد الأول من مايو. في كل هذه التحركات اختفت النقابات والاتحادات العمالية بشكل واضح فيما عدا في بلدين اثنين وهما اليونان حيث شاركت النقابات الحزب الشيوعي اليوناني الصغير الحجم ولكن الواسع التأثير, في البداية في قيادة المظاهرات التي جرت في مواجهة سياسة التقشف التي تتبناها الحكومة كشرط لحصولها علي القرض السخي المقدم لها من بلدان الاتحاد الأوروبي ومن صندوق النقد. ثم تراجعت قيادة النقابات بعد اليوم الأول من مايو فتدخلت التيارات الفوضوية وحدث العنف والاقتتال. ثم في ألمانيا حيث خرجت عناصر الفاشية الجديدة تعبر بشكل عنيف ضد الوجود الأجنبي في سوق العمل. فيما عدا حالتي اليونان والألمانيا, اختفت النقابات من الساحة لتحل محلها الأحزاب اليسارية في حالات كما حدث في تركيا وروسيا والعراق حيث لم تستطع الوصول الي الحشد الجماهيري الواسع. وفي ألمانيا حيث نشطت عناصر الفاشية. وفي غالبية الحالات الأخري نشطت منظمات المجتمع المدني المعنية بقضايا العمالة المهاجرة تحديدا سواء كانت المساندة أو المعارضة لها. ولكن, وبشكل عام كانت قضية العمالة المهاجرة عنصرا مهما في التحركات العمالية عام2010 في لوس أنجليس شكلت الجماهير ذات الأصول الأمريكية اللاتينية والآسيوية والإفريقية غالبية المتظاهرين المحتجين علي القانون الصادر في ولاية أريزونا والذي يسمح للشرطة بضبط العمالة غير القانونية وترحيلها. ويمكن فهم اسباب هؤلاء المتظاهرين وحماس المشاركين فيها إذا ما عرفنا أن ولايات غرب الولاياتالمتحدةالأمريكية تضم من ذوي الأصول الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية غالبية التعداد السكاني العام. ويمكن القول إن هذا الموضوع تحديدا, وهو قضية العمالة المهاجرة, كان من الموضوعات الأساسية التي نوقشت في مناظرات الانتخابات البريطانية فمساندة برنامج حزب الأحرار الديمقراطيين الكاملة للعمالة المهاجرة وحقوقها في الحصول علي العفو كمقدمة للحصول علي الجنسية كانت أحد أسباب رفض العديد من الدوائر الانتخابية لبرنامجه الانتخابي. والحزب كان علي حق في اقتراحه حيث بين أن غالبية اطباء ومدرسي وعمال مدينة لندن ليسوا من الأصول البريطانية الخالصة. والمدهش أن الحزب تنازل عن قضية العمالة المهاجرة في اتفاقه مع حزب المحافظين في مساومته لصياغة الائتلاف الحكومي الحاكم الآن. فظاهرة تراجع دور النقابات في تنظيم حياة ونشاط الأجراء باتت ملحوظة في مواقع كثيرة من العالم. وهي ظاهرة تولد الإحساس بالقلق علي مستقبل حركة الأجراء بشكل عام لأنها تترك الملايين منهم معرضين لحركة تلقائية لايحكمها الحوار والمناقشة والجدل بحثا عن الحلول السليمة والمعقولة للمشاكل الجماعية. كما تسمح هذه الظاهرة بتراجع العقل الجماعي القيادي للأجراء بما يسمح بظهور وبوجود الجيوب المتعددة والمعزولة التي تتخذ قراراتها بشكل أقرب إلي الاسلوب العفوي الذي لا يأخذ في اعتباراته المقدمات وارتباطها بالنتائج التي يمكن أن تتحقق. وبذلك يتعرض العمال المهاجرون للمزيد من الهجوم من التيارات المتطرفة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية التي عادت تهدد بلدان منطقة اليورو في وقت لم تعد سوق العمل الوطنية في كل البلدان كما في الأقاليم وبالتالي في العالم.. قادرة علي الانغلاق علي الأجراء من العمال والمهنيين من مواطنيها الأصليين. المزيد من مقالات أمينة شفيق