كتبت - فاطمة الدسوقي: محكمة.. قضت محكمة استئناف الإسكندرية للأحوال الشخصية بتمكين عجوز من رؤية أبنائها الكبار وأخذ تعهد علي الأبناء بزيارة أمهم التي بلغت من العمر أرذله.. رفعت الجلسة. في انحناءة العجز والجدب شقت العجوز ساحة المحكمة.. وثارت التساؤلات, وتباينت التخمينات, واعتقد البعض أنها جاءت تطلب نفقة, وظن آخرون أنها تنهي إجراءات إعلام وراثة, ولم يدر بخلد أحد أنها جاءت لتستعطف فلذات أكبادها, وتتوسل للمحكمة أن تقضي لها برؤيتهم, وأن يتوجهوا لزيارتها حتي وإن كان ذلك رغما عن أنفهم!! ياسيدي.. صدق المثل القائل: قلبي علي ولدي انفطر.. وقلب ولدي علي حجر.. هؤلاء البهوات الذين يقفون أمامكم أزهقوا روحي وطردوني من الحياة.. هؤلاء قوقعوا حدودي.. وثنوا ذيل الأيام فوق وجودي.. تلك الوجوه التي أحببتها.. تلك العيون التي سهرت من أجلها.. تلك الأحضان التي احتويتها بهم.. عرفت العذاب والقهر والانكسار والغدر المدمر. ياسيدي.. هؤلاء توجتهم ثلاثا فوق رأسي.. ومن أجلهم نسيت أنني امرأة وارتديت ملابس الرجال حتي لا تنهش كلاب السكك جسدي.. وكنت الأم والأب في آن واحد.. واشتغلت وكافحت ورسمت معهم كل خطوط العمر باللون الأبيض.. وفجرت بداخلهم منابع الحب,, وما بين القلب والمنبع تشققت قنوات الفرح والأمان. أجل ياسيدي.. كانوا دائما فوق القمة.. وكنت أري كل واحد منهم سي السيد.. وأنا أمهم.. أسلمتهم بيدي صكوك عبوديتي.. كنت لهم مثل الخادمة.. أخرج للعمل لجلب المال وأعود كي أغسل وأطبخ وأجلس بجوارهم وهم يذاكرون دروسهم.. ثم آخذهم بين أحضاني لأستدفئ بأنفاسهم ساعات الليل الطويل. ياسيدي.. لا أدري من أين أبدأ سرد حكايتي.. فقبل أن أفتح عيني علي نور الحياة والأحزان ترافقني.. وخرجت من عنق رحم أمي وأنا أصرخ.. وكان صراخي علي فراق أمي التي رحلت في أثناء ولادتي.. وكتب لي القدر أن أحمل لقب يتيمة قبل خروجي للحياة.. وتربيت في كنف زوجة أب جرعتني كل كئوس المرارة والألم.. وكي أهرب من جحيمها تزوجت وأنا في الخامسة عشرة من عمري.. ولم يدر بخلدي أن جحيما أشد قسوة وأكثر عذابا ينتظرني.. فكان زوجي رحمه الله من فقراء الله.. يعمل في حقول الأثرياء من أهالي بلدتنا بمحافظة البحير.. وبرغم عدم قدرته علي توفير كسرة خبز لنا أثقل كاهلي بالأبناء.. ورزقنا الله بأربعة من البنين.. ولأن مسلسل أحزاني كانت به حلقات ناقصة.. والهموم لا تأتي فرادي.. فقد طرق المرض باب زوجي واختطفه الموت وهو في الثلاثين من عمره.. وترك لي تركة ثقيلة تعجز عن عملها الجبال الراسيات. خشيت علي أبنائي من الموت جوعا.. أعمامهم الفقر يلاحقهم.. وزوجة أ بي يستحيل عليها أن تعطيني رغيف عيش.. وماذا أعمل في قرية تفوح منها رائحة الفقر.. فلم أجد أمام سبيلا سوي شد الرحال بأبنائي إلي مدينة الإسكندرية.. منهم من أحمله علي كتفي.. وآخر يمسك في ذيل جلبابي.. وثالث يمسك بيد أخيه.. ورابع يحمل حقيبة بداخلها ملابسنا المهلهلة ويسير أمامنا.. فهو كبيرنا ورب العائلة الذي لم يتجاوز عمره ست سنوات.. وتثاقلت خطواتي.. إلي أين أذهب؟ ومن يطيق أربعة أطفال؟ وهداني تفكيري إلي العمل كحارس عقار, ولكن كيف وأنا امرأة ومن خلفي طابور من الأبناء يحتاج إلي الرعاية.. لكن كان لا مفر.. طرقت أبواب عمارات مدينة الإسكندرية.. وكلما أنهكني التعب افترشت الرصيف.. ثم أعود لرحلة البحث عن الشفاء.. حتي ابتسم لي القدر ورق صاحب عقار لحالي وأعطاني غرفة في بدروم العقار لكي تأويني وصغاري.. ولأني كنت صغيرة السن وعلي تبدو علامات الصبا والجمال.. حلقت شعر رأسي وارتديت ملابس الرجال.. وتركت شاربي ينمو كالرجال حتي لا تنهشني الكلاب الضالة.. وكنت أسير وفي يدي عصا غليظة.. وتمكنت من زرع الثقة في نفوس السكان.. وكنت لهم مثل أشد وأعظم الرجال.. وكنت أنظف الشقق للهوانم من سكان العمارة.. واشتهرت بالأمانة ودماثة الخلق بين السكان.. وكل واحدة تجلب لي صديقتها وأقاربها.. وبدأت أجمع المال وأدخره.. وكل همي هو توفير شقة لأبنائي.. ووقف صاحب العقار الذي أعمل فيه بجانبي واشتريت منه شقة في منطقة شعبية بالإسكندرية.. ولأنه كان يريد ثواب كالة اليتيم فقد باع لي شقة بتراب الفلوس.. وانتقلت للعيش فيها والتحق أبنائي بالمدرسة.. وكنت أعمل خادمة في الشقق صباحا.. وأقوم بأعمال الحياكة مساء.. وأعد الأطعمة الجاهزة للسيدات الموظفات.. وأبنائي من حولي يذاكرون دروسهم. تحاملت علي نفسي حتي كبر صغاري والتحقوا بالجامعة وأنا أعمل وأشقي من أجلهم.. ورفضت أن يخرجوا للعمل في أثناء دراستهم.. فكنت أخشي عليهم من لفح أنفاسي.. وتحديت الصعاب حتي وصلت بهم إلي بر الأمان وخرجوا في الجامعة وتزوجوا.. وبعدها طرق المرض بابي وعدت لا أقوي علي العمل.. وتمكنت بمساعدة مخدومتي من الحصول علي معاش الضمان الاجتماعي.. واكتفيت بذلك المبلغ الضئيل وحمدت الله أنني أكملت رسالتي علي أكمل وجه. ياسيدي. التحق أبنائي بالوظائف.. وتفتحت لهم أبواب الرزق.. وركبوا السيارات الفارهة.. وسكنوا الشقق الفاخرة.. وتزوجوا وأنجبوا وأخذتهم زحمة الحياة.. ونسوا من وقفت بجوارهم حتي أصبحوا من عظماء القوم.. وامتنع الأربعة عن زيارتي لأني لم أعد أليق بمقامهم الرفيع.. وغيروا أرقام تليفونات منازلهم.. وطفت جميع شوارع الإسكندرية أحملق في كل الوجوه.. أبحث عن فلذات أكبادي.. أخرج صباحا وأعود مساء وقلبي يتلهف لرؤية واحد منهم.. تورمت قدماي.. وكأن الأرض انشقت وابتلعتهم.. زاد شوقي إليهم وكان حلمي أن أراهم مرة واحدة وبعدها يأخذ ملك الموت روحي. ياسيدي.. هداني تفكيري إلي نشر استغاثة لأبنائي في الصحف لأتوسل إليهم أن يسهموا لي في رؤيتهم ولو ثانية واحدة.. لكن جيراني قالوا لي: إن ذلك سيتكلف أموالا كثيرة.. ونصحني جاري المحامي بإقامة دعوي رؤية وسوف تطلب المحكمة من المباحث التوصل إلي عناوينهم.. وها أنا أقف أمامكم سيدي وأتأسف لفلذات الأكباد.. ومستعدة أن أنكفئ علي أقدامهم لأقبلها لأني أوقفتهم أمام عدالتكم.. وأتوسل إليهم سيدي أن يعفوا عني ويسامحوني لأني لم أفعل ذلك إلا لأن قلبي كان ينفطر شوقا إليهم.. وأستحلفكم سيدي ألا يخرج منكم قولا يجرح مشاعرهم.. فهم الدماء التي تسري في عروقي.. والهواء الذي أتنسمه. وقفت هيئة المحكمة في حيرة أمام توسلات العجوز.. وطلبت في رفق وهدوء برئاسة المستشار محمود خليل من الأبناء أن يزوروا من وضعت الجنة تحت أقدامها.. ولو مرة واحدة في الشهر.