من يتابع معارك الخلاف أو الاختلاف في الرأي علي الساحة الفكرية في أمريكا أو أوروبا, ويعقد مقارنة بين منهجهم وطريقتهم في النقاش من جهة ومنهجنا وطريقتنا من جهة أخري, يغبطهم علي هذا المستوي الرفيع للغة الحوار والاختلاف في الرأي فيما بينهم . فكل منهم يبدي رأيه بشدة وصرامة وحزم وإصرار دون أن يجرح مشاعر الآخر أو يأتي بكلمة تسفه من رأيه أو تقلل من شأنه, كما لو كانوا قد درسوا أدب الحوار والاختلاف في الرأي كما حث الإسلام عليه ودعا إليه. لا شك أن الاختلاف في الرأي ظاهرة إنسانية صحية لم يحرمه الشرع أو يجرمه بل وضع له من القواعد والأصول ما يجعله يهدي إلي الصواب وينتهي إلي تحقيق مصلحة المجتمع, ولعل من المفيد التذكير بهذه القواعد والأصول, خصوصا أن الساحة الفكرية في مصر نشطة وفاعلة ودائما متحركة غير راكدة, لما تزخر به من علماء أجلاء ومفكرين مبدعين طالما أناروا للأمة العربية والإسلامية طريقها ومهدوا لها دربها, وأولي هذه القواعد أن يحتكم المختلفون في الرأي إلي الله ربنا, قال تعالي: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلي الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب( الشوري: آية10), وعندما نحتكم في قضية من القضايا إلي الله تعالي علينا أن نبحث بكل موضوعية وتجرد عن المعايير الشرعية التي تنبني عليها الأحكام, وفي هذا السبيل للمخطئ أجر وللمصيب أجران, فالجميع هنا مأجورون والحمد لله, فلماذا إذن نضيق علي أنفسنا ويصبح بعضنا من أرباب التعصب والانغلاق؟!. من آداب الحوار والاختلاف في الرأي أيضا ألا يجزم كل ذي رأي بأن رأيه هو الصواب المطلق ورأي غيره هو الخطأ المطلق بل عليه التسليم بأن العكس قد يكون صحيحا, فليس بيننا من هو أعلم وأفقه من الإمام الشافعي رضي الله عنه صاحب المقولة الشهيرة: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وفضلا عما سبق, فإن الاختلاف في الرأي يجب ألا يفسد للود قضية أو يوقع البغضاء بين المتحاورين من النخب المثقفة, ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه الأسوة الحسنة, فقد تشاوروا حول ما يفعلون بأسري بدر, فرأي أبو بكر رضي الله عنه أن تقبل فديتهم لما بين المنتصرين والمنهزمين من أواصر القرابة, وكان المشركون قد التمسوا منه أن يكون شفيعا لهم عند الرسول فبعثوا إليه من قالوا: يا أبا بكر إن فينا الآباء والإخوان والعمومة وبني العم فأبعدنا قريب كلم صاحبك يمن علينا أو يفادنا فوعدهم أبو بكر خيرا وخرج إلي الرسول يشفع فيهم ويرجوه أن يمن عليهم, واتجه رسل المشركين إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقولون له مقالتهم لأبي بكر فلم يجبهم إلي طلبهم وخرج إلي الرسول يقترح عليه ضرب رقابهم ولم يجب الرسول, وتناوب أبو بكر وعمر الحديث واختلف المسلمون الحاضرون في الرأي بين مؤيد لرأي أبي بكر ومؤيد لرأي عمر, ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم أخذ برأي أبي بكر, ومع ذلك لم يغضب عمر أو الذين أيدوه من أبي بكر والذين أيدوه, بل انصرفوا جميعا من مجلس الرسول صلي الله عليه وسلم يضع كل منهم يده في يد الآخر. إنها صورة ناصعة من تاريخنا المجيد تعلم البشرية كيف تختلف وكيف تتحاور لتهتدي في النهاية إلي الطريق القويم, فحبذا لو نستحضر هذه المعاني الجميلة الماثلة أمامنا في تاريخنا ونتعامل بها في حاضرنا حتي لا نكون ممن عناهم الشاعر بقوله: ومن العجائب والعجائب جمة قرب الدواء وما إليه وصول كالعير في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول