الحاجة أم الاختراع.. عبارة شهيرة عرفها العالم في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.. وكانت تعني وقتها.. أن حاجة الانسان إلي التقدم والازدهار والتغلب علي المعوقات التي تواجهه هي التي دفعته إلي ما أنجزه من ابتكارات واختراعات ما زلنا نجني ثمارها, لكن يبدو أن هذا المفهوم تغير في حياتنا المعاصرة.. فقد أصبحت حاجة الشركات الكبري متعددة الجنسيات إلي تحقيق المزيد من الأرباح هي التي تدفعهم دفعا إلي تطوير المنتجات بصورة مستمرة حتي تتمكن من غزو الأسواق العالمية والإيقاع بمزيد من المستهلكين.. وبالطبع تلعب آلة الدعاية والإعلان الجزء الأكبر في تحقيق هذا الغرض. وهذا هو ما يريد أن يقوله الفرنسي فريدريك بيجيديه في روايته( تسعة وتسعون فرنكا).. التي تتناول عالم الدعاية والإعلان في العصر الحديث عبر سرد اعترافات خبير أسهم في غسل الأدمغة لاستقبال شتي أنواع المواد وتلقفها من السوق بكل رضا وأريحية.. بل والحض علي الاستزادة منها!. أوكتاف الشخصية الرئيسية في الرواية كان يعمل في مجال الدعاية وتحلي بشجاعة هجاء ما يراه فظائع بحق المستهلكين الذين يتم استدراجهم إلي فتح الأسواق عبر أكثر الوسائل الحديثة تأثيرا ويقارب كاتب الرواية بين مفهوم عالمية المنتج وطريقة محو الحدود وظروف الحياة.. وهي التي تسهم في تحويل العالم إلي فئتين منتجين ومستهلكين.. ويكون الوسيط المضلل بينهما الإعلان.. حيث تقوم شركات الدعاية والإعلان بمهمة خطرة للغاية تسهم بها في تشويه القيم الروحية والإجبار علي إرادة وحب ما لا حاجة له إليه والإيهام بضرورته التي لا غني عنها. ويتحدث فريدريك عن ترقيم الانسان في العالم المعاصر.. فالأفراد يتم استبدالهم عند الشركات المنتجة بمجموعة من الأرقام ترتفع وتنخفض طبقا لنشاط الشركة المعلنة.. وليس جودة المنتج. ويشير إلي وقوع العالم المعاصر في الفخاخ التي تنصبها له شركات الدعاية التي لا تتورع عن تجميل القبائح.. كما يتحدث عن قوانين البيع والشراء التي تحكم تعاملات الناس وحياتهم.. وأن كل شيء يباع ابتداء بالحب والفن وصولا إلي الدول! أوكتاف يصف عمله بتلويث البيئة.. وأنه يبيع الناس ما هب ودب من بضاعة ويرغمهم علي الحلم بأشياء لن تكون ابدا في متناول أيديهم وأنه يسير أمامهم دوما يغرر بهم ويغريهم باللهاث وراء ما يعلن عنه من منتجات وبضائع يسيل لها لعابهم وإن هذا من صلب عمله الذي لا أحد فيه يتمني السعادة لغيره.. لأن السعداء لا يستهلكون علي ما يعتقد كاتب الرواية.. وأن الآلام والأحزان هي التي تدفع إلي التسوق وتحض عليه. في نهاية الرواية يترك أوكتاف رجل الدعاية والإعلان عمله وزوجته ويخرج من إطار عالمه الذي كان يقيده بعد سلسلة من عمليات التحدي والجنون التي خاضها ضد نفسه وضد المتحكمين بالأسواق والبشر ليجد نفسه في السجن بعد اتهامه بجريمة قتل ويكون سجنه هذا نوعا من الخلاص يهدأ فيه ويعيد ترتيب داخله الذي اجتاحته فوضي السوق وحمي الجديد.. وكان هذا السجن بالنسبة له هروبا جميلا إلي عتمة يجدها ساطعة كأنه يرد بذلك علي الأضواء الباهرة التي كانت تزيد عتمته وعتمة البشر حوله من خلال التعمية والتحايل عبر الشركات العملاقة التي اجتاحت الدواخل وفرضت قوانيها التي تعدت بها علي خصوصية الناس وقضت مضاجعهم يقنع نفسه بأنه لا يمكث في السجن.. بل خرج من العالم برضاه. إن الحاجة في العصر الحديث لم تعد أم الاختراع وأن الاختراع بات يفرض ويفترض حاجات متجددة لم تكن تخطر علي بال وتوهم بأنها اساسية لا يمكن العيش بدونها لتكون الخدعة الخطيرة إحدي أهم وسائل تغيير نمط الحياة وفرض نمط معاصر من العبودية علي الانسان الذي يرتهن من حيث لا يدري لسلطة التكنولوجيا من جهة ولإغراء المنتجات التي تكتسح الأسواق وتوجب البحث عنها وتلقفها من جهة أخري. د.عماد إسماعيل