انعقدت انتخابات البرلمان الأوروبى فى ظل مواجهة بين تيارين رئيسيين الأول يركز على ضرورة تكثيف الاندماج الأوروبى وتوسيع نطاقه بما يسمح بتحول أوروبا الى قوة سياسية واقتصادية وعسكرية حقيقية قادرة على القيام بدور فاعل فى عالم اليوم الذى يشهد تصاعدا فى ثقل كل من روسيا والصين بالتزامن مع مركزية الدور الذى تقوم بة أمريكا كقوة عظمى أصبحت تركز على مصالحها ولم تعد تعبأ بأوروبا وبالتحديات التى تواجهها، فى حين يركز التوجة الآخر الشعبوى واليمينى على ان الاندماج الأوروبى، رغم أهميته، فإنة لا يمكن ان يأتى على حساب الدولة الوطنية بهويتها وذاتيتها الثقافية او بتجاهل خصوصيتها الاجتماعية وطبيعة مشكلاتها الاقتصادية، ويندرج تحت هذا التوجه تيارات مناهضة للاتحاد الأوروبى ولسلطات بروكسل ومعارضة لسياسات الصفوة ورافضة لاستقبال المهاجرين واللاجئين. وقد أدت تلك المواجهة الى تزايد نسبة المشاركة فى تلك الانتخابات التى تعد الأعلى التى تشهدها اوروبا منذ أكثر من عشرين عاما، حيث جاءت المشاركة الأكبر من المواطنين الذين استشعروا ضرورة الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية الأوروبية من اخطار تكرار مآسى الماضى التى ادت الى صعود النازية والفاشية بكل ما صاحبته من كوارث لا يستطيع احد تحمل تبعاتها وبأهمية الحفاظ على الاتحاد الأوروبى مع محاولة تطويره من الداخل فى ضوء فداحة الاعباء المترتبة عن محاولة الخروج منه اسوة بتجربة البريكست، وايضا من قبل الدوائر المناهضة لهجرة اللاجئين والتى تدعو الى احترام سيادة الدول وحقها فى تطوير الاداء الاقتصادى والاجتماعى وفقا لاولوياتها الوطنية. وعلى الرغم من التقديرات المتباينة لنتائج انتخابات البرلمان، الا انه من الواضح أن خريطة التوازنات السياسية الأوروبية قد تعرضت لتغيرات جوهرية من شأنها أن تؤثر على مجمل اوجة الاوضاع السياسية الأوروبية وحتى على امكانية استمرار الاتحاد الأوروبى بسياساته الراهنة، وتتعلق تلك التغيرات ب ثلاثة تطورات رئيسية تتمثل فيما يلي: 1 أن احزاب يمين الوسط ويسار الوسط المؤيدة للاتحاد الأوروبى، والتى يجسدها حزب الشعب ال EPP والتحالف التقدمى للاشتراكيين الديمقراطيين قد خسرت الاغلبية التى ظلت تحتفظ بها فى البرلمان الأوروبى منذ عقود، فبعد ان كانت تلك الاحزاب تحتفظ ب 54% من مقاعد البرلمان الأوروبى، وتمثل اكبر تكتل فية، تقلصت تلك النسبة لتصل الى مجرد 43%، حيث انخفضت مقاعد حزب الشعب من 216 الى 179 مقعدا، فى حين تراجعت مقاعد التحالف التقدمى للاشتراكيين الديمقراطيين من 185 الى 150 مقعدا، فالناخب الأوروبى لم يعد يقبل بسطوة الاحزاب التقليدية التى تراجعت شعبيتها بشكل ملحوظ، وهو الامر الذى يوضح ان البرلمان الأوروبى بتشكيلة الجديد سيكون بدون تكتل متجانس يتمتع بالأ غلبية بما يحتم على احزاب الوسط محاولة إقامة تحالفات مع قوى اخرى حتى يمكنها الاحتفاظ بمركزية دورها المستقبلى الذى يتعين تطويره فى ضوء ما يفرضه واقعها الجديد من تحديات. 2 انه على الرغم من ان التقدم الذى أحرزته التيارات الشعبوية واليمينية قد جاء أقل من التوقعات، فإنه يظل عاملا حاسما فى مجمل الشئون الاوروبية وفى تحديد سياسات اصلاح الاتحاد الأوروبى وتطوير دوره المستقبلى، فالفوز الكبير الذى حققه ماتيو سالفينى فى ايطاليا والنجاح الذى حققته لوبن فى فرنسا، حتى ولو كان بنسبة ضئيلة، يضاف الية التفوق الذى حققة فيكتور اوربان فى المجر ونيجل فاراج فى بريطانيا هو تطور لا يجب التقليل من شأنه او تجاهل تداعياته. 3 تصاعد ثقل أحزاب الخضر التى شكلت بنجاحها اقوى المفاجآت فى نسيج تلك الانتخابات والتى تركزت فى دول غرب وشمال اوروبا واجتذبت اصوات الشباب، حيث حصلت احزاب الخضر على المركز الثانى فى المانيا وعلى المركز الثالث فى كل من فرنسا وفنلندا ولكسمبورج وعلى مراكز متقدمة فى كل من هولندا وايرلندا وبلجيكا والدانمارك بما يؤهلها للحصول على 70 مقعدا من مقاعد البرلمان الأوروبى، وهو تطور من المتوقع ان يكتسب ثقلاً متواصلاً نتيجة لعمق وجدية القضايا التى يؤكدون اهمية تناولها والتى تركز على حياة البشر وضمان امنهم وسلامتهم وعلى تطوير مستويات معيشتهم. ويعتبر ظهور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبى بكل اثارها مقدمة لتواصل الصدام بين ثلاثه قوى رئيسية الاولى يتزعمها الرئيس الفرنسى ماكرون والتى تدعو الى تطوير تجربة الاندماج الأوروبية والتحرك نحو إنشاء جيش اوروبى موحد وتعزيز مكانة اوربا كقوة لها شأنها فى نسيج العلاقات الدوليه، وذلك فى مواجهة التيارات الشعبوية واليمينية التى تركز على ضرورة الحفاظ على الهوية والذاتية السياسية والثقافية للدول الأوروبية، وضرورة احترام سيادتها ومعارضة استقبال المهاجرين واللاجئين وأهمية الحد من نفوذ السلطات البيروقراطية فى بروكسل للاتحاد الأوروبى والعمل على تطوير سياساته واساليب تناولة لمختلف القضايا الأوروبية، وتتعلق الثالثة بأحزاب الخضر التى ترى ضرورة التركيز على مجموعة من القضايا البيئية والاقتصادية والاجتماعية التى يدخل فى إطارها الحفاظ على البيئة ومقاومة الاحترار العالمى وضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير شبكات الحماية الاجتماعية ومعالجة عدم المساواة فى الثروة والدخل وتعزيز احترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية. إن الصدام بين تلك القوى سيمثل أحد المدخلات الرئيسية فى تشكيل اوروبا الجديدة التى ستظهر لنا بأولويات وتوجهات وقيادات جديدة سواء للاتحاد الأوروبى او للدول الأوروبية نفسها، خاصة وان نتائج تلك الانتخابات، التى لم يحقق فيها اى طرف نصرا حاسما، قد عززت من الانقسامات الداخلية فى العديد من الدول الأوروبية والتى ستحد من القدرة على تشكيل حكومات ائتلافية وستؤثر على كفاءة تناولها للعديد من القضايا الحالية، اذ يبدو ان اوروبا مقبلة على الدخول فى مرحلة من الانقسامات التى يمكن ان تؤثر سلبا على مجمل أوضاعها السياسية. لمزيد من مقالات السفير . عمرو حلمى