تنعقد انتخابات البرلمان الأوروبى المقبلة خلال الفترة من 23 الى 26 مايو الحالى فى ظل حالة من الضعف والانقسام لم تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتتجلى ابرز صورها فى تباطؤ الأداء الاقتصادى وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وتزايد معدلات عدم المساواة والانقسام الاجتماعى الناجم عن عدم عدالة توزيع الثروة فضلا عن الصدام حيال قضايا الهجرة واللاجئين، وتواصل تداعيات أزمة البريكست واضطراب الأوضاع الداخلية فى فرنسا والتحديات الناجمة عن الحكومة الشعبوية الايطالية وحالة السيولة السياسية التى تشهدها الأوضاع الداخلية فى عدد من الدول الأوروبية ومنها بلجيكا والمجر والسويد وبولندا وانحسار ثقل انجيلا ميركل عقب تخليها عن رئاسة حزب ال CDU وقرب نهاية ولايتها كمستشارة لالمانيا الاتحادية. ويعتبر تزايد ثقل التيارات اليمينية والشعبوية وانهيار العديد من الاحزاب السياسية التقليدية من بين أضخم التحديات التى تواجه أوروبا فى المرحلة الحالية الامر الذى وصفه الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون بالتحدى الذى لم تتخيله أوروبا من قبل، وهو التحدى الذى سيفرض نفسه بقوة على الانتخابات البرلمانية الأوروبية والذى يمكن ان يذهب الى حدود احداث تغيير جوهرى فى مجمل جوانب الحياة السياسية الأوروبية والى تعزيز احتمالات تراجع الديمقراطيه الليبرالية والى تكثيف التحرك من اجل ادخال تغيرات كبيرة فى السلطات المستقبلية للاتحاد الأوروبى نتيجة لتزايد اقتناع قطاعات أوروبية عريضة بان تجربة الاندماج الأوروبية، رغم اهميتها فإنها بهياكلها التى يجسدها الاتحاد الأوروبى بسلطاته الراهنة لم تعد قادرة على معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التى تواجه العديد من المجتمعات الأوروبية، خاصة ان احداث الانتخابات الأوروبية المقبلة ستشمل ايضا اختيار رؤساء جدد لكل من المفوضية الأوروبية وللبرلمان الأوروبى وللمجلس الأوروبى وللبنك المركزى الأوروبي. ومن المتوقع أن تشهد انتخابات البرلمان الأوروبى صراعا بين توجهين رئيسيين، الاول يركز على ضرورة تكثيف الاندماج الأوروبى وتوسيع نطاقه بما يسمح بتحول أوروبا الى قوة سياسية واقتصادية وعسكرية حقيقية قادرة على القيام بدور فاعل فى عالم اليوم الذى يشهد تصاعدا فى ثقل كل من روسيا والصين بالتزامن مع مركزية الدور الذى تقوم به الولاياتالمتحدةالامريكية كقوة عظمى حيث أصبحت تركز على مصالحها ولم تعد تعبأ بأوروبا ولابالتحديات التى تواجهها، فى حين يركز التوجه الآخر الشعبوى واليمينى على ان الاندماج الأوروبي، رغم أهميته، فإنه لا يمكن أن يأتى على حساب الدولة الوطنية بهويتها وذاتيتها الثقافية أو بتجاهل خصوصيتها الاجتماعية وطبيعة مشكلاتها الاقتصادية، ويندرج تحت هذا التوجه تيارات مناهضة للاتحاد الأوروبى ولسلطات بروكسل ومعارضه لسياسات الصفوة ورافضة لاستقبال المهاجرين واللاجئين، وهو توجه يتزايد ثقله بمعدلات مطردة فى فرنسا والمانيا واسبانيا والسويد وهولندا بالاضافة الى دول أوروبا الشرقية، والذى اكتسب قوة دفع كبيرة من جراء انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدةالامريكية وبتوجه بريطانيا الى الخروج من الاتحاد الأوروبى وبتولى حكومة شعبوية مقاليد الامور فى ايطاليا وبتردى الاوضاع الاقتصادية فى العديد من الدول الأوروبية، يضاف الى ذلك بروز أزمة لاجئين تعد الاكبر التى يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بكل ما تفرضه من تحديات اقتصادية واجتماعية ومن تهديد للهوية الثقافية والدينية الأوروبية. ويعد توجه ملايين الناخبين من ال28 دولة الاعضاء فى الاتحاد الأوروبى لاختيار 751 عضوا جديدا فى البرلمان الأوروبى واحدا من اهم الاحداث التى تشهدها أوروبا والتى ستؤثر حتما فى مستقبل الدول الأوروبية وفى الدور المستقبلى للاتحاد الأوروبى بسلطاته وآلياته وكيفية تناوله مختلف القضايا الاوروبية والدولية، اذ ستحظى القضايا المتصلة بالهجرة واللاجئين والإرهاب والأوضاع الاقتصادية والبطالة وتغير المناخ باهمية قصوى فى نسيج الانتخابات المقبلة، ورغم التنسيق الجيد الذى يتم فيما بين التيارات الشعبوية واليمينية الأوروبية فى ايطالياوفرنسا والمانيا وهولندا والسويد والمجر وبلغاريا والتشيك وبولندا ووجود قواسم مشتركة عديدة فى مواقفها وما تحققه من شعبية متزايدة وثقل متصاعد وتوقع تحقيقها لنجاحات ملحوظة فى الانتخابات المقبلة على حساب احزاب يمين الوسط ويسار الوسط، فإن ذلك لا يجب ان يقودنا الى تصور انها ستنجح فى الاستحواذ على اغلبية مقاعد البرلمان الأوروبى بل سيقتصر الامر على تحقيق زيادة ملحوظة فى مقاعدها بدرجة سيكون لها تأثيرها على عمل الاتحاد الأوروبى ومؤسساته وأولوياته وكيفية تناوله مختلف القضايا التى اصبحت تستأثر باهمية متزايدة للناخب الأوروبي. وتقودنا تلك التطورات الى ضرورة توقع ظهور اوروبا مختلفة حيث ستشهد تصاعدا ملحوظا فى ثقل التيارات الشعبوية واليمينية التى يمكن ان تصل الى سدة الحكم فى العديد من الدول الأوروبية فى المستقبل القريب بما لذلك من انعكاسات تحد من امكانية قبول تدفقات اضافية من الهجرة واللاجئين او التفاعل الايجابى مع الثقافات المغايرة التى تمثل تحديا للهوية والذاتية الثقافية والقيم المستقرة فى اساليب الحياة الأوروبية، وهو الامر الذى يمكن ان يمتد الى رفض مواصلة تقديم الدعم لقوى الاسلام السياسى ورموزها او قبول تطلعاتها للوصول للحكم فى عدد من دول منطقتنا، كما يمكن ان تؤدى التطورات الاوروبية الجديدة الى تعزيز التحرك الجاد لمكافحة الارهاب والعزوف عن الاستمرار فى التدخل السياسى والعسكرى فى الشئون الداخلية فى دول منطقتنا بهدف تغيير نظم الحكم، وبالتوازى مع ذلك، فان اوروبا قد تكون مقبلة على احداث تغيرات جوهرية على سلطات الاتحاد الأوروبى والياته وأساليب تناوله كيفية معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية التى تواجه العديد من الدول الأوروبية وإصلاح السياسات الاقتصادية والمالية اللازمة للتعامل مع ما قد يطرأ من ازمات والتركيز على محاولة معالجة المشكلات التى تواجه المواطن الأوروبى وتطلعاته للحصول على الاحتاجات الانسانية الاساسية، اذ ستواجه تجربة الاندماج الأوروبية، التى يجسدها الاتحاد الأوروبى والعملة الأوروبية الموحدة، تحديات هائلة تتعلق بجدوى الاستمرار فى قبول وجودها وهو ما سيتوقف فى النهاية على ضرورة ادخال تعديلات جوهرية على آلياتها بهدف ضمان نجاحها فى القيام بدور فاعل من اجل الاستجابة لتطلعات المجتمعات الأوروبية فى تحقيق مستقبل أفضل. سفير مصر السابق لدى إيطاليا لمزيد من مقالات السفير عمرو حلمى