لا أحد يستطيع أبدا أن يتطلع عن قصد أو عن غير قصد الى بلوغ ما هو أسمى من ذلك الهدف. إنه هدف يتعدى الطاقة البشرية، ألا وهو تقويض الخرافات التى تجعل حجابا بين الخالق والمخلوق، وإعادة صلة القرب المتبادل بين العبدوربه ورد الاعتبار الى النظرة العقلية لمقام الألوهية المقدس، وسط عالم فوضى الآلهة المشوهة التى اختلقتها أيادى ملة الإشراك. ذلك كان جزءا مما كتب الشاعر الفرنسى «لامارتين» فى قصيدة فى منتهى البلاغة عن حياة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. ........................... لقد استأثرت الموضوعات الدينية بأهمية كبرى فى شعر «لامارتين» وهذا ما يشعر به القارئ عند قراءة «تنغمات شعرية». وقد درس الثلاث ديانات و بدأ بالعزلة نوعا ما ليكمل مايهمه من دراسته هذه. ومن خلال هذه الدراسات مال كل الميل الى الدين الاسلامى و الى شخص الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم. لقد قام الشاعر الفرنسى «الفونس لامارتين» والذى ولد بشمال مدينه «ليون» عام 1790 بزيارة الأماكن المقدسه فى الشرق ليحقق حلمه بكتابة ملحمة شعرية، لذا قام بزيارة فلسطين وسوريا ولبنان وسجل رحلته فى كتابه «رحله الى الشرق» وفى كتابه «تاريخ تركيا» كتب صفحات رائعة فى وصف النبى محمد صلى الله عليه وسلم وحمل الجزء الأول من كتابه «حياة محمد» بهدف التعريف بالأصول الدينية والفكرية بهدف أعم وهو تقريب الدين الإسلامى الى أذهان الفرنسيين. إن استقبال كتاب حياة محمد فى الأوساط الثقافية الفرنسية فى القرن التاسع عشر، كان مختلفا، خاصة عند المهتمين بقضايا الفكر الدينى، والمتعصبين ضد الإسلام وحضارته، فقد وجهت إلى لامارتين تهم تصل إلى حد الإلحاد والكفر من جراء تعاطفه وإعجابه الشديد بشخصية محمد، والسيرة الحضارية الراقية لدعوته, وبالارتفاع بقيمة الشرق مصدر الحضارات ومنبع الديانات. ولم يكن موقف الأجيال التالية أقل قسوة على الكتاب، فقد تم عمدا إهمال إعادة طباعته على مدى ما يقرب من مائة وخمسين عاما منذ صدور طبعته الأولى سنة 1854 حتى صدور طبعته الثانية بالفرنسية فى 2006، فى مناسبة احتفالية الدورة العاشرة لمؤسسة البابطين التى أقيمت فى باريس وحملت عنوان شوقى ولامارتين, وصدور طبعته العربية فى المناسبة نفسها لتكون متاحة لكل قراء العربية، وأصبح صدور الكتاب فى طبعتيه الفرنسية والعربية مجرد إنجاز واحد ضمن إنجازات شتى تمخضت عنها دورة شوقى ولا مارتين. الطبعة الثانية هذا الكتاب تم طباعته طبعة ثانية فى 265 صفحة من القطع المتوسط، عن معهد الآداب والفنون العربية فى باريس بالتعاون مع دار لارماتان الفرنسية للنشر والطباعة والمجلس الأعلى للثقافة فى مصر. ولقد كان الكتاب مفاجأة للقارئ الفرنسى، حيث إنه يعد أحد الأعمال غير المعروفة للشاعر الشهير بسبب ما تعرض له فى زمنه من عداء من قبل كثير من المثقفين لما تضمنه الكتاب من آراء مدافعة عن الإسلام من ناحية، ولأن هذا الكتاب يمثل المجلد الأول من كتابه (تاريخ تركيا) الذى يشتمل على ستة مجلدات. وكان «لامارتين» قد كرس مجلده الأول من أجل الحديث عن نبى الإسلام وعن السيرة النبوية وسيرة الصحابة. كما يؤكد المقولة نفسها من خلال العودة إلى تفاصيل الهجرة الأولى للمسلمين نحو الحبشة، مستشهدا بقول النجاشى فى معرض تعليقه على الحوار بين كفار مكة والمسلمين، قائلا للمسلمين «بين ما تقولونه عن المسيح عليه السلام وبين ما تقوله الديانة المسيحية، ليس هناك فرق». وعن هذه الواقعة يعلق لامارتين فى كتابه قائلا: من الواضح أن القرآن فى حرفه وروحه هو الثمرة التى أينعت فى الصحراء بعد بذرة الإنجيل. ويعدُّ هذا الكتاب من الأعمال الفكرية الكبرى التى تؤسس لدعائم التقارب والتفاهم بين الأديان على الرغم من محاولات المغرضين خاصة فى وسائل الإعلام الغربية الإساءة ليس فقط إلى الإسلام والمجتمعات الإسلامية ولكن أيضا للجاليات الإسلامية الموجودة فى الغرب والتى أصبحت تشكل الآن عنصرا بشريا هاما فى تكوين المجتمعات الأوروبية على سبيل المثال. وصف النبى كتب لامارتين صفحات رائعة فى وصف النبى صلى الله عليه وسلم ووصف فكره والثورة الاجتماعية التى قام بها، يقول: ما مِن إنسان مثله قط، إرادياً أو لا إرادياً، له هدف أكثر نبلاً من ذلك الهدف، طالما أنه كان فوق طاقة البشر ألا وهو هدم الخرافات المتوضعة عائقاً بين المخلوق والخالق، وإعادة الله إلى الإنسان والإنسان إلى الله، وإعادة تأسيس الفكرة العقلانية والمقدسة للألوهية فى خضم فوضى الآلهة المادية والمشوهة فى عبادة الأوثان، ما من إنسان مثله قط، قام بعمل لا يتناسب إطلاقا مع قدرة القوى الإنسانية، إذ لم يكن يملك وسيلة تساعده فيه إلا ذاته، سواء فى المفهوم الفلسفى أو فى تحقيق، مثل هذا المصير العظيم، وكذلك لم تساعده سوى حفنة من البدائيين على ناصية الصحراء، وأخيرا، ما من إنسان استطاع إنجاز ثورة حققت، مثل هذا الانتشار الواسع فى العالم ودامت كل هذا الزمن، وذلك خلال فترة قصيرة جداً، إذ إنه وبعد أقل من قرنين على تبشيره بالإسلام، انتشر الفكر الإسلامى التبشيرى وسيطر على مناطق الجزيرة العربية الثلاث، وفتح بلاد فارس وخراسان وأوزبكستان وبلاد ما وراء النهر والهند الغربية وسوريا ومصر وكل القارة المعروفة فى إفريقيا الشمالية وعدة جزر فى البحر المتوسط وإسبانيا وجزءاً من بلاد الغال «فرنسا». عظمة الهدف كتب لامارتين «إذا كانت عظمة الهدف وضعف الوسائل والنتيجة الكبيرة التى تحققت هى المقاييس الثلاثة لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ بعد الآن على إجراء مقارنة إنسانية بين رجل عظيم من التاريخ الحديث وبين النبى محمد؟». إن أشهر الرجال العظماء لم يهزوا إلا الأسلحة والقوانين والامبراطوريات، أما هو فقد حرك الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والسلالات المالكة وملايين الناس فى ثلث المعمورة، بالإضافة إلى ذلك، قد زعزع الأماكن المقدسة والآلهة والديانات والأفكار والمعتقدات والأرواح. لقد أسس على قاعدة القرآن الكريم، الذى أصبح فيه كل حرف يشكل قانونًا، هوية روحيةً تشمل شعوباً من كل اللغات والأعراق. ويتابع قائلاً: حياته وتأملاته فى خلوته وتحديه البطولى خرافات بلده، وجرأته فى مواجهة حنق الوثنيين وثباته فى تحمله له خلال ثلاثة عشر عاماً فى مكة، ودعوته المستمرة والحروب غير المتعادلة التى خاضها وثقته بالنجاح والنصر، وسكينته التى تفوق طاقة البشر فى النكسات، وحلمه الصبور فى النصر، وطموحه فى تثبيت الفكرة فقط وليس فى تحقيق الإمبراطورية بتاتًا، وصلاته الدائمة، وحواره الصوفى مع الله، وموته ونصره بعد دفنه، كل ذلك يشهد على أن هذا ليس ادعاء وإنما قناعة راسخة. لقد كانت هذه القناعة هى التى أعطته القدرة على إعادة تأسيس العقيدة. إنه فيلسوف وخطيب فصيح ورسول ومشرع ومحارب وفاتح لأفكار جديدة ومؤسس لعقائد عقلانية ولعبادةٍ دون صور، ومؤسس لعشرين إمبراطورية على الأرض ولإمبراطورية روحية واحدة هذا هو النبى محمد، فمن نجد أعظم منه إذا ما قيس بكل مقاييس العظمة الإنسانية؟. وفى شهادة أخرى يقول لامارتين: إن ثبات محمد وشهامته وجرأته وصبره فيما لقيه من عبدة الأوثان دليل على أن وراءه يقينا فى قلبه وعقيدة صادقة تحرر الإنسانية من الظلم والهوان، وإن هذا اليقين الذى ملأ روحه هو الذى وهبه القوة على أن يرد إلى الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة حطمت آلهة كاذبة، ونكست معبودات باطلة، وفتحت طريقاً جديداً للفكر فى أحوال الناس، ومهدت سبيلاً للنظر فى شئونهم، فهو فاتح أقطار الفكر، ورائد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المحررة للإنسان ومؤسس دين لا وثنية فيه. من لامارتين الى فولتير فى واحدة من آخر كتاباته سنة 1770 قال فولتير عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن دينه حكيمٌ وصارم وطاهر وإنسانى. حكيم لأنه لا يسقط فى جنون الإشراك بالله، وليس فيه طلاسم. و صارم لأنه يُحَرِّم القمار والخمر، ويأمر بخمس صلوات فى اليوم. وإنسانى لأنه يأْمُر بالصدَقة أكثر من الحج، وأضيف إلى خصائص الحق هذه سمة أخرى، هى «التسامُح».. ويشيد فى موضع آخر: «كل هذه الشرائع الحازمة، وهذه العقيدة البسيطة، جلبتْ للإسلام الاحترام والثِّقة، خاصة عقيدةَ التوحيد، التى ليس فيها طلاسم، بل هى مُناسِبة للعقل الإنسانى، كل هذا جعَلَ عددًا كبيرًا منَ الأمم تعتنق هذا الدين، من إفريقيا إلى جُزُر المحيط الهندى». كتاب «العقد الاجتماعى» جان جاك روسو أحد أكبر فلاسفة عصر التنوير الأوروبى فى القرن الثامن عشر وقد بهرته عظمة سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، فكتب يقول: «لقد استطاع أن يحوّل العقول والقلوب من عبادة الأصنام إلى عبادة اللّه الواحد». إنّ الرّجال أمثال محمّد ممّن تؤهّلهم السّماء يملكون كلّ أمور الحياة، لأنّهم يصنعون الحياة السويّة. لذلك نجح محمّد فى رسالته، واستطاع أن يُقنع بنى قومه، الّذين تميّزت عقولهم بالصّلابة وقلوبهم بالقسوة، بأنّ خالق هذا الكون واحدٌ لا شريك له».. وفى كتابه الشهير «العقد الاجتماعى» الذى طبع لأول مرة عام 1762 قال عن النبى محمد عليه الصلاة والسلام: «من الناس من يتعلم قليلاً من العربية، ثم يقرأ القرآن ولا يفهمه، ولو أنه سمع محمداً يمليه بتلك اللغة الفصحى الرقيقة، ورآه يؤكد أحكامه بقوة البيان، لخرّ ساجداً على الأرض «.. وقبل روسو قال الفيلسوف رينيه ديكارت (1596 1650) صاحب نظرية «أنا أفكر إذن أنا موجود»، فى كتابه الشهير «مقالة فى المنهج»: «نحن والمسلمون فى هذه الحياة، ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمدية، ونحن لا نعمل بالثانية، ولو أنصفنا لكنا معهم جنباً إلى جنب، لأن رسالتهم فيها ما يتلاءم مع كل زمان، وصاحب شريعتهم محمد، الذى عجزَ العرب عن مجاراة قرآنه وفصاحته، بل لم يأتِ التاريخ برجل هو أفصح منه لساناً، وأبلغ منه منطقاً، وأعظم منه خُلقاً، وذلك دليل على ما يتمتع به نبى المسلمين من الصفات الحميدة، التى أهّلته لأن يكون نبياً فى آخر حلقات الأنبياء، ولأن يعتنق دينه مئات الملايين من البشر».