من بين نحو خمسمائة مسرحية قدمها المسرح القومى خلال ثمانين عاما من تاريخه، رصد الناقد د. عمرو دوارة فى كتابه «حكاية المسرح القومى» ستين عرضا يراها هى الأهم فى مسيرة هذا الصرح العريق، نظرا لما تناولته من قضايا اجتماعية وسياسية وقومية أيضا، كقضية تحرر المرأة والصراع العربى الصهيونى فى الثلاثينيات والأربعينيات، ثم تفجير قضايا العدالة الاجتماعية بعد ثورة يوليو.. تلتها مواجهة تعاظم نفوذ مراكز القوى فى الستينيات بعروض لا تُنسى.. تلك العروض مثل السلطان الحائر وحلاق بغداد والفرافير وسكة السلامة وعفاريت مصر الجديدة ودماء على ملابس السهرة والاستاذ.. وهى كلها مثل غيرها من الأعمال التى شكلت وجدان المواطن المصرى والعربى وتصدرت أفيشاتها أسماء عمالقة التمثيل والإخراج والتأليف مثل توفيق الحكيم والفريد فرج وسعد الدين وهبة وعبد الرحمن الشرقاوى ومحمود دياب وسميحة أيوب وسهير المرشدى ونعيمة وصفى وعايدة عبد العزيز وعبد الله غيث وكمال ياسين وكرم مطاوع وعبد الرحمن الزرقانى ومحمود ياسين وقائمة طويلة لا تنتهى من الأسماء التى يجب أن تكون حاضرة فى أذهاننا قبل المغامرة بتقديم عروض لا تليق باسم المسرح القومى ولا تاريخه العريق. مناسبة هذا الكلام هو ما يقدَّم حاليا على المسرح القومى تحت عنوان «يعيش أهل بلدى» تأليف وأشعار الكاتب الصحفى محمد بغدادى وإخراج د. عاصم نجاتى، وما أثير حوله من جدل ولغط وصراع لخروجه للنور على حساب عروض أخرى، ورغم رفضه من لجنة المشروعات الفنية بالبيت الفنى للمسرح، باعتباره نصا خطابيا مباشرا يخلو من العنصر الدرامى ولا يقدم رسالة أو مضمونا جديدا فى تناوله لمسألة الفئات المتصارعة على خيرات الوطن.. وكون النص يفوز بجائزة أفضل مسرحية صادرة عن هيئة الكتاب خلال فاعليات معرض الكتاب الأخير لا يعنى ضرورة تقديمه على المسرح لأن مقتضيات العرض المسرحى أمر آخر، ولا يمكن أن ينتقل كل ما يكتب نصا على المسرح دون رؤية إخراجية تميز صاحبها سواء اختلفنا أو اتفقنا فكريا معها.. فكم النصوص التى تناولت تيمة اصطدام مواطن تولى مسئولية بلاده بأطماع المستفيدين من خيراتها على تنوع فئاتهم، لا حصر لها، وكان آخرها مثلا حدث فى بلاد السعادة.. ورغم هذا افترض المؤلف ستة مسميات لأحزاب من فئات الشعب تصف طبيعة أطماعهم فى هذا البلد.. مثل حزب «على حسب الريح ما يودى» و«رجال الأعمال بالنيات» و«الديمقراطية زى عود الكبريت» و«تاعب نفسه وشاغل باله» وهم المهمومون فعلا بحال الوطن والمستبعدون من مناصبهم وتتوالى مشاهد مقابلة الزعيم لتلك الأحزاب ليشكل منهم مجلسا وطنيا لتسيير شئون البلاد، ومع الوقت يكتشف أنهم جميعا لا يصلحون بخلاف الحزب الأخير.. حدوتة سطحية استسلم لها المخرج تماما وانساق وراء رغبات الممثلين فى استجداء الضحك من خلال شخصيات نمطية بلا عمق أداءها كل من: زكريا معروف وضياء زكريا والممثلة انتصار المحملة بأدوات الدراما التليفزيونية الطويلة المختلفة عن طبيعة الأداء المسرحى الذى يحتاج إلى التكثيف والعمق فى التعبير عن الشخصيات فيما لا يتجاوز وقت المسرحية فجاء أداؤهم مصطنعا.. أما الفنان أحمد سلامة فقد خانه تقديره فى الموافقة على أداء شخصية الزعيم الذى بدا وكأنه قادم من كوكب آخر لا يعلم شيئا عن بلاده ويصر على مقابلة أعضاء الأحزاب رغم أنه قادم من بين الشعب ويعلم جيدا ما أصاب بلاده بسببهم ورغم تحذيرات مسئول المراسم له ونصحه له بأن يختار وجوها جديدة، ولكنه لا يستجيب فيغرق فى أسر الشخصية المحملة بالتساؤلات والمونولوجات الخطابية الطويلة التى كانت سببا فى انهيار إيقاع العرض بجانب تكرار مشاهد دخول وخروج الأحزاب على الزعيم والفصل بينها باستعراضات غنائية اضطر لها المخرج محاولا الهروب من الإيقاع الرتيب ولكن دون جدوى، وحتى مشاهد الترفيه عن الزعيم تبدو مقحمة على الدراما وليس فيها جديد، فقد أحالت ذاكرتنا فورا إلى مشاهد مشابهة فى عرض الزعيم للفنان عادل إمام.. ولم ينج من مأزق نمطية الشخصية سوى محمد رضوان الذى جسد دور مسئول المراسم بحرفية واتزان أفرزتا كوميديا راقية دون افتعال وحتى إفيهاته التى كانت من صميم دوره أما ديكور د. صبحى السيد فرغم الحلول التى قدمها للانتقال بين قاعات مختلفة بالقصر باستخدام القرص الدائرى فى خشبة المسرح إلا أنه بالغ فى استخدام اللونين الذهبى والأحمر للديكور تعبيرا عن البذخ فى القصر الرئاسى.. فى حين لم تبد فلسفة واضحة للأزياء فلا هى فانتازية ولا هى واقعية أو تاريخية مثلا فارتدى الزعيم ملابس حديثة وارتدى أعضاء الأحزاب ملابس ترمز لانتماءاتهم بينما ارتدى مسئول المراسم ملابس أقرب لحقبة عصر الخديوية ولا أعرف المبرر الدرامى لذلك.. كل هذا يدعونا لمطالبة الفنان أحمد شاكر عبد اللطيف الذى تسلم أخيرا مسئولية إدارة فرقة المسرح القومى، أن يعيد النظر فى استمرار هذه المسرحية وأن يتأنى ويفكر ألف مرة لاختيار عروض تناسب المسرح القومى وتليق بتاريخه العريق.