لدينا اعتقاد بأن كل إنسان يولد وهو مزود بضمير يملى عليه ما ينبغى فعله وما لا ينبغى، ويساعده على التمييز بين الخير والشر من خلال صوت داخلى ينطلق من أعماقه. وهذا اعتقاد خاطىء. فى الواقع ليس للانسان أى قدرة ذاتية يعرف من خلالها كيف يميز بين الخير والشر ولكن هذه القدرة تتشكل فى داخله من خلال صوت الجماعة. فهى التى تغرس فى ذهنه القيم التى ينبغى يراعيها فى سلوكه، ويسميها فرويد بالأنا الأعلى والذى يتكون من مجموع الأوامر والنواهى التى غرسها المجتمع فى الانسان منذ الطفولة. فالطفل حين يذهب مع أمه لزيارة الجيران يمد يده ليأخذ معه الأشياء التى تروق له، هنا يأتيه صوت الأم بأنه لا يجوز أن نأخذ أشياء ليست لنا، وإذا لم تنبهه الأم إلى ذلك لما وصلت إليه هذه القيمة. الضمير فى حياة الفرد هو نتيجة للتربية. الضمير فى حياة النوع الانسانى له قصة أخرى. فالبشر البدائيون لم يعرفوا الضمير. ولعل عنوان كتاب مثل فجر الضمير يوحى لنا بأن للضمير تاريخا. وقد كان الميل إلى العنف يغلب على كل الأفراد. وإزاء التحديات التى يواجهها البشر من الطبيعة والأخطار التى يتعرضون لها من الأنواع الحيوانية الأخرى اضطروا للعيش فى شكل جماعات أو زمر. وكان ذلك يقتضى التوقف عن العنف داخل الجماعة وإطلاقه فى مواجهة الجماعات الأخرى. وقد حدثت هذه النقلة من خلال مسار طويل استخدمت فيه وسائل كثيرة منها تحديد كبش فداء يمارس العنف ضده بوصفه مسئولا عن ذنوب وآثام المجموعة والقرابين البشرية ثم الحيوانية والكرنفالات التى تطلق فيها طاقة العنف فى يوم معين من السنة، كما أدت الأساطير والكتب المقدسة دورا كبيرا فى احتواء العنف. واعتبر عالم المصريات بريستد أن الحضارة المصرية كانت من أوائل الحضارات التى نجحت فى احتواء العنف الداخلى وتدعيم التماسك الاجتماعى من خلال التسامى بمجموعة من القيم وغرسها فى ذهن الأفراد. ومن هنا بدأ ما يعرف باسم الضمير. وأسهمت كل حضارة بوسائلها الخاصة فى جعل الضمير جزءا راسخا من النفس البشرية. ورغم ذلك نلاحظ أن هناك تفاوتا بين الأفراد فى مراعاة الضمير، بل هناك أيضا تفاوت بين الشعوب فى هذا الشأن. فكلنا يعرف من خلال الوعظ الدينى والنصح الأخلاقى أنه ينبغى قول الصدق وألا نسرق وألا نقتل، ولكن هذا لا يكفى لكى يكون للإنسان ضمير. فهناك فرق بين أن نقول زيد يعرف أنه يجب ألا نكذب وببن أن نقول زيد لا يكذب. وهذه عملية تمثل جزءا مهما فى التربية يصفه دوركايم بأنه مسار طويل لإدخال القواعد الخارجية التى يضعها المجتمع إلى أعماق النفس حتى تصبح طبيعة ثانية، أى تتحول إلى جزء لا ينفصل عن كيان الفرد نفسه. ونحن حين نسمع ما يتردد من أنه من الصعب أن تجد موظفا ألمانيا يقبل رشوة، أو جندى مرور فرنسيا يتهاون فى تطبيق القواعد، أو تلميذا يابانيا يغش فى الامتحان، فنحن بذلك نشير بطريقة غير مباشرة إلى نجاحهم فى ترسيخ هذه القيم بحيث أصبحت طبيعة ثانية فى نفوس مواطنيهم، بينما وقفنا نحن عند حدود معرفة ما الذى ينبغى عمله دون أن يصبح ذلك عنصرا ملازما لشخصيتنا. ولكن قد يعترض أحد ويعتبرنا مغالين فى الاعجاب بالآخرين وميليون إلى التقليل من شأننا، وبأننا نمدح الغرب بما ليس فيه. ويكفى لإثبات النظر لمسالك حكومات هذه البلاد تجاه الشعوب الأخرى، فمشاهد التدمير وقتل المدنيين وتبنى أساليب الرشوة والاغتيالات فى التعامل مع أنظمة الحكم فى البلاد الأخرى يدل بشكل واضح على غياب الضمير واستسهال استخدام القسوة والعنف فى الصراع. ألا يعكس هذا تناقضاً واضحاً؟ بالفعل يتسم السلوك السياسى لأنظمة الحكم فى الدول الغنية والمتقدمة بغياب الضمير، ولكننا نعتقد أيضاً من خلال ملاحظة السلوك الاجتماعى لأفراد هذه المجتمعات بأن لديهم ضميرا يراعونه ويصعب عليهم مخالفته. ويرجع تفسير هذا التناقض فى تقديرى إلى سببين، الأول أن تنمية الضمير خلال تاريخ البشرية كانت موجهة بالأساس إلى الحد من العنف داخل المجتمع وظلت الصراعات الدولية تسودها شريعة الغاب دون احتكام لقيم أو معايير. السبب الثانى هو أن الضمير ظاهرة فردية، فالفرد يسائل نفسه قبل القيام بالفعل وحتى إذا ارتكب أمراً كان صوت الضمير الداخلى ينهيه عنه، فإنه يتعرض بعد ذلك لما يعرف بتأنيب الضمير. ولكن هذا الفرد نفسه حينما ينخرط فى جماعة تتجه إلى التخريب وإلى العدوان على الآخرين نجد صوت الضمير عنده يختفى وبحماس يرتكب مع الآخرين أفعالاً ما كان يمكن أن يرتكبها لو كان وحده. وحتى بعد ارتكاب الإثم يختفى تأنيب الضمير طالما كان له مشاركون فى ارتكابه. يبقى على جدول أعمال البشرية الآن بذل المحاولات فى ترسيخ الضمير فى الصراعات الدولية. مسار طويل ربما تكون المواثيق الدولية هى أولى خطواته. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث