فى القلب دقات تتراقص بالفرح ودقات يعتصرها الحزن. دقات الرقص بالفرح هى لحظة إعلان ميلاد قصة الحب الاساسية فى العمر الشاب؛ أما دقات الحزن فهى التى تعلن فيها الحبيبة أن الحب ليس له مكان فى المستقبل لأن العمل الذى رأيت فيه مستقبلى لا يضمن استقرارا عكس العمل الذى جاءها على جناح تفوقها. قالت « بدونك سألمع فى العمل لكن الشقاء سيصيح ملامسا لبشرتى. وانت تريدنى زوجة وام ابناء؛ وانا احلم بالنجاح كمدرسة فى الجامعة الباريسية. ولم اكن مستعدا لقبول فكرة الحياة الباريسية كزوج لمن رأيت الجنة فى احضانها. ............................ ودون أن أدرى أنا العاشق رأيت بعين الخيال كيف تحولت لحظة ميلاد الحب من الحياة على جناح طائر كان يملك الوعد بأن يحقق الجنة على الارض؛ صرت وبعيون الخيال _ أيضا _ يمكن أن أرى قلبى وهو يرتجف احتراقا لمجرد بدء إنهاء قصة الحب. ولست وحدى من عاش السقوط فى تلك النيران المثقلة بالصقيع عندما أعلنا _الحبيبة وأنا - أن قصتنا عليها أن تنتهى؛ وحاولت مقاومة تلك النهاية مذكرا نفسى بأنى لست وحدى الذى قاوم تلك النهاية؛ فأول من قاوم تلك النهاية هو قرار السماء بعقاب قابيل بأن يحمل جثة شقيقه هابيل _هذا الصادق العشق _ بعد أن قتله قابيل ليروى غيظه الملتهب من فرط اشتهائه لزوجة هابيل؛ ومضى قابيل يحمل جثمان الشقيق إلى ان علمه غراب كيف يوارى جثمان أخيه، لكن بقيت نيران العذاب تحيط بقابيل. وتسلل إلينا نحن الاحفاد صفاء العشق من هابيل ونيران القهر من قابيل؛ ومازالت الدوامة تدور بكل عاشق، فنقاء هابيل موجود فى لمعة عيون أى منا عند بدء الحب وآلام الإفتقاد تغمرنا كطوفان من الشوك يحيط بنا عن نهاية قصة الحب. ولما لم أستطع تحمل العذاب وحدى؛ قررت ان تقودنى خطواتى إلى عيادة سيد الطب النفسى المصرى المعاصر أحمد عكاشة؛ كى أسأله «ماذا أفعل وأنا ارى طائر الحب فى قلبى يرتجف بالنهاية؟ واستقبلنى مختار سكرتير العيادة ليقول لى «الأستاذ فى انتظارك»؛ ويسمعنى العالم الكبير وعقارب الزمن تشير إلى عام 1965؛ ليقول لى « لقد ركزت خيالك فى واحدة ثم قمت بتشكيل الكون كله وجعلتها هى الأساس. ولا مفر من أن تصبر مع تناول المهدئات لعل وعسى يأتى الفهم مرادفا لتحويل تذكارات الحب إلى لوحات فنية كالتى يرسمها صديقنا المشترك يوسف فرنسيس». وانطلق إلى مرسم يوسف لأخذ لوحة «أوفيليا» حبيبة هاملت قائلا ليوسف « هاملت فاقد الذكاء لأن عيون أوفيليا كان يمكن ان تغنيه عن متابعة الإنتقام من لص العرش، فمدن عيون الحبيبة تغنى عن اى عرش مفقود. يضحك يوسف لى وتظل لوحته امامى حتى كتابة هذه السطور؛ وهى اللوحة التى عرض على احدهم مبلغ مائة الف جنيه فقلت له: سأقترض من صديقى امل دنقل كلماته التى رفض بها فكرة الصلح مع الدولة العبرية؛ حين أوصى من لايملك زمن السلام بالاستعداد للقتال؛ تساءل امل دنقل:ايمكن ان اخلع عيونك واستبدلها بذهب الكون؟ فتركنى عاشق اللوحة ليتهمنى بالجنون. ولم يكن احمد عكاشة او امل دنقل يعلمان انى تلقيت تلفونا ذات صباح من صيف 1965ممن صار صديقى وهو السيد محمد زغلول كامل الذى رأس لسنوات مجموعات الخدمة السرية بجهاز المخابرات ثم نقله جمال عبدالناصر ليعمل فى مكتبه تحت قيادة السيد سامى شرف. قال محمد زغلول كامل لى أنت مدعو للغداء على نفقة الرئيس جمال عبدالناصر فى مطعم ابوشقرة. ضحكت قائلا: انت مكلف بمهمة وتريدنى شاهدا. وفى حجرة جانبية بمطعم ابو شقرة كان المدعوون هم رجل الأعمال الأشهر عثمان أحمد عثمان ومعه صاحب شركات اوتبس نقل الصعيد الحاج أبو الوفا دنقل وهو عم صديقى الشاعر امل دنقل، وعلى رأس المائدة جلس والد الرئيس وهو الحاج عبدالناصر حسين خليل سلطان, وجاء الكباب؛ فأكلنا على ضوء كلمات إعجاب المهندس عثمان أحمدعثمان والحاج ابو الوفا دنقل بالبركة التى ستحل علينا جميعا بحكم تناولنا الغداء برفقة والد الرئيس جمال عبدالناصر؛ وكلاهما يحكى عن البركة التى ستنال شركاتهما إن قبل والد الرئيس عبدالناصر مقام ومنصب العضو المنتدب فى شركاتهم. وهنا قال محمد زغلول كامل «بعد الغداء ستسمعون منى لرسالة الرئيس لكما» وطبعا تناولنا الغداء لتأتى اطباق الأرز باللبن؛ ونتوقف عن الطعام وصوت زغلول كامل متحدثا مع عثمان أحمد عثمان وابو الوفا دنقل قائلا «يعلم الرئيس أن والده كان موظفا بالحكومة وليس له أدنى خبرة بشركات المقاولات او شركات النقل. وغير مسموح بعودة تعيين الاقارب فى وظائف وهمية كما كان يحدث فى عصر الملك فاروق. تلك هى رسالة الرئيس عبدالناصر علما بأنه هو من كلفنى بدعوتكم على الغداء». وطبعا ساد صمت كصمت قبور احلام اثنين من رجال الأعمال فى التقرب الذى رآه الرئيس ناصر امرا غير لائق فجرى تكليف اصغر الضباط الاحرار بتلك المهمة. وفى سيارة زغلول كامل دار الحوار منى سائلا «انت مكلف من قبل الرئيس او مكتبه؛ فمادورى انا؟ قال زغلول كامل: دور الشاهد لا اكثر ولا اقل؛ فضلا عن إبلاغك باننا نعلم ان السيد احمد فؤاد رئيس مجلس ادارة بنك مصر ورئيس مجلس إدارة روز اليوسف فى نفس الوقت قد قرر مكافاتك على كتاباتك برحلة اخرى لباريس وقمت انا بالتنبيه على السفير بالا يتعرض لك إلا بالخير. واظنه سيكلف على السمان برفقتك إن احتجت شيئا. ضحكت مذكرا إياه بأنى من اوصيت رجل المخابرات بسفارتنا محمد شكرى حافظ بان يفتح شباكا فى قلب على السمان ليرى كيف تفكر فرنسا فى علاقتها بالقاهرة؛ فضلا عن رغبتى فى معرفة سبب اهتمام مدير مكتب ديجول لشئون البترول الذى يتقن العربية باكثر من عشر لهجات محلية؛ هذا الجالس فى مكتب فخم بالشانزليزية. وحين التقيته كان على المكتب مجموعة دوسيهات مكتوب عليها «ليبيا» ومجموعة أخرى مكتوب عليها «العراق». قلت ايضا «المفروض أن أشكر السفير المصرى الذى لولا احتكاكى به لما أوصانى رجلك فى باريس بالسعى لمعرفتك. وهو من أوصانى أن أحمل توصية شعراوى جمعة كى يسهل لى التواصل معك. وكان شعراوى جمعة محددا بأن يكون اللقاء بك شديد الوضوح. وقد كان. فقد صرنا بعد لقاء واحد أصدقاء». .................. بعد لقاء زغلول كامل كان بينى وبين صديقى الفنان يوسف فرنسيس ميعادا فى جروبى الذى استقبلنى ضاحكا بالقول «علمت من البنسيون أنك فى لقاء مع مسئول كبير وقررت انك إن عدت من الميعاد ولم يتم اعتقالك فلسوف اهديك هذه اللوحة «إعادة الميلاد. وقدم لى يوسف اللوحة وآنا اقول له « صدقنى أن عصر جمال عبدالناصر يتميز بالامان إلا لمن ينوون التامر. وانا لست منهم». .................. لوحة « إعادة الميلاد « موجودة الآن فى منزل ابنى؛ الذى قال لى « تسعدنى كلما نظرت إليها». ذكرته بان بطاقة دعوة زفافه كانت من رسم يوسف فرنسيس؛ فضحك قائلا «كلكم فنانون تعيشون بشعار غدا ستفهمون ما نقصد». وإبنى على حق، فالفنانون لا يعيشون نفس اللحظة التى يعيشها كل البشر؛ لأن عيون الفنان تنظر إلى اللحظة وكأنها البلورة السحرية وعلى كل فنان أن يستكشف من خلالها ما الذى سيحدث فى المستقبل. كان يوسف فرنسيس قلقا من فرط خوفه على شخصى فقد قرأ مقدمة مقال تركتها على مكتبى فى روز اليوسف. كانت سطور مقدمة المقال تقول « لا يوجد كمال فى اى عصر ومهمة فهم اعماق ما يريده القائد ليست فى ان نتحول إلى أتباع تثرثر بكلمات الزعيم ثم نتصرف ضد مضمون ما يهدف له جمال عبدالناصر. وظن يوسف ان كلماتى قد تجرح من ينصبون انفسهم فى مهمة حماية افكار عبدالناصر ممن يؤمنون بها. ولعل يوسف كان على حق لان من جاء بعد عبدالناصر حاول إزالة آثاره لولا أنه من الصعب إزالتها. .................. كان قلق يوسف فرنسيس له أسبابه؛ فقراءة النوايا يمكن أن تاخذ الإنسان لما وراء الشمس. وكان يوسف كثير التحذير لى «انتبه لنفسك فانت تجيد قرأة اللوحات الفنية لذلك لا تحشر نفسك فى معارك السياسة؛ ويمكنك ان تسال أستاذك الفنان حسن فؤاد الذى أسس شكل مجلة صباح الخير عن عذاب ايام الاعتقال؛ وهو من حكى لنا كيف خرجت روح الكاتب المؤرخ شهدى عطية تحت ضربات عصا الجلاد رغم انه كان يحب ويؤيد جمال عبدالناصر؛ لكنها حساسية عبدالناصر من اى خمسة اشخاص يجتمعون ليعترضوا على شىء؛ فهذا عند الامن تنظيم معارض يجب اجتثاثه «أذكر يوسف فرنسيس بالكاتبة الفرنسية سيمون لاكوتير التى روت لى كيف استدعاها الامن كى تغادر مصر لانها رغم بداية عملها بالقاهرة كمعجبة بثورة يوليو إلا انها اعترضت على اعتقال كل من له علاقة باليسار. وهى من قالت لى «كيف يقوم رسول الفقراء عبدالناصر بسجن من يمكنهم تنفيذ افكاره؟ قالت لى ذلك فى المقهى الباريسى وكان بيننا على السمان كمترجم. قال يوسف فرنسيس: وانا وأنت شاهدنا إحسان عبد القدوس وهو يقوم من مكتبه مهرولا لمبنى وزارة الداخلية؛ عندما قيل له: تعالى لتتسلم صديقك الرسام جمال كامل فقد تقرر الإفراج عنه»؛ لذلك اطالبك بان تبتعد تماما عن اى امر سياسى». كان يوسف فرنسيس قد عاش معى القلق بعد عودتى من باريس؛ وكيف أن ضابط المخابرات المختفى فى منصب مستشار بالسفارة؛ هذا الوجه القريب من قلبى من فرط إحترامه لشخصى؛ صاحب هذا الوجه هو من انقذنى من دس غير مقبول ولا معقول. ولم اندهش حين عرفت بعد سنوات أن محمد شكرى حافظ الذى كذب تقريرا كتبه السفير ضدى؛ لم اندهش حين علمت انه تلميذ سامى شرف مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات , وحين طلب منى إجراء بعض المقابلات الصحفية مع بعض من الشخصيات الفرنسية. وقد فعلت؛ وحين اراد مكافأتى ماليا؛ذكرته بانى سأستفيد من تلك اللقاءات فى عملى الصحفى. وطالبته بان يتذكر دائما انى قلت له «انا فى باريس من اجل لقاء من احب وليس لى هدف غير ذلك؛ كما اننى لا اتقن الفرنسية». ورغم قولى هذا اضاف الرجل «رغم كل ما تقول إلا اننى سأطلب من قصر الإليزيه أن يسمحوا لك بحضور المؤتمر الصحفى للجنرال ديجول. وسنقدم باسمك سؤالا بسيطا هو «ما مستقبل علاقة فرنسا بالعالم العربى بعد تحرير الجزائر» قلت سيقول كلاما يمكن ان تفهمه على اكثر من وجه كعادة الفرنسيين؛ ففى قلب كل فرنسى توجد غدة حسد لمصر لاسباب كثيرة اهمها هو امتلاك المصريين القدماء لحضارة غير مسبوقة». وحدث ما توقعته. أجاب الجنرال على سؤالى بالقول انه سوف يساعد من يطلبون مساعدته. قلت لنفسى لحظتها «مصر لن تطلب مساعدة من احد». وكنت على حق فى قولى. ......... كانت أياماً لها عطر فى الذاكرة ولها لوحة توجد أمامى كل الوقت. لمزيد من مقالات منير عامر