إذا كان الصراع القائم فى القرن الحادى والعشرين هو بين الأصولية والعلمانية، وإذا كانت الأصولية سمتها دينية فهل العلمانية يمكن أن تكون كذلك؟ وفى صياغة أوضح: هل ثمة دين علمانى؟ قد يبدو هذا المصطلح غريباً، ولكن الغرابة تزول عندما نكتشف أن مؤسس علم الاجتماع الفرنسى إميل دوركايم (1858-1917) هو الذى صك ذلك المصطلح ليكون دين الثورة الفرنسية إذ كان لديها ميل إلى تحويل الأمور العلمانية بحكم طبيعتها مثل الوطن والحرية والعقل إلى أمور مقدسة وبذلك يتأسس دين علمانى جديد له معتقداته ورموزه وأعياده، وتابعه فى إشاعة هذا المصطلح المفكر الفرنسى ريمون أرون وكان يقصد به أن يكون بديلاً عن إيمان كان فى طريقه إلى أن يتوارى. وارتأى المواطنون بعد ذلك أن خلاص البشرية محدود بوجودهم فى هذه الدنيا. إلا أن ريمون كان يشير بذلك إلى الأيديولوجيات التى نشأت فى النصف الأول من القرن العشرين مثل الشيوعية والفاشية والنازية التى قيل عنها فيما بعد إنها أديان سياسية. والتى تميزت بأن لها زعيماً يتسم بأنه كارزما. إلا أن هذه الأديان السياسية قد توارت ولم تعد صالحة لأن تكون علمانية لأنها توهمت أنها مالكة الحقيقة المطلقة وهذا الوهم هو الذى يميز الأصوليات. ولكن ثمة ظاهرة لافتة للانتباه وهى دخول المسيحية والاسلام فى صراع ضد العلمانية ابتداء من عام 1928 الذى تميز ليس فقط بأنه عام تأسيس حركة الاخوان المسلمين بل أيضاً بانعقاد المؤتمر العالمى لمجلس الارساليات المسيحية. وهكذا دخل كوكبنا فى حالة تناقض حاد. إذ إن كلا من حركة الاخوان المسلمين والإرساليات المسيحية قد قررت الوقوف ضد العلمانية على الرغم من الرأى الشائع فى العالم الاسلامى الذى يزعم بأن الوقوف ضد العلمانية هو من شأن العالم المسيحى وحده لأن العالم الاسلامى ليس قابلاً لافرازها حتى يقف ضدها ويقاومها. وفى عبارة أوضح يمكن القول إن الرأى الشائع يزعم بأنه حيث تكون السلطة الدينية تكون العلمانية لازمة للقضاء على هذه السلطة. وقد أيد زكى نجيب محمود هذا الرأى الشائع بلا أدنى مواربة، إذ قال فى 5/2/1993 بمجلة المصور: إن الذين يقولون إن العلمانية خطر على الاسلام فاتهم فى كل ماذكروه إنما يتكلمون عن ديانات أخرى غير الاسلام. وأنا أطالبهم بأن يذكروا لى مثلاً واحداً ليوم واحد مرَ فى التاريخ الاسلامى كله على شعب مسلم قد تم فيه الفصل بين الدين والدولة بالصورة التى يذكرونها. هذا شئ لم يحدث مرة واحدة فى تاريخ المسلمين. لماذا؟ لأنه شىء غير وارد لا فى عقولهم ولا فى قلوبهم، إنما قد ورد عند آخرين فما الذى يشغلنا به؟ وأنا أطلب منهم أن يصوروا لى كيف يمكن لمسلم يحيا دينه الاسلامى ثم يفصل بين الدين والدولة بالصورة التى يتخيلونها وذلك لأن للاسلام طبيعته الخاصة به فهو طريقة حياة فوق أنه ليس دينا بالمعنى المفهوم عند أصحاب الديانات الأخرى. ولكن ماحدث فى عام 1928 هو على الضد من ذلك الرأى الشائع، إذ كانت العلمانية مطاردة من العالميْن الاسلامى والمسيحى بدعوى أنها تدعو إلى الالحاد. والسؤال بعد ذلك: ماذا حدث للعلمانية فى مؤتمر الارساليات؟ جواب هذا السؤال وارد فى الفصل السابع من المجلد التاسع لأعمال ذلك المؤتمر تحت عنوان الحضارة العلمانية. جاء فيه أن المنافس الأعظم للمسيحية فى عالم اليوم ليس هو الاسلام أو البوذية أو الكنفوشية إنما هو شيوع الأسلوب العلمانى فى الحياة وفى فهم طبيعة الأشياء عند ثلث سكان العالم المسيحى الذى أصبح ملتزماً بما يُطلق عليه اسم «الحضارة العلمانية» التى تعنى الانشغال بالشئون الدنيوية فى مقابل تجاهل الشئون الروحانية مع صعود النزعة الانسانية التى كانت ترى أن دراسة الثقافة اليونانية والرومانية القديمة كفيلة وحدها بتكوين الانسان بمعنى الكلمة، أى الانسان الذى يقنع بالطبيعة. ومن ثم يمكنه التحكم فيها. وتأسيساً على ذلك اعتبر مؤتمر الارساليات أن العلمانية هى التحدى الحقيقى للفكر الدينى التقليدى. وقد واجه العالم المسيحى هذا التحدى فانفجرت طاقاته الابداعية. أما العالم الاسلامى فقد رفض هذه المواجهة تشبثاً منه بالموروث فتخلف. يبقى النظر بعد ذلك فى العلمانية لدى العالم الثالث. وخير محلل لها عالم الاجتماع الأمريكى بيتر برجر. وفى رأيه أن الدولة الصناعية الحديثة قد أحدثت تغييرات دينية فى المجتمعات غير الغربية، وأنها قد أسهمت فى نشر العلمانية. أما عالم الاجتماع الانجليزى بريان ولسن فيرى أن انهيار السلطة التقليدية والمعتقدات الدينية مردود إلى الهيمنة الاستعمارية والاستغراب. بيد أن هذا الافتراق بين برجر وولسون ينطوى على اتفاق يدور على أن العلمانية فى مجتمعات العالم الثالث مستوردة نتيجة لاتجاه هذه المجتمعات إلى التصنيع، وإلى التحديث المواكب للتصنيع. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: ما لزوم القول بأن العلمانية مستوردة فى هذه المجتمعات إذا كانت الحضارة واحدة على مستوى كوكب الأرض؟ لمزيد من مقالات د. مراد وهبة