الحالة الفكرية العربية تشير إلى تراجع كبير فى الإنتاج الفكرى الفلسفى والاجتماعى والقانونى سواء على المستوى الكمى أو الكيفى مقارنة بعديد المراحل التاريخية لتطور نظم الأفكار والمدارس الفكرية والسياسية، لاسيما منذ منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضى، حيث تراجعت الرؤى والمنظورات التى تناولت تكوين العقل العربى، أو المقاربات التاريخية والسوسيو دينية لتشكل المنظومات الفقهية والتأويلية والسرديات الدينية الوضعية حول الأصول الإسلامية التى تشكلت حول النص القرآنى المقدس والمؤسس تعالى وتنزه . ثمة تراجعات فى مجال الفكر الاجتماعى على مستوى التحليل والتركيب وإنتاج الأنساق الفكرية، الحاملة لمشروعات للتغيير والتحول الاجتماعى نحو استكمال المشروع التاريخى للنهضة العربية المجهضة، أو للحداثة المبتسرة مصريًا، وأزمات التحديث المادى والسلطوى وتعثراته، وعدم قدرة النخبة المصرية على إحداث تحويلات عميقة فى البنى الثقافية المصرية على وحدتها وتعددها وتنوع مصادرها الداخلية، وذلك فى ظل ظواهر ممتدة لترييف المدن وأجهزة الدولة كجزء من نتائج الاستقطاب الحضرى المشوه. حالة التراجع الفكرى تشمل غالب الفكر الدينى الوضعى التأويلى، وسيادة الجمود والغلو وعدم قدرة بعض رجال الدين على مواجهة أيديولوجيات الحركة الإسلامية الأصولية الراديكالية أو القدرة على دراسة وتحليل أبنية أفكارها ومرجعياتها الفقهية المتعددة، والاستثناءات محدودة، كرد الأزهر على أفكار جماعة الإخوان المسلمين بقيادة شكرى مصطفى التى اغتالت الشيخ الذهبى. من ناحية أخرى ثمة تراجع للتفسيرات والتأويلات الاجتهادية التى تحاول وصل ما انقطع مع التيار الإصلاحى التاريخى فى المرحلة شبه الليبرالية، ومن ثم تطرح أسئلة الواقع الموضوعى المعقدة، وتحاول تقديم إجابات معاصرة لها. بعض المحاولات والاجتهادات تعرضت للتشكيك فى نوايا أصحابها، ووصل الأمر إلى حد تكفير بعضهم، وذلك دونما تحليل ونقد لهذه الآراء، وفق أسس موضوعية وتاريخية، على نحو يظهر حالة من الخوف من الآراء التفسيرية والتأويلية الجديدة التى تبدى بعضا من المغايرة والاختلاف مع بعض المدارس الفقهية أو الإفتائية الوضعية الموروثة، وهو ما شكل حالة من سطوة الفكر الدينى الأتباعى الذى يضفى شبه قداسة على منظومة من التفسيرات والآراء البشرية الوضعية التى طرحت فى المراحل التأسيسية للمذاهب والمدارس الفقهية، أو ما بعدها لدى التابعين وتابعى التابعين. الجمود الفكرى ساد لدى الجماعات السياسية الإسلامية الراديكالية التى استعادت بعضا من أفكار وفتاوى فرق الخوارج، أو بعض الأطروحات السلفية التاريخية، وذلك كمرجعية لأفكارها إزاء الدولة والمجتمع والمخالفين لآرائها. النزعة النقلية الاتباعية كانت السمة الرئيسة للمدارس والجماعات السلفية المصرية، والعربية، ونزوعها الماضوى نحو إعادة إنتاج أسئلة وفتاوى وتأويلات قديمة طرحت فى سياقات وظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية مغايرة للوضعيات التاريخية الراهنة بمشكلاتها وتعقيداتها وأسئلتها التى تحتاج إلى اجتهادات جديدة ومختلفة عن بعض الإنتاج الفقهى والتأويلى الموروث عن المصادر السلفية التاريخية. الجمود والركود الفكرى سيطر على الاتجاهات العلمانية فى أطروحاتها البسيطة والعامة عن أصولها التاريخية والفلسفية وتجلياتها السياسية والاجتماعية فى دولة وستفاليا، دون متابعة لتطوراتها فى التجارب السياسية المقارنة، لاسيما فى علاقة الدين والدولة، وخصوصية وتمايز التجارب الأمريكية، والألمانية، والبريطانية، والفرنسية على مثال الدولة، اليعقوبية. تحولت العلمانية إلى محض شعارأيديولوجى على الرغم من بعض الأطروحات والمساجلات الفلسفية حول ما بعد العلمانية التى لم تطرح جديًا للنقاش عربيا. من ناحية آخرى هيمن الجمود الأيديولوجى على فكر وخطاب الأحزاب والجماعات السياسية اليسارية والليبرالية والقومية، ومرجعياتها التاريخية، وذلك من حيث نظامها اللغوى والاصطلاحى المستعار من المتن الأيديولوجى المؤسس وشروحه وتطوراته. كانت الأصول تبدو مفارقة للواقع التاريخى الموضوعى فى مصر والعالم العربى وكانت التنظيرات تبدو فى غالبها مستعارة، وقلة قليلة شكلت بعض الاجتهادات لتوطين التنظيرات والمفاهيم على الواقع لدى بعض الأحزاب ومنظريها، إلا أن الغالبية انصاعت للغة والخطاب السياسى والإيديولوجى الشعارى الذى تحول إلى رطانة لغوية. (وللحديث بقية) لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح