حياتنا الفعلية تبدو ساكنة، ومترعة بالجمود الممتد، ونادرًا ما يجتاحها القلق الفكرى الخلاق، الذى غالبًا ما يأتى من مصادر وأشخاص من دوائر الهامش الثقافى أو الأكاديمي، ويطرحون رؤى وأفكارا جديدة، أو نظرات نقدية إزاء وقائع وأحداث وشخصيات تاريخية، سياسية أو فكرية أو دينية، استقرت الآراء والتقييمات حولها، من خلال التاريخ السلطوى الرسمي، الذى يدرس فى مناهج التعليم العام، أو ما تواضع عليه بعض من ذوى السلطة الأكاديمية فى أقسام التاريخ، بقطع النظر عن كون تقييماتهم وسرودهم تنتمى إلى مناهج تاريخية تم تجاوزها فى الدرس التاريخى النظرى والتطبيقى المقارن على المستوى الكوني، أو تحيز بعضهم الأيديولوجي، وتماهيه مع تحيزاته وخطابه حول التاريخ أو بعض مراحله! الأمر لا يقتصر حول التاريخ السياسى والاجتماعي، وإنما إلى تاريخ تطور نظم الأفكار وإنتاجها فى عديد الفترات، وحول بعض كبار المفكرين والمثقفين والشعراء، والروائيين والقصاصين، أو فى الفنون الجميلة... إلخ!. الوسن والجمود العقلى الذى يسم حياتنا العقلية، يتجلى فى غالب ما يكتب فى الفلسفة، وفى حياتنا الدينية، حيث يعاد إنتاج أفكار ومقولات ومقاربات دينية وضعية، على نحو مستمر تاريخيًا، وكأن هذه الآراء الفقهية أو التأويلية الوضعية لشراح مؤسسى المذاهب الأربعة السنية، -وغيرها من مذاهب أخرى، بما فيها الرؤى السنية حول الشيعة والأباظية هى بمنزلة حقائق مطلقة أو شبه مطلقة، أو كأنها هى الدين ذاته، أو أنها تبدو الناطق التفسيرى والتأويلى الوضعى باسم المقدس -تعالى وتنزه- والعياذ بالله. من هنا تشكلت عديد السلطات الدينية والأكاديمية والنقدية والإعلامية الرسمية، التى بات غالبيتها تحتكر إصدار التقييمات والأحكام والفتاوى الدينية التى امتد منطقها ولغتها إلى عديد الخطابات الإفتائية السياسية والفكرية والتاريخية والنقدية والأكاديمية الحاملة لحقائق مسيطرة فى عديد المجالات التى تصدر هذه الخطابات على تعددها وتنوعها فتاوى حولها! على نحو بات يشكل حجر عثرة فى مواجهة حريات الرأى والتعبير والصحافة، بل وحرية التدين والاعتقاد. حالة مجتمعية تبدو خانقة، لأن بعضهم يريد تجميد المعرفة والتطور فى مجال العلوم الاجتماعية، لمصلحة هذه السلطات الأكاديمية، أو الثقافية أو الدينية أو السياسية الرسمية، وما تحمله كل سلطة من نفوذ ومصالح وعلاقات وشبكات. ثمة نزعة شرسة لمواجهة أى خطاب نقدى مغاير للمألوف وإن اعتصم بقواعد المنهج والمعلومات والتحليل النقدى للآراء والتنظيرات والتفسيرات السائدة فى تخصص ما، ويحاول تفكيك هذه الآراء وتحليلها وإعطاء تفسير مغاير لها، أو تقويض الأحكام التاريخية السائدة حول شخصية تاريخية سياسية أو فكرية أو دينية، أو حول إنجازاتها وتقييم مدى أهميتها ... إلخ!.عالم من البداهات تبًا لها!- تشكل حول العقل المصري، والحياة العقلية، والفكرية والسياسية، وتأسست حولها بعض السياجات «المقدسة»! الوضعية، بحيث يبدو الاقتراب منها بالنقد والتحليل وإعادة التقييم، محفوفًا بمخاطر «التكفير» السياسى والدينى والفكرى والأكاديمي، ومن ثم أشاعت هذه السلطات الوضعية الجمود النسبى فى العقل العام وعقل النخبة المفكرة. من هنا أدى هذا الوسن العقلى لدى بعضهم فى عديد المجالات إلى إغلاق أبواب الاجتهاد والإبداع والفكر النقدى الذى يحرك الجمود ويؤدى إلى تجديد حياتنا العقلية والثقافية فى جميع المجالات! لم نعد نمتلك الجسور الثقافية مع مراكز إنتاج المعرفة فى عالمنا المتغير فى كل المجالات وما يجرى داخلها من مراجعات نقدية لإرثها المعرفي، والتجديدات النظرية والفلسفية الجديدة، ولا التحولات الكبرى والسريعة والمكثفة فى نطاق الثورة الرقمية، وبشائر الدخول إلى الثورة التكنولوجية/ الرقمية الرابعة فى جميع المجالات، وما تتطلبه من استعدادات وفتح المجال أمام الإبداع الرقمي، وفى متابعة انعكاسات الثورة التقنية الرابعة على الحياة الإنسانية على نحو غير مسبوق! انقطاعات وفجوات كبرى بيننا وبين ما يجرى فى عالمنا من نقاشات وجدالات وتنظيرات وتفسيرات لما يجرى حولنا من تحولات! من هنا أدى الجمود العقلي، والإرهاب الفكرى واغتيال العقل الناقد، إلى تحول الإنتاج الفكرى والدينى والسياسى إلى الطابع المحلى الذى يتغذى على موروثات، ويقينيات وأحكام قيمة تسيطر على تقييم تاريخنا والأفكار السائدة، ونادرة هى الاجتهادات الإبداعية فى بعض المجالات. خوف وارهاب عقلى من الخطابات النقدية التجديدية الرامية لمساءلة الأفكار الموروثة الوضعية حول الدين، أو التاريخ، أو بعض الشخصيات المؤثرة فى مساراتنا التاريخية والثقافية والاجتماعية، وذلك على الرغم من أنها وإنجازاتها تنطوى على تناقضات وأخطاء وإنجازات، ومن ثم هى شخصيات ووقائع وأحداث تاريخية، وقضايا فكرية ودينية حمالة أوجه وينظر إليها من منظورات نقدية مختلفة، ومن ثم ليست مقدسة. من هنا تبدو بعض الآراء الآثارية التى يطرحها بعضهم بين الحين والآخر، فى مقولات عامة محمولة على الإثارة الإعلامية لا ترمى إلى إعادة النظر فى تقييم هذه الشخصيات أو الأحداث، وإنما الهدف هو الصدمة الإثارية للمتلقى غير المتخصص، ومن ثم تحقيق الحضور واستقطاب الأضواء والاهتمام من خلال الجدل حول الشخص لا المعركة الإثارية، وغالبًا ما تطرح هذه الآراء الأثارية حول بعض الشخصيات الشهيرة، من السياسيين أو رجال الدين، على نحو معمم وفى غالب الأحيان دونما معرفة فى العمق بإنتاج هذه الشخصية، أو دوره، من ثم نحن إزاء خطاب أثارى فى غير سياقاته، ويكون الرد عليه إثاريًا، أو رفع قضايا أمام القضاء بهدف تحقيق الذيوع أو الشهرة، وليس إثراء الوعى النقدي.!. لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح