من مألوف النقاشات الكبرى فى الحياة الفكرية والأدبية والفنية تناول اشكالية الحرية والإبداع فى كل الحقول السردية، والسينمائية، والموسيقية، والتشكيلية، والفلسفية، وفى مجال العلوم الاجتماعية، وهى واحدة من الاشكاليات التى تم حسمها فى المجتمعات الحديثة وما بعدها، ولم تعد تطرح للجدل العام إلا قليلا إزاء بعض المستجدات غير المألوفة، لاتزال هذه الاشكالية جزءا من عمليات التحول الاجتماعى والسياسى المعسور فى البلدان المتخلفة، أو التى لاتزال فى طور النمو، حيث تسيطر على الحياة الفكرية والأدبية والفنية مجموعة من القيود والكوابح السياسية والدينية، والمحرمات الاجتماعية التى تقف عقبة إزاء الفكر الحر، والخيال الخلاق، وذلك لعديد من الأسباب على رأسها ما يلي: 1- هيمنة العقل التسلطى على النظام السياسى والاجتماعي، والقيود الصارمة المفروضة على المجال العام، ومن ثم تهيمن على الحياة العامة القوانين المقيدة للحريات العامة، وعلى رأسها حريات الرأى والتعبير، وذلك لأن النخبة السياسية الحاكمة تخشى من الخطاب النقدى الاجتماعى والسياسي، الذى يطرح الأسئلة ويكشف عن التناقضات داخل النظام السياسى وتكوين النخبة الحاكمة، ويقيم أداءاتها ومساراتها، وأنماط تفكيرها سعيا وراء تحرير المجتمع والسياسة والدولة من كوابح التقدم والتطور الاجتماعي، والرقى السياسي. 2- توظيف منظومة معيارية دينية وأخلاقية موروثة وتسلطية لفرض وصاية السلطة السياسية والدينية على العقل والوجدان، من خلال معاييرها التأويلية الوضعية الصارمة على العقل، والإنتاج الفكرى والإبداعي، على نحو ما يشهد عليه ملفات انتهاك حرية التعبير، والقضايا التى رفعت لمصادرة الكتب، وحجب الأفلام، ومطاردة الروايات والقصائد بدعوى تأويلية مفادها مساسها بالشعور الديني، أو ببعض القواعد المعيارية الوضعية الرفيعة، ثمة نزوع عام فى استخدام المعابد الدينية والثنائيات الضدية حول الحلال والحرام.. الخ، فى تقييم الأعمال السردية والفنية والفلسفية، وكأنها أعمال ونصوص دينية، ومحاولة استبعاد عمدى للمناهج النقدية المتخصصة فى تحليل وتفكيك وتفسير العمل السردي، والفني، وهى أعمال فى التنظير، والنقد التطبيقى تبدو معقدة ولا يجيدها إلا المتخصصون فى الدراسات الأدبية، أو الفنية أو التشكيلية.. الخ!، والنقاد الذين يمارسون النقد التطبيقي، بعض رجال الدين والسلطة لا يعرفون التمايز النوعى بين الواقع الموضوعى بكل محمولاته وتفاصيله اليومية، وبين الواقع فى الخيال السردى فى الرواية والقصة والقصيدة والمسرحية، ومن ثم تعود محاولة إيجاد تماهٍ بين السرد والواقع، هى محاولة لقمع تخيلات المبدع، وفرض معايير أخلاقية محافظة على 3- الإبداع، وفرض قيود باهظة تحول فى واقع الأمر دون ازدهاره وحيويته وتطوره، أن قمع حرية الخيال تحول دون الإبداع الثقافى العام، وتؤثر على تطور المجتمع ومؤسساته، وعلى مسار الثقافة فى أى بلد من البلدان، خاصة فى ظل تطورات نوعية مذهلة تشمل عالمنا المتغير وتسحق معها نظريات ومعارف ورؤى وأفكار حول الإنسان، والطبيعة، والآلة، والتحول من الإنسان الطبيعى إلى الإنسان الرقمي، خاصة فى بلد كمصر لايزال يعانى معاناة شديدة من أمراض التخلف السياسي، والاجتماعي، ومن جمود الفكر الديني، والتدهور فى مجال العلوم والمعرفة والتعليم والإعلام..الخ! أحد أسباب الكسل يتمثل فى غياب الهمة والدافعية، بالنظر إلى أن مردود العمل ضئيل، أو سطوة وهيمنة القيادات ما دون الحد الأدنى والأوسط من المديوكرات والمنيوكرات والتى تغتال معنويا وإداريا الكفاءات والمواهب وتعصف بهم وتفرض القيود عليهم وإزاحتهم من المواقع القيادية، ناهيك عن شيوع معايير المحسوبية والولاءات الشخصية، وترييف جهاز الدولة، وسيطرة قيم ريفية فى إدراك مفهوم الزمن، وعلاقته بالعمل والإنجاز، حيث يدرك ذو الثقافة الريفية الزمن على نحو متثاقل، كجزء من دورة الحياة اليومية فى العمل فى الحقل والزراعة... إلخ! التسلطية السياسية أدت إلى إحياء الأنامالية السياسية، وروح عدم الانتماء والاغتراب السياسى والاجتماعي، وتشيع الإحباط الجماعي، وفقدان الأمل فى الحراك الاجتماعى الأعلي. الأخطر أن هذه الظواهر الاجتماعية المرضية تتم بينما العالم يهدر بتغييرات زلزالية كبري، ويتم كبح حرية العقل والتفكير والتعبير، فى ظل ثورة رقمية عاتية ومتغيرة وتتحول بسرعة من تطور نوعى لآخر، يمس العقل والمشاعر والعواطف والحواس المتحركة نحو الإنسان الرقمي، بينما نحن لا نزال نعيش فى ظل معتقلات الفكر النقلي، وموت السياسة، والسعى لتنميط الفكر الديني، وإعادة إنتاج معارف تجاوزتها تطورات العلوم الإنسانية التى لا نستهلك سوى بعض نثاراثها ومبتسراتها المشوهة، لأنها لم تترجم، ومن ثم يدور فكرنا الاجتماعى والسياسى فى دوائر نقلية قديمة، لم تعد صالحة لعصرنا الجديد. الحرية هى أحد محركات الإبداع العقلى والفنى والأدبي، والأهم الابداع الاجتماعى للمواطنين، الفردى والجماعي، ناهيك عن تنشيط مستمر للعقل والخيال السياسى المصري، كى تستطيع النخبة الحاكمة والمواطنون المشاركة الفاعلة فى تجديد الحيوية الاجتماعية والسياسية وإدارة شئون البلاد بفعالية، وفكر متجدد وشاب، ودون ذلك تتفاقم الأزمات وتتراكم ولا يستطيع العقل السياسى استيعاب الواقع الموضوعي، والفشل فى إبداع حلول جديدة لواقع يزداد تعقيدا. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح