علماء الدين: قتل الأبناء تأباه الفطرة..والاغتيال المعنوى أكثر بشاعة إحياء العلاقات الاجتماعية وترسيخ ثقافة الحوار يحل المشكلات فى مهدها
حالات العنف والجرائم الأسرية التى طفت على السطح مؤخرا ما بين الأزواج والزوجات تارة، والأبناء والآباء تارة أخري، بما تحمله من تفاصيل وأسباب للعنف والجريمة، تشير إلى خلل كبير اعترى العلاقات الإنسانية داخل بعض فئات المجتمع، وهذا ما تفضحه أبسط الخلافات، وكأن تلك الأسر تعيش فوق بركان ينتظر لحظة الانفجار، مما يدعونا للتساؤل: هل إلى هذا الحد تآكلت المسافات وتلاشت الحدود الآمنة بين الناس؟ ولماذا حل العنف والقسوة محل الود والتسامح والحوار؟ وكيف نقضى على مثل هذه السلوكيات الشاذة فى الأسر المصرية قبل أن تتحول إلى ظاهرة؟ فى البداية يقول الدكتور نبيل السمالوطى أستاذ علم الاجتماع جامعة الأزهر: إن الجرائم الأسرية موجودة فى كل دول العالم، وهى فى مصر مجرد حالات فردية ولا تمثل ظاهرة، لكن التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل وانتشار الفضائيات وبرامج التوك شو، استغلت شغف القارئ والمشاهد لمتابعة الجريمة ومعرفة التفاصيل، فى تسليط الضوء على هذه الحالات الفردية وتزامن عرضها عبر الشاشات والصحف والمواقع، بما يخيلها لدى البعض بأنها ظاهرة. وكان الأجدر بوسائل الإعلام التركيز على القضايا الكبرى والمشروعات التى تعتمدها الدولة لبناء الشخصية الوطنية وبناء فكر الانسان. تراجع دور الأسرة وتعود الجرائم الأسرية إلى أسباب عدة أهمها: تراجع القيم والأخلاق وتعاطى المخدرات والإدمان، والخلاف على الميراث، فضلا عن غياب دور الأسرة فى التربية السليمة وتأثر الأبناء بأفلام العنف والخوارق والجرائم التمثيلية، ناهيك عن الدور السلبى الذى تلعبه التكنولوجيا فى زعزعة الثقة بين الأزواج، وكلها أسباب تدفع للعنف وتعدى الزوج على الزوجة والعكس، وربما يصل الأمر لقتل الأبناء تحت تأثير الإدمان، والرغبة فى التشفى والانتقام نتيجة الخيانة الزوجية. وهنا لا نستطيع أن نغفل دور الضغوط الاقتصادية التى أخذت بعض الأزواج من بيوتهم وزوجاتهم وجعلتهم مجرد آلة لكسب لقمة العيش، مما زاد الفجوة بين الزوجين، ولم يعد الرجل يحتمل الحديث المجرد مع زوجته وأولاده، كما أن بعض الأزواج لا يحسنون تقدير ظروفهم والتوفيق بين دخولهم ونفقاتهم، فيحملون أنفسهم فوق طاقاتهم، وبرغم شكواهم المستمرة من ضيق ذات اليد، لا يعبأون بكثرة الإنجاب والارتباط بأعباء اقتصادية لا تناسب دخولهم المتواضعة، مما يثقل كاهل رب الأسرة فيضيق ذرعا بأبنائه، ويدور حاله فى بعض الأحيان ما بين ممارسة العنف عليهم ودفعهم للتسريب من التعليم ليساعدوه على المعيشة، وكثرة المشاجرات بينه وبين زوجة وقد تنتهى العلاقة بالطلاق أو يتطور الأمر إلى العنف والجريمة فى بعض الأوقات. هذا ناهيك عن غياب ثقافة الاختلاف بين الزوجين وعدم مراعاة حدود الأدب والنقاش الهادئ البناء، واللجوء إلى الصوت العالى واتهام الآخر بالتقصير دائما. ضد الفطرة ويقول الشيخ عبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر إنه بالرغم من أن جريمة القتل ليست بدعا على الإنسانية، إلا أن اللافت هو إقدام بعض الآباء والأمهات على قتل أطفالهم، وهذا أمر يتنافى مع الفطرة السليمة، ويعود لغياب الوازع الدينى والاستسلام للشيطان عند الغضب، لأن الحيوانات تحافظ على صغارها..وتساءل: ما ذنب أطفال صغار يقتلهم والدهم لمروره بضائقة مالية، وما ذنب طفلة يقتلها والدها انتقاما من أمها، ولم الانتقام أصلا، وقد رسم الإسلام منهجا واضحا لحل الخلافات الزوجية.. فلماذا العنف والقتل والتنكيل إّذن؟! فمن رغبت عن زوجها وترفض العيش معه لها أن تطلب الطلاق أو حتى الخلع، فهذا أفضل من أن تخونه أو تفكر فى قتله بمعاونة عشيقها كما نقرأ ونشاهد. والزوج كذلك يجب أن يكون متفاهما وليس متعنتا حتى لو وصل الأمر للطلاق. وهنا يجدر بالأسر أن تعلم الحكمة التى من أجلها أباح الإسلام الطلاق، بل قد يكون أحيانا واجبا، إذا استحالت العشرة وكان فى استمرارها خطر وضرر أكبر، ولعلنا ندرك ذلك إذا تأملنا قوله تعالى «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ»، لذلك فمن العبث أن نطالب زوجين استحالت بينهما العشرة واتسعت الفجوة بينهما بأن يواصلا حياتهما الزوجية فى نكد وكدر، بدعوى الحفاظ على الأبناء وعدم خراب البيت، كما هو الحال فى بعض الأسر الريفية، فالطلاق فى هذه الحالة أفضل من حياة ملؤها العنف والغضب والخيانة، وأن نستيقظ صباح يوم على خبر قتل أحدهما الآخر!!. العلاج النفسى والعاطفي ولما كانت الجرائم الزوجية، وكذا الانتحار، تعود فى بعض أسبابها إلى المرض النفسى وتعاطى المخدرات، أو نتيجة البرود العاطفى وجفاف العلاقة الخاصة بين الزوجين، فلا ينبغى التقليل من شأن هذه الأمور أو النظر إليها باستخفاف بدعوى رفض المجتمع المريض النفسى واستنكاره الحديث فى العلاقات الخاصة بين الرجل والمرأة..فهذا عبث، لأن المواجهة والبحث عن حلول للمشكلات أفضل من التجاهل ودس الرءوس فى الرمال، وانتظار بركان يحرق الأخضر واليابس، لاسيما ونحن فى عصر الحداثة والتقدم فى جميع التخصصات العلمية والطبية. كما أننا مأمورون شرعا بالتداوى من أى داء ما دام له علاج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً) . وطالب الدكتور السعيد محمد على من علماء الأوقاف، بدراسة هذه الجرائم، ووضع خطط للمواجهة، وعودة منظومة الأخلاق والقيم الواردة فى السنة النبوية الشريفة، وتقوية الروابط الأسرية، وغرس المودة بين الأشقاء، وأن يكون هناك حوار مستمر داخل الأسرة. وأن يحل التواصل بين الأرحام والجيران والأنساب محل التقاطع والتدابر الذى تفشى اليوم، فكل ذلك يعين على مناقشة أى مشكلة والبحث لها عن حلول ودية وبدائل سلمية بعيدا عن العنف ومعترك الجريمة. أشد جرما والجرائم الأسرية كما يرى الدكتور ناصر محمود وهدان أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة العريش لا تقتصر على القتل وإزهاق الروح فحسب، بل هناك نوع آخر من الجرائم أشد قسوة وبشاعة، وهو القتل المعنوي، وإن ظل المجنى عليه على قيد الحياة..من هذه النماذج عقوق الوالدين وتفضيل الزوجة عليهما، والتنكر لهما وإيداعهما دور الرعاية. ومنها أيضا: الهجر والخيانة الزوجية، فالذى يقتل زوجته يجنى عليها مرة، والذى يخونها أو يهجرها ويتركها كالمعلقة ويحرمها حقوقها الشرعية يجنى عليها كل يوم ألف مرة. وليس أقل من ذلك جرما ذلك الأب الذى يترك أولاده يعانون الجوع والتشرد والضياع ويعيش حياة عابثة لاهية.. أو تلكم المطلقة التى تقطع أرحام أبنائها من أسرة أبيهم..وقد يموت الجد أو الجدة دون أن يطالع ملامح حفيده الذى صار شابا يافعا. ضبط النفس ولأن الغضب هو أولى مراحل العنف والجريمة يطالب الدكتور وهدان بضبط النفس عند الغضب لأن الغضب مفتاح كل شر، حيث يولد الحقد والكراهية والحسد والرغبة فى الانتقام والوقوع فى الجريمة، ولذلك اعتبر النبى صلى الله عليه وسلم القدرة على ضبط النفس دليلا على القوة الإيمانية، فقال «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب»،وحينما أتى رجل للنبى صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يوصيه، قال له النبي: «لا تغضب»، وكررها ثلاثا. وبشر صلى الله عليه وسلم من يكظم غيظه عند الغضب فقال: «من كظم غيظًا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره من أى الحور العِين شاء». وفى أوقات الغضب يجب ألا ننسى الإكثار من الاستغفار والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، لأن الغضب جمرة من الشيطان يلقيها فى قلب الإنسان ليحرق بها غيره، ولا يطفئها إلا ذكر الله. وناشد د. وهدان الإعلام والمؤسسات التعليمية والدعوية التركيز على ثقافة التسامح والحوار، وبيان الحقوق والواجبات فيما بين الزوجين ومن الآباء للأبناء والعكس، فللأسف أن كلا منا يحرص على معرفة حقوقه ولا يعبأ بواجباته، وهذا يؤدى إلى تصادم وخلاف أحيانا، ولو أن كلا منا عرف ما له وما عليه، لما نشب ما نراه بينهما من خلاف اليوم.. هذا مع التركيز على النماذج المشرفة فى الإسلام التى تجسد البر والإحسان فيما بين الزوجين وما بين الآباء والأبناء، بدلا من العنف والجحود والنكران الذى تصدره إلينا بعض وسائل الإعلام.