تربيت وأبناء جيلي على مقولة إن المال نعمة ونقمة، فالحرمان منه ابتلاء، والحرص عليه ابتلاء أشد فتكاً، وامتحان لسلامة النفس، فقيمة المرء لا تقاس بما لديه من مال، وإنما بأعماله ونياته وسلوكياته، فالمال قد يأتي مصادفة ثم تذروه الرياح، لكن العمل الصالح يبقى وذكرى الشخصية السوية تبقى، ومن يبيع نفسه لقاء بضعة دراهم، سوف تذهب الدراهم وتبقى نفسه رخيصة، وقد قال السيد المسيح عليه السلام: ماذا يستفيد ابن الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه. ومشكلاتنا في مصر لا تنبع عن فقر أو ظروف اقتصادية صعبة، لكنها تنبع عن أخطاء تنظيمية وإدارية وعلل اجتماعية، وتتمثل الأخيرة في تصرفات غير سوية لبعض ضعاف النفوس الذين جعلوا المال غايتهم، بلهاثهم المحموم إلى اكتنازه بغض النظر عن الوسيلة، فالمال في عرف هؤلاء صار غاية يسعون إليها، وفي سبيل هذه الغاية لا مانع لديهم أن يتخلوا عن القيم والمبادىء وعزة النفس، التي اشتهر وعُرف بها الإنسان المصري على مدى تاريخه. استحل بعضهم الثراء السريع على حساب كرامة بلدهم وسمعة نخبة مواطنيهم، بسماحهم لمن لا يستحق الذكر بالتطاول على وطنهم ورموزه دون حق، ودون أن يحاول أحد منهم الرد على هذه التجاوزات، والتي حدثت على الهواء مباشرة ومست أناسًا طالما عرفوا بطيب أخلاقهم وحسن معشرهم، لكنهم لقولهم رأيًا بالحق والأدب دون تطاول، جرى الاستهزاء بهم وإهانتهم علنًا على القنوات الفضائية في بلدهم، التي صار حماها مستباحًا لمن يملك سطوة المال، ويظن واهمًا أن أمواله تضمن له الخلود، متناسيًا كيف كانت نهاية قارون وماله. لن أذكر أسماء فذكرها لا يعنيني ولا يفيد بشيء، كذلك لن أذكر تاريخ الواقعة ولا مكانها، فما يهمني وأهدف إليه من هذه الكلمات ما تفرضه الحكاية أو الواقعة من ضرورة التصدى للسلوكيات المريضة، على عشم أن يتنبه أهل الطمع لما يقترفونه في حق أنفسهم وحق مواطنيهم وحق بلادهم. إن ما يحدث في مصر من لهاث بعضهم وراء المادة، أمر يستوجب دراسات متخصصة من علماء النفس والاجتماع، فالمثير للأسى أن مَنْ يمارسون هذه الأفعال، لا يفعلونها تحت وطأة الحاجة، فهم أثرياء لا يحتاجون مالاً، ويحتلون مكانة مرموقة في المجتمع، بحيث ينطبق عليهم قول المبدع إبراهيم ناجي: قد صار حبُّ الحياة منا .. يقنع بالجيفة السباغ هم في قرارة أنفسهم يعلمون خطأ ما يفعلون، لكنه الطمع والحرص على اقتناء مزيد من المال أذل أعناقهم، وأنفسهم الأمارة بالسوء أعمت بصيرتهم عن تلمس الحق، فلم يدركوا أن اللهاث المحموم للحصول على شوال أرز، يفقدهم أعز ما يملكون، إلا وهي الكرامة التي متى ذهبت محال أن تعود، فالمواطن المصري لن ينسى إسفافهم وتخليهم عن كرامتهم مقابل شوال أرز يسكنه السوس، وهذا السوس سينتقل من الشوال إلى أهاليهم وسيحول بيوتهم إلى مستعمرة له لن يتخلصوا من آثارها أبدًا, بل ستلاحقهم حتى بعد الممات. لمزيد من مقالات أسامة الألفى