الاقتصاديون متفقون فيما بينهم على اعتبار المؤشرات الثلاثة الآتية معايير جيدة للحكم على الأداء الاقتصادى لدولة ما، فى فترة معينة: 1 معدل نمو الدخل (أو الناتج) القومى للفرد الواحد 2 مدى التحسن أو التدهور فى البنيان (أو الهيكل) الاقتصادي، أى نوع التغيير فى مكونات الناتج القومي، كزيادة نصيب الصناعة مثلا أو انخفاض فى إجمالى الناتج، أو ارتفاع أو انخفاض نصيب قطاع الخدمات على حساب نصيب الصناعة 3 مدى التحسن أو التدهور فى توزيع الدخل: هل زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية أم نقصت؟ فإذا طبقنا هذه المعايير الثلاثة على ما حدث للاقتصاد المصرى خلال السبعين عاما الماضية (أى فيما بين 1948 و2018) كان من الممكن القول، فيما اعتقد، إن أفضل الفترات هى فترة (1956 1965) أى السنوات التسع الواقعة بين تأميم قناة السويس وانتهاء سنوات الخطة الخمسية الأولي. ففى هذه الفترة تراوح معدل نمو الدخل للفرد الواحد بين 6% و7%، وهو ما لم يبلغه قط فى الخمسين عاما السابقة على الأقل، ولم يبلغه بعد ذلك إلا فى السنوات العشر التالية للانفتاح الاقتصادى (أى خلال 75 1985)، ولكن هذه السنوات العشر شهدت تدهورا فى البنيان الاقتصادي، إذ تراجع نصيب الصناعة بشدة لمصلحة قطاع الخدمات. أما توزيع الدخل فقد شهد تحسنا ملحوظا فى تلك الفترة (56 1965) التى رفعت فيها شعارات «الاشتراكية العربية»، ثم أصاب توزيع الدخل تدهور ملحوظ منذ ذلك الحين. لابد أن يلاحظ المرء أن هذه الفترة (56 1965) التى شهدت تحسنا كبيرا فى هذه المؤشرات الثلاثة (معدل النمو ومعدل التصنيع وتوزيع الدخل)، اتسمت أيضا باشتداد ساعد الدولة وقيامها بدور مهم فى توجيه النشاط الاقتصادي، على عكس ما سمى نظام الحرية الاقتصادية الذى ساد قبل ذلك، وعلى عكس ما ساد فى عهد الانفتاح بعد هذه الفترة لابد إذن أن نعترف باقتران تدخل الدولة فى مصر فى هذه الفترة بتحسن الأداء الاقتصادي، على الرغم من الزعم الشائع، منذ ذلك الحين، ليس فقط فى مصر بل وفى العالم ككل، بأن السياسة الاقتصادية المثلى هى تلك التى تترك الأمور للقطاع الخاص ويتقلص فيها دور الدولة إلى أقل قدر ممكن. هذا الاعتقاد الشائع ليس فى نظرى إلا «موضة» من موضات الفكر الاقتصادي، التى تنتشر فى فترة وتختفى فى أخري، دون أن يكون لذلك مبررات قوية، بل يستند فقط إلى درجة القوة أو الضعف التى يتسم بها النشاط الخاص بالمقارنة بالقطاع العام والتدخل الحكومي. هذا التقلب فى سمعة النشاط الخاص ودور الدولة قد يرجع إلى أسباب سياسية دون سند قوى من الواقع. ففى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى تمتع المعسكر الاشتراكي، وعلى رأسه الاتحاد السوفيتي، بسمعة اقتصادية طيبة (حتى وإن اشتد الهجوم عليه بسب غياب الديمقراطية)، ثم أدى سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكك الدول السائرة فى فلكه، إلى شيوع الهجوم على التدخل الشديد من جانب الدولة إلى حد أن زعم البعض (كما ذهب فوكوياما فى كتابه الذائع الصيت: نهاية التاريخ) بسقوط الاتحاد السوفيتى انتهى إلى الأبد عصر الأيديولوجيات، وبالذات عصر تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادي. شاع منذ ذلك الحين القول بمزايا الانفتاح الاقتصادى على العالم، ورفض ما تفرضه الدولة، أى دولة، من حماية لاقتصادها، ومن ثم شاع الاعتقاد بأن أى شيء تفعله الدولة لابد أن يكون ضرره أكثر من نفعه، وبأن ترك الحرية الكاملة للقطاع الخاص لابد أن يكون هو السياسة المثلي. حدث هذا فى مصر كما حدث فى غيرها، بل أصاب الصين كما أصاب الدول الأخري، وها نحن نعيش الآن فى ظل هذا الاعتقاد الذى لا يكاد يجرؤ أحد على تحديه. هل يمكن تفسير انتشار هذا الاعتقاد باشتداد ساعد الشركات المتعددة الجنسيات، ابتداء من أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وسيطرتها المتزايدة على وسائل الإعلام؟ إننى أرجح أن هذا هو التفسير الصحيح. هذا التزايد فى قوة الشركات المتعددة الجنسيات لا يعنى أن هذه الشركات تستحق ما حصلت عليه من مكاسب، إذ قد يكون ما تحققه هذه الشركات من أرباح على حساب العمال أو المستهلكين أو كليهما معا. إذ إن هذه المكاسب لم تتحقق مقابل خدمات حقيقية تقوم بتقديمها، بقدر ما كان نتيجة لمحض القوة، أى قدرتها على ترويض المستهلكين وقهر العمال: ترويض المستهلكين على شراء الكثير مما لا يحتاجون إليه، قهر العمال بإجبارهم على قبول أجور أقل من مساهمتهم الحقيقية فى الإنتاج. ها قد تحولت السياسة الاقتصادية فى مصر، خلال السبعين عاما الماضية من الشيء إلى نقيضه، فتراخى بشدة دور الدولة فى الاقتصاد وزاد بشدة دور النشاط الخاص، ولكن ليس هناك ما يؤكد أن هذا التحول باق إلى الأبد. إن السياسة الاقتصادية فى مختلف الدول تتغير كما تتغير الموضات، فقد نفاجأ بأن يعود دور الدولة إلى ما عهدناه منذ ستين عاما، فى رسم السياسة الاقتصادية وتوجيه النشاط الخاص وتشغيل العمال وإعادة توزيع الدخل. قد يحدث هذا عندما ينتشر السخط على أداء الشركات الخاصة فى إشباع حاجات الناس الأساسية، وعلى تأثيرها المتزايد فى وسائل الإعلام بل وحتى فى نظم التعليم. ومن ثم لا يجب أن نستغرب أن نجد الدولة فى مصر وقد استعادت دورها القديم فى الاقتصاد القومى وأن يستمر ذلك طالما شعر الناس بأنها تحقق وظائف ضرورية فى خدمة الناس. لمزيد من مقالات ◀ د. جلال أمين