أحيانا ما كانت تصادفنى آراء لبعض من يكتبون، وهم يتحدثون عن صحيفة «الأهرام»، وكأنها مجرد صوت للحكومة، تخلو من أى رأى ينتقد وينير، لمن يطلع عليه قارئا أو مسئولا، فى تجاهل منهم لأسماء بعض كتاب «الأهرام» ممن ازدانت صفحات الرأى بمقالاتهم، التى تحمل رأيا حرا مستقل الفكر، بصرف النظر عن التغطية الإخبارية، وهى شئ آخر غير الرأى. ...................... وحتى لاأذهب بالقارئ بعيدا، اخترت أن أروى بالوقائع المجردة، مواقف لرئيس تحرير «الأهرام» الأستاذ إبراهيم نافع فى سياسة إيجاد التوازن بين مقتضيات التغطية الإخبارية، وبين السماح بالرأى الحر حتى ولو كان منتقدا لسياسة الدولة، ومن هؤلاء على سبيل المثال سلامة أحمد سلامة، وصلاح الدين حافظ وغيرهم كثيرون. وقد اخترت من بين فصول كتابى «فى كواليس الصحافة والسياسة.. تجربة ذاتية» الذى يصدر هذا الشهر عن الهيئة العامة للكتاب، بعض نماذج لذلك. فى أحد مقالاتى بصفحات الرأى اخترت أن أتناول قضية لفتت نظرى واستفزتنى كصحفى فقد كان أحد وزرائنا فى زيارة لليابان، وأثناء جلسة مباحثاته هناك، طلب منحة يابانية ضمن برنامج المنح التى تقدمها اليابان لدول أخري، وفوجئ الوزير بالجانب اليابانى يبلغه أن اليابان سبق أن قدمت هذه المنحة لمصر، قبل بضع سنوات، بقيمة خمسة ملايين دولار تقريبا، وأن أجل هذه المنحة ينتهى بعد شهر من الآن، وطوال السنوات التى مضت لم تقم مصر بأى اجراء للاستفادة من المنحة، وكأنها ضاعت من ذاكرة الحكومة المصرية، وعاد الوزير إلى مصر ليسأل عن هذه المنحة، ويفتح ملفها لأول مرة، وهى التى أوشكت أن تضيع. التوازن بين التغطية الخبرية والرأى الحر المستقل وكتبت مقالى الذى أستندت فيه إلى معلومات موثقة من جهات حكومية، عن تصرفات مماثلة لعدد من الوزراء والمحافظين، وخشية منى لوجود ما يحول دون النشر ذهبت إلى الأستاذ إبراهيم نافع فى مكتبه، وشرحت له مضمون المقال فسألنى هل جاء فيه اسم مبارك تحديدا قلت لا ولكنى ذكرت اسم رئيس الوزراء كمسئول عما يجرى قال لى:إذن انشر المقال. فى هذا السياق لإيجاد التوازن فى مسار الصحيفة وليس الانبطاح للسلطة، أو مراعاة حساسية العلاقة مع الولاياتالمتحدة، حدثت الواقعة التالية، ففى عام 1995، وكنت فى واشنطن، طلبت لقاء مع ويليام بيرى وزير الدفاع لحوار للأهرام. وبصرف النظر عن محتوى الحوار، فإن ما جرى فى القاهرة بعد هذا اللقاء بسنوات يستحق التأمل ففى نهاية الحوار طلب منى الوزير الأمريكى عمل اشتراك سنوى لوزارته فى الأهرام الدولي، حتى يطلع من خلاله على ما يجرى فى المنطقة، بعد ترجمة المادة التى يهمهم الاطلاع عليها، وقتها كان إبراهيم نافع فى واشنطن وسألته: هل نرسل لهم نسخة مجانية، طالما أننا نريد أن نحيطهم علما بوجهات نظرنا، فقال لي.. فليدفعوا ثمن النسخة. وبالفعل بدأنا فى ارسال النسخة اليومية من الأهرام الدولي، ومعها فاتورة بقيمة الاشتراك السنوي، الذى واظبت الوزارة على تسديده، وهنا نصل إلى بيت القصيد. فقبل الغزو الأمريكى للعراق فى مارس 2003، وصل إلى رئيس تحرير الأهرام عن طريق السفارة الأمريكيةبالقاهرة خطاب من بول وولفوتيز نائب وزير الدفاع صادر من مكتبه ومدون على أوراق الوزارة الرسمية وعليه ختم السفارة الأمريكية، يطلب فيه تطبيق حق الرد، بنشر الخطاب فى نفس الصفحة التى نشر فيها مقال لعاطف الغمري، قبلها بأسبوع كنت قد تحدثت فيه عن دور وولفوتيز كأحد أقطاب حركة المحافظين الجدد، الذين يقودون خطة تغيير الدول العربية من داخلها، سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا، ومجتمعيا. وحمل المقال مؤشرات مبكرة لما شهدناه من بعد الثمانية عشر يوما الأولى لثورة 25 يناير 2011، عن خطة تغيير الأنظمة وإعادة رسم الخريطة الإقليمية للمنطقة. جاء خطاب وولفوتيز قبل 31 يوما من الحرب على العراق، وحمل لهجة تهديد وإنذار، واتهام لكاتب المقال بسوء النية، والإساءة لعلاقة مصر بأمريكا، وعلاقة أمريكا بالدول العربية. وافق إبراهيم نافع على حق الرد، بنشر خطاب وولفوتيز لكننى سارعت بإعداد مقال لعدد الأسبوع التالي، أرد فيه بالوقائع التى تفند كل ما قاله، وأن الحرب على العراق لا تتوقف عند حدوده، بل كانت مجرد باب للدخول إلى العالم العربي، بنفس الطريقة، ونفس الأهداف، وأنها تمثل محورا وفلسفة للسياسة الخارجية الأمريكية. ولما كان ردى عليه مدعوما بوثائق، ودراسات لكتاب أمريكيين فقد آثر وولفوتيز الصمت وأغلق باب التهديد، ولم يعلق. كانت تلك سياسة إبراهيم نافع التحريرية فهو سمح بنشر خطاب وولفوتيز، لكنه ألحقه فى الأسبوع التالي، بمقالى الذى يهدم كل ادعاءاته بالرغم مما به من تهديد وتجاوز. مقال الوزير المهم لا يصلح للنشر فى بعض الفترات القليلة التى كنت أكلف فيها بمسئولية صفحات الرأى، إلى جانب عملى بالدسك المركزى، فقد حدث أن وصلنى مقال كتبه أحد الوزراء المهمين، وعليه تأشيرة كتب عليها: الأستاذ عاطف الغمرى للنشر توقيع إبراهيم نافع. قرأت مقال الوزير، ووجدت أنه يتنافى مع مفهوم الأمن القومى للدولة، وبه مغالطات تحريرية، فذهبت إلى الأستاذ إبراهيم نافع وقلت.. هذا المقال لا يصلح للنشر بالأهرام، وشرحت له الأسباب استمع لى منصتا ثم قال. إذن لا تنشره فأنت المسئول، ولم ينشر فعلا كلام الوزير المهم. لم يكن الأهرام مجرد صحيفة لكنه كان منبرا للتنوير، منذ أن ازدان على يد مؤسسه الحديث محمد حسنين هيكل، بباقة من كبار الأدباء والمفكرين. وحين جاء إبراهيم نافع رئيسا للتحرير، فقد واصل إحاطة هذه الباقة من الزهور بالرعاية، لتفيض بما لديها من إبداع يثرى الصحيفة والوطن بشكل عام. القذافى: العرب لا يستحقون الديمقراطية ولو بعد مائة عام وشهد الأهرام لقاءات مع العديد من الشخصيات، منهم زوار عرب، كالأمير الحسن بن طلال وغيره، لكن يحضرنى الآن مشهد لا يفارق الذاكرة، عن زيارة للقذافى طلبها بنفسه بصحبة صفوت الشريف، بحكم أن القذافى فى زيارة رسمية لمصر. ودعا إبراهيم نافع لحضور اللقاء كلا من: السيد ياسين، ويونان لبيب رزق، وسلامة أحمد سلامة، واللواء المحجوب (ككاتب بالأهرام فى الشأن العسكرى)، وعاطف الغمرى واعتذر أن كنت نسيت أسماء، زملاء آخرين. بدأ اللقاء بشرح من القذافى لأفكاره السياسية، وكلها تعكس وجهة نظره، التى طبقها فى النظام السياسى فى ليبيا، وحين انتهى بدأت مداخلات من كتاب الأهرام وهنا لا أنسى مداخلة السيد ياسين التى أثارت نقاشا كشف عن عمق أو ضحالة وسطحية نظرة القذافي، كنموذج متكرر للحكام الاستبداديين الذين ابتلى بهم عالمنا العربي. فقد بادره السيد ياسين بقوله: اليوم وبعد انهيار الأنظمة الشمولية فى العالم، أصبحت الديمقراطية هى شرعية أى نظام حاكم. وانتظرنا جميعا رد القذافى، رفع رأسه وكان ينظر إلى سقف الغرفة وراح يتكلم متخذا لنفسه هذا الوضع. ونحن لا نستطيع تفسير أى كلمة مما يقول. وبعد أن توقف عن الكلام. طلبنا منه إيضاحا حتى نفهم. فنظر إلى أحد مساعديه وطلب منه أن يرد علينا. وانطلق الرجل فى حديث عن الحكم وعن الشعوب، والديمقراطية إلى أن وصل إلى نقطة لخص بها كل ما يعنيه عن فكر القذافي، وقال: إن الشعوب العربية أمامها مائة عام على الأقل. ومن أغرب ما جاء أيضا على لسان القذافى عدم إيمانه بوجود جيش وطنى للدولة، بالمعايير المعترف بها للجيش المحترف البعيد عن السياسة. بعد نهاية اللقاء وفى الأسبوع التالى كتبت مقالا أرد فيه على كل ما ذكره القذافى من ترهات.. دون ذكر اسمه. وإن كان المعنى يشير إليه صراحة. وكان نشر المقال أيضا تطبيقا لمبدأ التوازن بين ما هو متوقع من الصحيفة رسميا وبين ما ينبغى أن يكون عليه دورها.