تفيض احاديثنا اليومية بعبارات تلصق صفات بعينها ايجابية أو سلبية بجماعة بشرية معينة, وفي حقيقة الأمر فإنه منذ كان للانسان تاريخ ومشكلة شخصية الجماعة تلح علي عقول البشر, لقي سعي الانسان دوما إلي تصنيف سلوك اصدقائه واعدائه علي حد سواء, أو بعبارة اخري إلي التعامل معهم كتجمعات بشرية كبيرة لها خصائصها السلوكية المميزة, وتفيض الكتب والادبيات القديمة بما لاحصر له من الصفات والنعوت السلوكية المنسوبة إلي الجماعات البشرية بمختلف تصنيفاتها, ولايقتصر الأمر علي المادة المكتوبة وحدها, بل ان سلوك البشر جميعا في حياتهم اليومية يزخر بالعديد من هذه الاحكام والتصنيفات حتي اننا لانستطيع ان نتصور انسانا لايمارس مثل هذا النشاط التصنيفي بدرجة أو بأخري في حياته اليومية ايا كانت صفاته العقلية أو العلمية أو الاخلاقية أو الثقافية, وإذا كان البشر جميعا يشتركون بدرجات متفاوتة في اصدار مثل هذه الاحكام, فانهم من ناحية أخري لايختصون بها جماعة دون غيرها ولاتصنيفا معينا للجماعات دون بقية التصنيفات, فلكل جماعة صفاتها السلوكية المميزة لدي افراد غيرها من الجماعات, بل وصفاتها التي تميزها في عيون اعضائها انفسهم ايضا. وتراثنا العربي شأن تراث غيرنا مليء بما لاحصر له من هذه التصنيفات فأبناء كل منطقة جغرافية لهم خصائصهم السلوكية المميزة لدي غيرهم, والأمر بالمثل بالنسبة للجماعات القومية, والمهنية, والعمرية, والطبقية والدينية إلي آخره, فلكل جماعة خصائصها السلوكية المميزة لافرادها في عيون غيرهم, وتلك المميزة لهم من وجهة نظرهم انفسهم. ولايعنينا في هذا المقام التصدي لتبين مدي صدق أو زيف هذه الاوصاف والتصورات, أو مدي مطابقتها لما هو قائم بالفعل, او مدي تأثيرها فيه وتأثرها به يكفي ان نؤكد لتلك التصنيفات صفتين: القدم والشمولية, اي انها قديمة قدم الوعي البشري نفسه, وانها شاملة للبشر جميعا يمارسونها وتمارس حيالهم دون استثناء. وتعني خاصيتا القدم والشمول هاتين ان لعملية التصنيف هذه وظيفة توافقيه معينة, وان هذه الوظيفة لاترتبط بزمان معين ولاتقتصر علي افراد بعينهم, بل انها وظيفة بشرية عامة تكاد تعد جزءا من الطابع البشري اذا ما صح التعبير, تري ماهي طبيعة تلك الوظيفة التوافقية؟ أو بعبارة اخري ما الذي يخدمه سعي البشر الدائب إلي تصنيف سلوك بعضهم البعض؟ ان طبيعة تلك الوظيفة التوافقية انما تتمثل فيما نري في تحقيقها لأمرين: ان تلك التصنيفات بصرف النظر عن مدي صحتها تحقق للفرد قدرا كبيرا من اقتصاد الجهد, بما تقدمه له من اطر عامة جاهزة تكفل له التعامل مع الآخر, بل والتنبؤ بسلوكه دون امعان النظر في خصائصه الفردية وما يتطلبه ذلك من جهد ووقت. ان تلك التصنيفات تسهم لو بشكل زائف في تضييق نطاق المجهلة في تعامل الفرد مع الآخر وذلك بما توفره من معرفة مسبقة بما يمكن ان تكون عليه صورة ذلك الآخر الذي لايعرفه بالفعل خلال تعامله معه, وغني عن البيان ما يمكن ان تثيره صورة الآخر المجهول من قلق, وما يمكن ان يسهم به فض تلك المجهلة من تخفيض لذلك القلق. وبرغم ذلك الولع القديم بتصنيف البشر, فإن تسلل موضوع شخصية الجماعة إلي زمرة الموضوعات التي يمكن اخضاعها للدراسة العلمية في إطار علم النفس السياسي لم يتم إلا مؤخرا, وليس ذلك مدعاة للتعجب, فالأمر يكاد يكون كذلك بالنسبة لفروع المعرفة العلمية جميعا: ان تسبق الممارسة العملية الصياغة النظرية. ان نظرة موضوعية متأنية إلي اية جماعة انسانية بالمعني العلمي لمصطلح الجماعة لابد ان تكشف عن عدد من الخواص. أولا: ان بين افراد تلك الجماعة قدرا لايمكن التغاضي عنه من الاختلاف في جميع نواحي التكوين النفسي بحيث اننا لايمكن ان نجد في اية جماعة انسانية شخصين متماثلين تمام التماثل من حيث التكوين النفسي لكل منهما. ثانيا: ان بين افراد تلك الجماعة قدرا لايمكن التغاضي عنه من التشابه في جميع نواحي التكوين النفسي ايضا, بمعني اننا لابد واجدون قدرا مشتركا بين جميع افراد تلك الجماعة فيما يتصل بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم, وان كان ذلك القدر يتفاوت من جماعة إلي اخري كما يتفاوت ايضا من فرد إلي آخر من بين اعضاء نفس الجماعة. ثالثا: ان تلك الخصائص المتباينة والمتشابهة علي حد سواء نتاج للتنشئة الاجتماعية وحدها, ولاعلاقة لها بجينات وراثية تتوارثها الجماعات البشرية وتورثها لابنائها عبر العصور. تنطبق تلك الحقائق العلمية الثابتة علي البشر جميعا دون استثناء, ولا مجال اذن للقول بتفوق جنس علي آخر ولابدونية جماعة بالنسبة لجماعة أخري, لقد اندثرت نظريات التميز العنصري, واصبحت اسطورة تفوق الجنس الآري النازية في ذمة التاريخ, وليس من مبرر واحد لاستثناء فكرة تميز اليهود من هذا المصير سواء كان تميزا بالسلب أو الايجاب, وسواء قال بذلك عتاة الصهاينة الذين مازالوا يروجون لفكرة اقامة دولة دينية. يهودية أو قال بذلك من تدفعهم وحشية الاحتلال الإسرائيلي إلي منزلق استخدام الرطانة المعادية للسامية متصورين بذلك انهم يعبرون عن شدة عدائهم لذلك الاحتلال غافلين انهم ينطلقون من نفس الارضية الفكرية التي تصب في النهاية في مصلحة ترسيخ ذلك الاحتلال, وتوفير حجج اضافية لتوجهاته العنصرية.