فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى بدأت بعثتى للدراسة فى الخارج، وكان من حسن حظى أن كان أول مشرف على دراستى أستاذا انجليزيا حكيما، لاحظ منذ أول لقاء بى (وكنت فى الثالثة والعشرين من عمري) افتتانى الشديد بالفكر الماركسي، وكان هو يعتنق أفكارا مضادة تماما لهذا الفكر، فنصحنى بأن أقرأ كتابا شهيرا أو على الأقل كان شهيرا وقتها - كتبه أستاذ نمساوى هو كارل بوبر واسم الكتاب : «المجتمع المفتوح وأعداؤه» وسمعت أن كثيرا من الأساتذة الانجليز كانوا ينصحون تلاميذهم الجدد بقراءة هذا الكتاب بمجرد أن يلتحقوا بالجامعة. كان الكتاب يتخذ موقفا مضادا تماما لأى موقف أيديولوجى أى لأى موقف يتبنى نظرة عامة للحياة والتاريخ، يفسر بها كل شيء ويرفض كل ما يمكن أن يتعارض معها. كان الموقف الايديولوجى شائعا فى ذلك الوقت، ويدور فى الغالب حول تبنى الفلسفة الماركسية أو رفضها، وكان هذا الخلاف محتدما بسبب احتدام الصراع بين الكتلتين الشرقيةوالغربية،الشرقية تدين بالماركسية، والغربية ترفضها. بعد عقد من الزمان أى فى أواخر الستينيات بدا وكأن الموقف الأيديولوجى أخذ فى الانحسار: فالذين يدينون بالماركسية أخذوا يكتشفون شيئا فشيئا الأخطار الجسيمة التى ارتكبها ستالين، فى الاتحاد السوفيتى تحت شعار الماركسية والذين يرفضونها فى الغرب بدأوا يطبقون بعض الأفكار الماركسية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية. فى أواخر الستينيات أيضا قامت فى كثير من الدول الغربية حركة عرفت بثورة الشباب، معلنة رفضها المجتمع الاستهلاكي. لكن المدهش أن هذا الإعلان من جانب الشباب برفض المجتمع الاستهلاكى اقترن ببداية المجتمع الاستهلاكى نفسه، حتى ليحار المرء فيما إذا كانت ثورة الشباب فى ذلك الوقت إعلانا برفض المجتمع الاستهلاكى أو بتدشينه. ما ان حلت السبعينيات حتى كانت ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات قد بدأت تستلفت النظر بشدة، وبدا أثرها واضحا فى تقوية النزعة الاستهلاكية التى استمرت تنمو دون انقطاع منذ ذلك الوقت. اقترن تفكك الاتحاد السوفيتى إلى عدة دول فى أواخر الثمانينيات ثم سقوط دولة الاتحاد السوفيتى نفسها فى 1989 بظهور كتاب شهير يحمل اسم «نهاية التاريخ» لفوكوياما، وقد فهم الكثيرون هذا الكتاب على أنه يعلن انتصار النظام أو الفكر الرأسمالى على النظام أو الفكر الشيوعى أو الاشتراكي، لكن من الممكن ايضا فهمه على أنه يعلن انتهاء عصر الأيديولوجيات إذ بدأ كل من النظامين يقتبس من الآخر، وبدأ يتخلى عن انتمائه لعقيدة وفلسفة عامة فى الحياة وتفسير التاريخ، وكأن المطلوب الآن هو فقط القيام بالعمل المناسب فى الوقت المناسب، دون الزعم بالانتساب إلى نظرة عامة للكون. يبدو أننا مازلنا نعيش فى هذا العصر: عصر نهاية الأيديولوجيات. أصبح من يعلن تبنيه موقفاً أيديولوجياً، أيا كان هذا الموقف، ينظر إليه نظرة شك وحذر، إذ أصبح المستحسن الآن هو ما سماه كارل بوبر (piecemial Engineering) أو ما يمكن ترجمته بعبارة (الهندسة الجزئية)، أى اتخاذ مواقف جزئية لا تستند إلى نظرة أو فلسفة عامة فى الحياة، بل تناسب الظروف الواقعية السائدة فى مكان معين ووقت معين. لاشك أن ظاهرة العولمة أى ازدياد درجة التشابك والتفاعل بين الأمم، قد ساعدت على نمو النزعة الاستهلاكية وانتشارها فى مختلف الدول، كما ساعدت على اضعاف التمسك من جانب أى أمة أو أى طائفة فى داخل أى أمة، بفلسفة أو نظرة للحياة تتعارض مع نظرة الأمم الأخري، ولاشك أيضا أن هذا الموقف الرافض للايديولوجية أكثر فائدة فى الواقع وأقرب إلى التفكير العلمى من الموقف الايديولوجي. لكن هل هذا هو كل ما فى الأمر؟ ألا ينطوى التخلى عن التمسك بأى أيديولوجية على بعض الخسارة؟ لابد أن نعترف بأن تبنى موقف عام ومتسق من الحياة يضفى على السلوك الإنسانى ُبعداً اخلاقياً، أى أنه يقترن بالشعور بنوع من الالتزام الخلقي، ومن ثم فإن التخلى عن الموقف الأيديولوجى ينطوى فى الوقت نفسه على تخٍّل عن هذا الالتزام. فهل يجوز القول إذن بأن الضعف الذى أصاب الموقف الأيديولوجى يقترن أيضا بضعف الشعور بالمسئولية الاخلاقية؟ بل قد يكون هذا الضعف الاخلاقى هو أحد أسباب هجران الموقف الايديولوجي. يؤيد هذا التفسير أن انتشار النزعة الاستهلاكية، وانتشار ظاهرة العولمة يقترن كل منهما بضعف الالتزام الخلقى نحو المجتمع، حيث لا يهتم المرء إلا بزيادة استهلاكه بصرف النظر عما يتضمنه هذا من أثر على حالة المجتمع ككل. نعم، لقد أدى تخلينا عن الموقف الايديولوجى إلى ابتعادنا عن التعصب أو التصلب الفكرى لكنه قد يعنى أيضا الابتعاد عن الالتزام الاخلاقي. ألم يك الفيلسوف الانجليزى برتراند راسل على حق إذن عندما قال: «إن العقل المنفتح على الدوام هو أيضا عقل فارغ على الدوام»؟ لمزيد من مقالات د. جلال أمين;